فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (34):

{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}
{فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} فأجاب الله دعاءه الذي تضمنه قوله: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ} {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان. {إِنَّهُ هُوَ السميع} لدعاء الملتجئين إليه. {العليم} بأحوالهم وما يصلحهم.

.تفسير الآية رقم (35):

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات} ثم ظهر للعزيز وأهله من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف كشهادة الصبي وقد القميص وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن وفاعل {بَدَا} مضمر يفسره. {لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ} وذلك لأنها خدعت زوجها وحملته على سجنه زماناً حتى تبصر ما يكون منه، أو يحسب الناس أنه المجرم فلبث في السجن سبع سنين. وقرئ بالتاء على أن بعضهم خاطب به العزيز على التعظيم أو العزيز ومن يليه، وعتى بلغة هذيل.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
{وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ} أي أدخل يوسف السجن واتفق أنه أدخل حينئذ آخران من عبيد الملك شرابيه وخبازه للاتهام بأنهما يريدان أن يسماه. {قَالَ أَحَدُهُمَا} يعني الشرابي. {إِنّى أَرَانِى} أي في المنام وهي حكاية حال ماضية. {أَعْصِرُ خَمْرًا} أي عنباً وسماه خمراً باعتبارِ ما يؤول إليه. {وَقَالَ الآخر} أي الخباز. {إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطير مِنْهُ} تنهش منه. {نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، أو من العالمين وإنما قالا ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم، أو من المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.

.تفسير الآية رقم (37):

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)}
{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} أي بتأويل ما قصصتما علي، أو بتأويل الطعام يعني بيان ماهيته وكيفيته فإنه يشبه تفسير المشكل، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الطريق القويم قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه كما هو طريقة الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد، فقدم ما يكون معجزة له من الإِخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير. {قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذلكما} أي ذلك التأويل. {مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} بالإلهام والوحي وليس من قبيل التكهن أو التنجيم. {إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} تعليل لما قبله أي علمني ذلك لأني تركت ملة أولئك.

.تفسير الآية رقم (38):

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)}
{واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ} أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق عليه، ولذلك جوز للخامل أن يصف نفسه حتى يعرف فيقتبس منه، وتكرير الضمير للدلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالآخرة. {مَا كَانَ لَنَا} ما صح لنا معشر الأنبياء. {أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَئ} أي شيء كان. {ذلك} أي التوحيد. {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا} بالوحي. {وَعَلَى الناس} وعلى سائر الناس يبعثنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه. {ولكن أَكْثَرَ الناس} المبعوث إليهم. {لاَ يَشْكُرُونَ} هذا الفضل فيعرضون عنه ولا يتنبهون، أو من فضل الله علينا وعليهم بنصب الدلائل وإنزال الآيات ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ولا يستدلون بها فيلغونها كمن يكفر النعمة ولا يشكرها.

.تفسير الآية رقم (39):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)}
{ياصاحبى السجن} أي يا ساكنيه، أو يا صاحبي فيه فأضافهما إليه على الاتساع كقوله:
يَا سَارِقَ اللْيلَةَ أَهْلَ الدَّارِ

{أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ} شتى متعددة متساوية الأقدام. {خَيْرٌ أَمِ الله الواحد} المتوحد بالألوهية. {القهار} الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره.

.تفسير الآية رقم (40):

{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر. {إِلآَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي إلا أشياء باعتبار أسام أطلقتم عليها من غير حجة تدل على تحقق مسمياتها فيها فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة. والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة، ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها. {إِنِ الحكم} ما الحكم في أمر العبادة. {إلا لِلَّهِ} لأنه المستحق لها بالذات من حيث إنه الواجب لذاته الموجد للكل والمالك لأمره. {أَمرَ} على لسان أنبيائه. {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} الذي دلت عليه الحجج. {ذلك الدين القيم} الحق وأنتم لا تميزون المعوج عن القويم، وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة، بين لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الالهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير وكلا القسمين منتف عنها، ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} فيخبطون في جهالاتهم.

.تفسير الآية رقم (41):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)}
{ياصاحبى السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا} يعني الشرابي. {فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا} كما كان يسقيه قبل ويعود إلى ما كان عليه. {وَأَمَّا الأخر} يريد به الخباز. {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ} فقالا كذبنا فقال: {قُضِىَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي قطع الأمر الذي تستفتيان فيه، وهو ما يؤول إليه أمركما ولذلك وحده، فإنهما وإن استفتيا في أمرين لكنهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل بهما.

.تفسير الآية رقم (42):

{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}
{وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا} الظان يوسف إن ذكر ذلك عن اجتهاد وإن ذكره عن وحي فهو الناجي إلا أن يؤول الظن باليقين. {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} اذكر حالي عند الملك كي يخلصني. {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبّهِ} فأنسى الشرابي أن يذكره لربه، فأضاف إليه المصدر لملابسته له أو على تقدير ذكر أخبار ربه، أو أنسي يوسف ذكر الله حتى استعان بغيره، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} لما لبث في السجن سبعاً بعد الخمس» والاستعانة بالعباد في كشف الشدائد وإن كانت محمودة في الجملة لكنها لا تليق بمنصب الأنبياء. {فَلَبِثَ في السجن بِضْعَ سِنِينَ} البضع ما بين الثلاث إلى التسع من البضع وهو القطع.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)}
{وَقَالَ الملك إِنّى أرى سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} لما دنا فَرَجه رأى الملك سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات مهازيل فابتلعت المهازيل السمان. {وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ} قد انعقد حبها. {وَأُخَرَ يابسات} وسبعاً أخر يابسات قد أدركت فالْتَوَتِ اليابسات على الخضر حتى غلبت عليها، وإنما استغنى عن بيان حالها بما قص من حال البقرات، وأجرى السمان على المميز دون المميز لأن التمييز بها ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التمييز بها مجرداً عن الموصوف فإنه لبيان الجنس، وقياسه عجف لأنه جمع عجفاء لكنه حمل على {سِمَانٍ} لأنه نقيضه. {يأَيُّهَا الملأ أَفْتُونِى في رؤياى} عبروها. {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا وهي الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور وهي المجاوزة، وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها تعبيراً واللام للبيان أو لتقوية العامل فإن الفعل لما أخر عن مفعوله ضعف فقوي باللام كاسم الفاعل، أو لتضمن {تَعْبُرُونَ} معنى فعل يعدى باللام كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا.

.تفسير الآية رقم (44):

{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)}
{قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ} أي هذه أضغاث أحلام وهي تخاليطها جمع ضغث وأصله ما جمع من أخلاط النبات وحزم فاستعير للرؤيا الكاذبة، وإنما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان كقولهم: فلان يركب الخيل، أو لتضمنه أشياء مختلفة. {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بعالمين} يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة أي ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة فهو كأنه مقدمة ثانية للعذر في جهلهم بتأويله.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)}
{وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا} من صاحبي السجن وهو الشرابي. {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة أي مدة طويلة. وقرئ: {إمة} بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعدما أنعم عليه بالنجاة، وأمه أي نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي، والجملة اعتراض ومقول القول. {أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} أي إلى من عنده علمه أو إلى السجن.

.تفسير الآية رقم (46):

{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)}
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} أي فأرسل إلى يوسف فجاءه فقال يا يوسف، وإنما وصفه بالصديق وهو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه. {أَفْتِنَا في سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات} أي في رؤيا ذلك. {لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس} أعود إلى الملك ومن عنده، أو إلى أهل البلد إذا قيل إن السجن لم يكن فيه. {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} تأويلها أو فضلك ومكانك، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازماً بالرجوع فربما اخترم دونه ولا يعلمهم.

.تفسير الآية رقم (47):

{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)}
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} أي على عادتكم المستمرة وانتصابه على الحال بمعنى دائبين، أو المصدر بإضمار فعله أي تدأبون دأباً وتكون الجملة حالاً. وقرأ حفص {دَأَبًا} بفتح الهمزة وكلاهما مصدر دأب في العمل. وقيل: {تَزْرَعُونَ} أمر أخرجه في صورة الخبر مبالغة لقوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ في سُنبُلِهِ} لئلا يأكله السوس، وهو على الأول نصيحة خارجة عن العبارة. {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ} في تلك السنين.

.تفسير الآيات (48- 54):

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}
{ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن فأسند إليهن على المجاز تطبيقاً بين المعبر والمعبر به. {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ} تحرزون لبذور الزراعة.
{ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس} يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث. {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار. وقيل يحلبون الضروع. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي، وقرئ على بناء المفعول من عصره إذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضاً، أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر. وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب، أو بأن السنة الإِلهية على أن يوسع على عباده بعدما ضيق عليهم: {وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ} بعد ما جاءه الرسول بالتعبير {فَلَمَّا جَاءهُ الرسول} ليخرجه. {قَالَ ارجع إلى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة الاتى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} إنما تأنى في الخروج وقدم سؤال النسوة وفحص حالهن لتظهر براءة ساحته ويعلم أنه سجن ظلماً فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإِجابة» وإنما قال فاسأله ما بال النسوة ولم يقل فاسأله أن يفتش عن حالهن تهييجاً له على البحث وتحقيق الحال، وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرماً ومراعاة للأدب وقرئ: {النسوة} بضم النون. {إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} حين قلن لي أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم الله عليه وعلى أنه بريء مما قذف به والوعيد لهن على كيدهن.
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} قال الملك لهن ما شأنكن والخطب أمر يحق أن يخاطب فيه صاحبه. {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيه له وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} من ذنب. {قَالَتِ امرأة العزيز الئن حَصْحَصَ الحق} ثبت واستقر من حصحص البعير إذا ألقى مباركهُ ليناخ قال:
فَحَصْحَصَ فِي صُمَ الصفَا ثَفَنَاتِه ** وَنَاءَ بِسَلْمَى نَوأَة ثُمَّ صَمَّمَا

أو ظهر من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه. وقرئ على البناء للمفعول.
{أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} في قولهِ: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} {ذلك لِيَعْلَمَ} قاله يوسف لما عاد إليه الرسول وأخبره بكلامهن أي ذلك التثبت ليعلم العزيز. {أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو المفعول أي لم أخنه وأنا غائب عنه، أو وهو غائب عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة. {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين} لا ينفذه ولا يسدده، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم فأوقع الفعل على الكيد مبالغة. وفيه تعريض براعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته ولذلك عقبه بقوله: {وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِى} أي لا أنزهها تنبيهاً على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه والعجب بحاله، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتوفيق. وعن ابن عباس أنه لما قال: {لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} قال له جبريل ولا حين هممت فقال: ذلك. {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} من حيث إنها بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهم بها، وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات. {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} إلا وقت رحمة ربي، أو إلا ما رحمه الله من النفوس فعصمه من ذلك. وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإِساءة. وقيل الآية حكاية قول راعيل والمستثنى نفس يوسف وأضرابه. وعن ابن كثير ونافع {بالسّو} على قلب الهمزة واواً ثم الادغام. {إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر هَمَّ النفس ويرحم من يشاء بالعصمة أو يغفر للمستغفر لذنبه المعترف على نفسه ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه.
{وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} أجعله خالصاً لنفسي. {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أي فلما أتوا به فكلمه وشاهد منه الرشد والدهاء. {قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ} ذو مكانة ومنزلة. {أَمِينٌ} مؤتمن على كل شيء. روي أنه لما خرج من السجن اغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرية فقال الملك: ما هذا اللسان قال: لسان آبائي، وكان الملك يعرف سبعين لساناً فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه فقال: أحب أن أسمع رؤياي منك، فحكاها ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوض إليه أمره. وقيل توفي قطفير في تلك الليالي فنصبه منصبه وزوج منه راعيل فوجدها عذراء وولد له منها أفرائيم وميشا.