فصل: تفسير الآية رقم (56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (56):

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)}
{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} للمؤمنين والكافرين. {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل} باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات، والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتاً. {لِيُدْحِضُواْ بِهِ} ليزيلوا بالجدال. {الحق} عن مقره ويبطلوه، من إدحاض القدم وهو إزلاقها وذلك قولهم للرسل {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} {وَلَوْ شَاء الله لأَنزَلَ ملائكة} ونحو ذلك. {واتخذوا ءاياتى} يعني القرآن. {وَمَا أُنْذِرُواْ} وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب. {هُزُواً} استهزاء. وقرئ: {هزأ} بالسكون وهو ما يستهزأ به على التقديرين.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ} بالقرآن. {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} فلم يتدبرها ولم يتذكر بها. {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من الكفر والمعاصي ولم يتفكر في عاقبتهما. {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} تعليل لإِعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم. {أَن يَفْقَهُوهُ} كراهة أن يفقهوه، وتذكير الضمير وإفراده للمعنى. {وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً} يمنعهم أن يستمعوه حق استماعه. {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً} تحقيقاً ولا تقليداً لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون وإذا كما عرفت جزاء وجواب للرسول صلى الله عليه وسلم على تقدير قوله ما لي لا أدعوهم، فإن حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلامهم يدل عليه.

.تفسير الآيات (58- 66):

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)}
{وَرَبُّكَ الغفور} البليغ المغفرة. {ذُو الرحمة} الموصوف بالرحمة. {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} استشهاد على ذلك بإمهال قريش مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} وهو يوم بدر أو يوم القيامة. {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} منجاً ولا ملجأ، يقال وأل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه.
{وَتِلْكَ القرى} يعني قرى عاد وثمود وأضرابهم، {وَتِلْكَ} مبتدأ خبره. {أهلكناهم} أو مفعول مضمر مفسر به، و{القرى} صفته ولابد من تقدير مضاف في أحدهما ليكون مرجع الضمائر. {لَمَّا ظَلَمُواْ} كقريش بالتكذيب والمراء وأنواع المعاصي. {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} لإِهلاكهم وقتاً لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فليعتبروا بهم ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم، وقرأ أبو بكر {لِمَهْلِكِهِم} بفتح الميم واللام أي لهلاكهم، وحفص بكسر اللام حملاً على ما شذ من مصادر يفعل كالمرجع والمحيض.
{وَإِذْ قَالَ موسى} مقدر باذكر. {لفتاه} يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام فإنه كان يخدمه ويتبعه ولذلك سماه فتاه وقيل لعبده. {لا أَبْرَحُ} أي لا أزال أسير فحذف الخبر لدلالة حاله وهو السفر وقوله: {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} من حيث إنها تستدعي ذا غاية عليه، ويجوز أن يكون أصله لا يبرح مسيري حتى أبلغ على أن حتى أبلغ هو الخبر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فانقلب الضمير والفعل وأن يكون {لا أَبْرَحُ} هو بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه فلا يستدعي الخبر، و{مَجْمَعَ البحرين} ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وُعِدَ لقاء الخضر فيه. وقيل البحران موسى وخضر عليهما الصلاة والسلام فإن موسى كان بحر علم الظاهر والخضر كان بحر علم الباطن. وقرئ: {مِجْمَعَ} بكسر الميم على الشذوذ من يفعل كالمشرق والمطلع {أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً} أو أسير زماناً طويلاً، والمعنى حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضي الحقب أو حتى أبلغ إلا أن أمضي زماناً أتيقن معه فوات المجمع، والحقب الدهر وقيل ثمانون سنة وقيل سبعون. روي: أن موسى عليه الصلاة والسلام خطب الناس بعد هلاك القبط ودخوله مصر خطبة بليغة فأعجب بها فقيل له: هل تعلم أحداً أعلم منك فقال: لا، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبدنا الخضر وهو بمجمع البحرين، وكان الخضر في أيام افريدون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى. وقيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أي عبادك أحب إليك قال الذي يذكرني ولا ينساني، قال فأي عبادك أقضى، قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى، فقال إن كان في عبادك أعلم مني فادللني عليه، قال أعلم منك الخضر قال: أين أطلبه، قال على الساحل عند الصخرة، قال كيف لي به قال تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك، فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان.
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} أي مجمع البحرين و{بَيْنَهُمَا} ظرف أضيف إليه على الاتساع أو بمعنى الوصل. {نَسِيَا حُوتَهُمَا} نسي موسى عليه الصلاة والسلام أن يطلبه ويتعرف حاله، ويوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر. روي: أن موسى عليه السلام رقد فاضطرب الحوت المشوي ووثب في البحر معجزة لموسى أو الخضر. وقيل توضأ يوشع من عين الحياة فانتضح الماء عليه فعاش ووثب في الماء. وقيل نسيا تفقد أمره وما يكون منه أمارة على الظفر بالمطلوب {فاتخذ سَبِيلَهُ في البحر سَرَباً} فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكاً من قوله: {وَسَارِبٌ بالنهار} وقيل أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه، ونصبه على المفعول الثاني وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ.
{فَلَمَّا جَاوَزَا} مجمع البحرين. {قَالَ لفتاه ءاتِنَا غَدَاءنَا} ما نتغذى به. {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً} قيل لم ينصب حتى جاوز الموعد فلما جاوزه وسار الليلة والغد إلى الظهر ألقي عليه الجوع والنصب. وقيل لم يعي موسى في سفر غيره ويؤيده التقييد باسم الإِشارة.
{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا} أرأيت ما دهاني إذ أوينا. {إِلَى الصخرة} يعني الصخرة التي رقد عندها موسى. وقيل هي الصخرة التي دون نهر الزيت. {فَإِنّى نَسِيتُ الحوت} فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت منه. {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن {أَنْ أَذْكُرَهُ} بدل من الضمير، وقرئ: {أن أذكركه}. وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه، والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما ضرى بمشاهدة أمثالها عند موسى وألفها قل اهتمامه بها، ولعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى الشيطان هضماً لنفسه أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الآخر يعد من نقصان. {واتخذ سَبِيلَهُ في البحر عَجَبًا} سبيلاً عجباً وهو كونه كالسرب أو اتخاذ عجباً، والمفعول الثاني هو الظرف وقيل هو مصدر فعله المضمر أي قال في آخر كلامه، أو موسى في جوابه عجباً تعجباً من تلك الحال. وقيل الفعل لموسى أي اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجباً.
{قَالَ ذَلِكَ} أي أمر الحوت. {مَا كُنَّا نَبْغِ} نطلب لأنه أمارة المطلوب. {فارتدا على ءاثَارِهِمَا} فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه. {قَصَصًا} يقصان قصصاً أي يتبعان آثارهما اتباعاً، أو مقتصين حتى أتيا الصخرة.
{فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا} الجمهور على أنه الخضر عليه السلام واسمه بليا بن ملكان. وقيل اليسع. وقيل إلياس. {ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} هي الوحي والنبوة. {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} مما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيوب.
{قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ} على شرط أن تعلمني، وهو في موضع الحال من الكاف. {مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً} علماً ذا رشد وهو إصابة الخير، وقرأ البصريان بفتحتين وهما لغتان كالبخل والبخل، وهو مفعول {تُعَلّمني} ومفعول {عَلِمَتِ} العائد المحذوف وكلاهما منقولان من علم الذي له مفعول واحد، ويجوز أن يكون رشداً علة لأتبعك أو مصدراً بإضمار فعله، ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطاً في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقاً، وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعاً له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه.

.تفسير الآية رقم (67):

{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)}
{قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم وعلل ذلك واعتذر عنه بقوله.

.تفسير الآية رقم (68):

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)}
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} أي وكيف تصبر وأنت نبي على ما أتولى من أمور ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك، وخبراً تمييز أو مصدر لأَن لم تحط به بمعنى لم تخبره.

.تفسير الآية رقم (69):

{قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)}
{قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا} معك غير منكر عليك. {وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً} عطف على صابراً أي ستجدني صابراً وغير عاص، أو على ستجدني. وتعليق الوعد بالمشيئة إما للتيمن وخلفه ناسياً لا يقدح في عصمته أو لعلمه بصعوبة الْامر، فإن مشاهدة الفساد والصبر على خلاف المعتاد شديد فلا خلف، وفيه دليل على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (70):

{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)}
{قَالَ فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَئ} فلا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني ولم تعلم وجه صحته. {حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} حتى أبتدئك ببيانه، وقرأ نافع وابن عامر {فَلاَ تَسْأَلْنِّي} بالنون الثقيلة.

.تفسير الآية رقم (71):

{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)}
{فانطلقا} على الساحل يطلبان السفينة، {حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السفينة خَرَقَهَا} أخذ الخضر فأساً فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها. {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها. وقرئ: {لِتُغَرِّقْ} بالتشديد للتكثير. وقرأ حمزة والكسائي {ليغرق أهلها} على إسناده إلى الأهل. {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أتيت أمراً عظيماً من أمر الأمر إذا عظم.

.تفسير الآية رقم (72):

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)}
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} تذكير لما ذكره قبل.

.تفسير الآيات (73- 82):

{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}
{قَالَ لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ} بالذي نسيته أو بشيء نسيته، يعني وصيته بأن لا يعترض عليه أو بنسياني إياها، وهو اعتذار بالنسيان أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها. وقيل أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة. وقيل إنه من معاريض الكلام والمراد شيء آخر نسيه. {وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً} ولا تغشني عسراً من أمري بالمضايقة والمؤاخذة على المنسي، فإن ذلك يعسر على متابعتك و{عُسْراً} مفعول ثان لترهق فانه يقال: رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه، وقرئ: {عُسُراً} بضمتين.
{فانطلقا} أي بعد ما خرجا من السفينة. {حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} قيل فتل عنقه، وقيل ضرب برأسه الحائط، وقيل أضجعه فذبحه والفاء للدلالة على أنه كما لقيه قتله من غير ترو واستكشاف حال ولذلك: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي طاهرة من الذنوب، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ورويس عن يعقوب {زاكية} والأول أبلغ، وقال أبو عمرو الزاكية التي لم تذنب قط والزكية التي أذنبت ثم غفرت، ولعله اختار الأول لذلك فإنها كانت صغيرة ولم تبلغ الحلم أو أنه لم يرها قد أذنبت ذنباً يقتضي قتلها، أو قتلت نفساً فتقاد بها، نبه به على أن القتل إنما يباح حداً أو قصاصاً وكلا الأمرين منتف، ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء، واعتراض موسى عليه الصلاة والسلام مستأنفاً في الأولى وفي الثانية قتله من جملة الشرط واعتراضه جزاء، لأن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديراً بأن يجعل عمدة الكلام ولذلك فصله بقوله: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} أي منكراً، وقرأ نافع في رواية قالون وورش وابن عامر ويعقوب وأبو بكر {نُّكْراً} بضمتين.
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} زاد فيه {لَكَ} مكافحة بالعتاب على رفض الوصية، ووسماً بقلة الثبات والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير أول مرة حتى زاد في الاستنكار ثاني مرة.
{قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَئ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى} وإن سألت صحبتك، وعن يعقوب {فلا تصحبني} أي فلا تجعلني صاحبك. {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً} قد وجدت عذراً من قبلي لما خالفتك ثلاث مرات. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» وقرأ نافع {مِن لَّدُنّي} بتحريك النون والاكتفاء بها عن نون الدعامة كقوله:
قِدْنِي مِنْ نَصْرِ الحَبِيبَينِ قُدى

وأبو بكر {لَّدُنّى} بتحريك النون وإسكان الضاد من عضد.
{فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} أنطاكية وقيل أبلة البصرة.
وقيل باجروان أرمينية. {استطعما أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا} وقرئ: {يُضَيّفُوهُمَا} من أضافه يقال ضافه إذا نزل به ضيفاً وأضافه وضيفه أنزله، وأصل التركيب للميل يقال ضاف السهم عن الغرض إذا مال. {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} يداني أن يسقط فاستعيرت الإِرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم قال:
يُرِيدُ الرُّمْح صَدْرَ أَبِي بَرَاء ** وَيَعْدِلُ عَنْ دِمَاءِ بَني عَقِيلِ

وقال:
إِنَّ دَهْراً يَلُمُّ شَمْلي بجمل ** لزمانٌ يَهُمُّ بِالإِحْسَانِ

وانقض انفعل من قضضته إذا كسرته، ومنه انقضاض الطير والكواكب لهويه، أو أفعل من النقض. وقرئ: {أَن يَنقَض} و{أن ينقاص} بالصاد المهملة من انقاصت السن إذا انشقت طولاً. {فَأَقَامَهُ} بعمارته أو بعمود عمده به، وقيل مسحه بيده فقام. وقيل نقضه وبناه. {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} تحريضاً على أخذ الجعل لينتعشا به، أو تعريضاً بأنه فضول لما في {لَوْ} من النفي كأنه لما رأى الحرمان ومساس الحاجة واشتغاله بما لا يعنيه لم يتمالك نفسه، واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين، وقرأ ابن كثير والبصريان {لتخذت} أي لأخذت وأظهر ابن كثير ويعقوب وحفص الدال وأدغمه الباقون.
{قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} الإِشارة إلى الفراق الموعود بقوله: {فَلاَ تُصَاحِبْنِى} أو إلى الاعتراض الثالث، أو الوقت أي هذا الاعتراض سبب فراقنا أو هذا الوقت وقته، وإضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع، وقد قرئ على الأصل. {سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} بالخبر الباطن فيما لم تستطع الصبر عليه لكونه منكراً من حيث الظاهر.
{أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين يَعْمَلُونَ في البحر} لمحاويج، وهو دليل على أن المسكين يطلق على من يملك شيئاً إذا لم يكفه. وقيل سموا مساكين لعجزهم عن دفع الملك أو لزمانتهم فإنها كانت لعشرة إخوة خمسة زمني وخمسة يعملون في البحر. {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} أن أجعلها ذات عيب. {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ} قدامهم أو خلفهم وكان رجوعهم عليه، واسمه جلندى بن كركر، وقيل منوار بن جلندي الأزدي. {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} من أصحابها. وكان حق النظم أن يتأخر قوله: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} عن قوله: {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ} لأن إرادة التعيب مسببة عن خوف الغصب وإنما قدم للعناية أو لأن السبب لما كان مجموع الأمرين خوف الغصب ومسكنة الملاك رتبه على أقوى الجزأين وأدعاهما وعقبه بالآخر على سبيل التقييد والتتميم، وقرئ: {كل سفينة صالحة} والمعنى عليها.
{وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا} أن يغشيهما. {طغيانا وَكُفْراً} لنعمتهما بعقوقه فيلحقهما شراً، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره يجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، أو يعديهما بعليه فيرتدا بإضلاله، أو بممالأته على طغيانه وكفره حياله وإنما خشي ذلك لأن الله تعالى أعلمه.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان، فكتب إليه إن كنت علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل. وقرئ: {فخاف ربك} أي فكره كراهة من خاف سوء عاقبته، ويجوز أن يكون قوله: {فَخَشِينَا} حكاية قول الله عز وجل.
{فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ} أن يرزقهما ولداً خيراً منه. {زكواة} طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة. {وَأَقْرَبَ رُحْماً} رحمة وعطفاً على والديه. قيل ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت له نبياً هدى الله به أمة من الأمم، وقرأ نافع وأبو عمرو {يُبْدِّلَهُمَا} بالتشديد وابن عامر ويعقوب وعاصم {رحماً} بالتخفيف، وانتصابه على التمييز والعامل اسم التفضيل وكذلك {زكواة}.
{وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ في المدينة} قيل اسمهما أصرم وصريم، واسم المقتول جيسور. {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} من ذهب وفضة، روي ذلك مرفوعاً والذم على كنزهما في قوله تعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} لمن لا يؤدي زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق. وقيل من كتب العلم. وقيل كان لوح من ذهب مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. {وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا} تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه. قيل كان بينهما وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء وكان سياحاً واسمه كاشح. {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} أي الحلم وكمال الرأي. {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} مرحومين من ربك، ويجوز أن يكون علة أو مصدراً لأراد فإن إرادة الخير رحمة. وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك، ولعل إسناد الإِرادة أولاً إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب وثانياً إلى الله وإلى نفسه لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله، وثالثاً إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين. أو لأن الأول في نفسه شر، والثالث خير، والثاني ممتزج. أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسائط. {وَمَا فَعَلْتُهُ} وما فعلت ما رأيته. {عَنْ أَمْرِي} عن رأيي وإنما فعلته بأمر الله عز وجل، ومبني ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما، وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفاً.
ومن فوائد هذة القصة أن لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه، فلعل فيه سراً لا يعرفه، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم، ويراعي الأدب في المقابل وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه.