فصل: تفسير الآيات (36- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (36- 50):

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)}
{فِي بُيُوتٍ} متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت، أو توقد في بيوت فيكون تقييد للممثل به بما يكون تحبيراً ومبالغة فيه فإن قناديل المساجد تكون أعظم، أو تمثيلاً لصلاة المؤمنين أو أبدانهم بالمساجد، ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة أو بما بعده وهو يسبح، وفيها تكرير مؤكد لا بيذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله أو بمحذوف مثل سبحوا في بيوت، والمراد بها المساجد لأن الصفة تلائمها. وقيل المساجد الثلاثة والتنكير للتعظيم. {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} بالبناء أو التعظيم. {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه. {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} ينزهونه أي يصلون له فيها بالغدوات والعشيات، والغدو مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل، وقرئ: {والايصال} وهو الدخول في الأصيل وقرأ ابن عامر وأبو بكر {يسبح} بالفتح على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ورفع رجال بما يدل عليه، وقرئ تسبح بالتاء مكسوراً لتأنيث الجمع ومفتوحاً على إسناده إلى أوقات الغدو.
{رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة} لا تشغلهم معاملة رابحة. {وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار. {وَإِقَامِ الصلاة} عوض فيه الإِضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإِعلال كقوله:
وَأَخْلَفُوكَ عد الأَمرِ الَّذِي وَعَدُوا

{وَإِيتَاء الزكواة} ما يجب إخراجه من المال للمستحقين. {يخافون يَوْماً} مع ما هم عليه من الذكر والطاعة. {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} تضطرب وتتغير من الهول، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصره، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتبهم.
{لِيَجْزِيَهُمُ الله} متعلق بيسبح أو لا تلهيهم أو يخافون. {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنة. {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم ولم تخطر ببالهم. {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإِحسان.
{والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} والذين كفروا حالهم على ضد ذلك فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب، وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري، والقيعة بمعنى القاع وهو الأرض الخالية عن النبات وغيره المستوية، وقيل جمعه كجار وجيرة وقرئ: {بقيعات} كديمات في ديمة.
{يَحْسَبُهُ الظمآن مَاءً} أي العطشان وتخصيصه لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة. {حتى إِذَا جَاءَهُ} جاء ما توهمه ماء أو موضعه. {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} مما ظنه. {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} عقابه أو زبانيته أو وجده محاسباً إياه. {فوفاه حِسَابَهُ} استعراضاً أو مجازاة. {والله سَرِيعُ الحساب} لا يشغله حساب عن حساب. روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية تعبد في الجاهلية والتمس الدين فلما جاء الإِسلام كفر.
{أَوْ كظلمات} عطف على {كَسَرَابٍ} و{أَوْ} للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة. {فِي بَحْرٍ لُّجّيّ} ذي لج أي عميق منسوب إلى اللج وهو معظم الماء. {يغشاه} يغشى البحر. {مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي أمواج مترادفة متراكمة. {مّن فَوْقِهِ} من فوق الموج الثاني. {سَحَابٌ} غطى النجوم وحجب أنوارها، والجملة صفة أخرى لل {بَحْرٍ}. {ظلمات} أي هذه ظلمات. {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} وقرأ ابن كثير {ظلمات} بالجر على إبدالها من الأولى أو بإضافة ال {سَحَابٌ} إليها في رواية البزي. {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} وهي أقرب ما يرى إليه. {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لم يقرب أن يراها فضلاً أن يراها كقول ذي الرمة:
إِذَا غَيَّرَ النَّأَي المُحِبِّينَ لَمْ يَكد ** رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

والضمائر للواقع في البحر وإن لم يجر ذكره لدلالة المعنى عليه. {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً} ومن لم يقدر له الهداية. لم يوفقه لأسبابها. {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} خلاف الموفق الذي له نور على نور.
{أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم علماً يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي أو الاستدلال. {أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي السموات والأرض} ينزه ذاته عن كل نقص وآفة أهل السموات والأرض، و{مِنْ} لتغليب العقلاء أو الملائكة والثقلان بما يدل عليه من مقال أو دلالة حال. {والطير} على الأول تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر ولذلك قيدها بقوله: {صافات} فإن إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجو باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرة الصانع تعالى ولطف تدبيره. {كُلٌّ} كل واحد مما ذكر أو من الطير. {قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي قد علم الله دعاءه وتنزيهه اختياراً أو طبعاً لقوله: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أو علم كل على تشبيه حاله في الدلالة على الحق والميل إلى النفع على وجه يخصه بحال من علم ذلك مع أنه لا يبعد أن يلهم الله تعالى الطير دعاء وتسبيحاً كما ألهمها علوماً دقيقة في أسباب تعيشها لا تكاد تهتدي إليها العقلاء.
{وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} فإنه الخالق لهما وما فيهما من الذوات والصفات والأفعال من حيث إنها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب. {وإلى الله المصير} مرجع الجميع.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً} يسوقه ومنه البضاعة المزجاة فإنه يزجيها كل أحد. {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} بأن يكون قزعاً فيضم بعضه إلى بعض، وبهذا الاعتبار صح بينه إذ المعنى بين أجزائه، وقرأ نافع برواية ورش {يولف} غير مهموز. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} متراكماً بعضه فوق بعض. {فَتَرَى الودق} المطر. {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} من فتوقه جمع خلل كجبال في جبل، وقرئ من {خلله}. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء} من الغمام وكل ما علاك فهو سماء. {مِن جِبَالٍ فِيهَا} من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها. {مِن بَرَدٍ} بيان للجبال والمفعول محذوف أي {يُنَزّلٍ} مبتدأ {مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} برداً، ويجوز أن تكون من الثانية أو الثالثة للتبعيض واقعة موقع المفعول، وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد كما في الأرض جبال من حجر، وليس في العقل قاطع يمنعه والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحاباً، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً، وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجاً وإِلا نزل برداً، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض وينعقد سحاباً. ينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك لابد أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالها وأوقاتها وإليها أشار بقوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عن مَن يَشَاء} والضمير لل {بَرَدٍ}. {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} ضوء برقه، وقرئ بالمد بمعنى العلو وبإدغام الدال في السين و{بَرْقِهِ} بضم الباء وفتح الراء وهو جمع برقة وهي المقدار من البرق كالغرفة وبضمها للاتباع. {يَذْهَبُ بالأبصار} بأبصار الناظرين إليه من فرط الإِضاءة وذلك أقوى دليل على كمال قدرته من حيث إنه توليد للضد من الضد، وقرئ: {يَذْهَبُ} على زيادة الباء.
{يُقَلِّبُ الله اليل والنهار} بالمعاقبة بينهما أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور أو بما يعم ذلك. {إِنَّ في ذَلِكَ} فيما تقدم ذكره. {لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} لدلالة على وجود الصانع القديم وكمال قدرته وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته وتنزهه عن الحاجة وما يفضي إليها لمن يرجع إلى بصيرة.
{والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} حيوان يدب على الأرض. وقرأ حمزة والكسائي {خالق كل دابة} بالإِضافة. {مِن مَّاء} هو جزء مادته، أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلاً للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة، وقيل: {مِن مَّاء} متعلق ب {دَابَّةٍ} وليس بصلة ل {خلقَ}. {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} كالحية وإنما سمي الزحف مشياً على الاستعارة أو المشاكلة. {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ} كالإِنس والطير. {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع، وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة. {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء} مما ذكر ومما لم يذكر بسيطاً ومركباً على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيفعل ما يشاء.
{لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات} للحقائق بأنواع الدلائل. {والله يَهْدِي مَن يَشَاء} بالتوفيق للنظر فيها والتدبر لمعانيها. {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو دين الإِسلام الموصل إلى درك الحق والفوز بالجنة.
{وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول} نزلت في بشر المنافق خاصم يهودياً فدعاه إلى كعب بن الأشرف وهو يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل في مغيرة بن وائل خاصم عليّاً رضي الله عنه في أرض فأبى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَأَطَعْنَا} أي وأطعناهما. {ثُمَّ يتولى} بالامتناع عن قبول حكمه. {فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذلك} بعد قولهم هذا. {وَمَا أولئك بالمؤمنين} إشارة إلى القائلين بأسرهم فيكون إعلاماً من الله تعالى بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم تؤمن قلوبهم، أو إلى الفريق منهم وسلب الإيمان عنهم لتوليهم، والتعريف فيه للدلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفتهم وهم المخلصون في الإِيمان والثابتون عليه.
{وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي ليحكم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه الحاكم ظاهراً والمدعو إليه، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم في الحقيقة حكم الله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} فاجأ فريق منهم الإِعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم، وهو شرح للتولي ومبالغة فيه.
{وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق} أي الحكم لا عليهم. {يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، و{إِلَيْهِ} صلة ل {يَأْتُواْ} أو ل {مُذْعِنِينَ} وتقديمه للاختصاص.
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} كفر أو ميل إلى الظلم. {أَمِ ارتابوا} بأن رأوا منك تهمة فزال يقينهم وثقتهم بك. {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} في الحكومة. {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم فتعين الأول، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً عندهم أو متوقعاً وكلاهما باطل، لأن منصب نبوته وفرط أمانته صلى الله عليه وسلم يمنعه فتعين الأول وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف والفصل لنفي ذلك عن غيرهم سيما المدعو إلى حكمه.

.تفسير الآيات (51- 61):

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وأولئك هُمُ المفلحون} على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، وقرئ: {قَوْلَ} بالرفع و{لِيَحْكُمَ} على البناء للمفعول وإسناده إلى ضمير مصدره على معنى ليفعل الحكم.
{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيما يأمرانه أو في الفرائض والسنن. {وَيَخْشَ الله} على ما صدر عنه من الذنوب. {وَيَتَّقْهِ} فيما بقي من عمره، وقرأ يعقوب وقالون عن نافع بلا ياء وأبو بكر وأبو عمرو بسكون الهاء، وحفص بسكون القاف فشبه تقه بكتف وخفف والهاء ساكنة في الوقف بالاتفاق. {فأولئك هُمُ الفائزون} بالنعيم المقيم.
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} إنكار للامتناع عن حكمه. {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} الخروج عن ديارهم وأموالهم. {لَيُخْرِجَنَّ} جواب ل {أَقْسَمُواْ} على الحكاية. {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ} على الكذب. {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين على الطاعة النفاقية المنكرة. أو {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أمثل منها أو لتكن طاعة، وقرئت بالنصب على أطيعوا طاعة. {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فلا يخفى عليه سرائركم.
{قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به على الحكاية مبالغة في تبكيتهم. {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} أي على محمد صلى الله عليه وسلم. {مَا حُمّلَ} من التبليغ. {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ} من الامتثال. {وَإِن تُطِيعُوهُ} في حكمه. {تَهْتَدُواْ} إلى الحق. {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} التبليغ الموضح لما كلفتم به، وقد أدى وإنما بقي {مَّا حُمّلْتُمْ} فإن أديتم فلكم وإن توليتم فعليكم.
{وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة أوله ولمن معه ومن للبيان {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم، وهو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم، أو الوعد في تحققه منزل منزلة القسم. {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام بعد الجبابرة، وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام وإذا ابتدأ ضم الألف والباقون بفتحهما وإذا ابتدؤوا كسروا الألف. {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} وهو الإِسلام بالتقوية والتثبيت. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الأعداء، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بالتخفيف. {أَمْناً} منهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة وكان يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى أنجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب، وفيه دليل على صحة النبوة للإِخبار عن الغيب على ما هو به وخلافة الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه لغيرهم بالإِجماع.
وقيل الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة. {يَعْبُدُونَنِي} حال من الذين لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن. {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين. {وَمَن كَفَرَ} ومن ارتد أو كفر هذه النعمة. {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد الوعد أو حصول الخلافة. {فأولئك هُمُ الفاسقون} الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة العظيمة.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكواة وَأَطِيعُواْ الرسول} في سائر ما أمركم به ولا يبعد عطف ذلك على أطيعوا الله فإن الفاصل وعد على المأمور به، فيكون تكرير الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للتأكيد وتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} كما علق به الهدى.
{لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض} لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين لله عن إدراكهم وإهلاكهم، و{فِي الأرض} صلة {مُعجِزِينَ}. وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على أن الضمير فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى كما هو في القراءة بالتاء أو {الذين كَفَرُواْ} فاعل والمعنى ولا يحسبن الكفار في الأرض أحداً معجزاً لله، فيكون {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} مفعوليه أو لا يحسبونهم {مُعَجِزِينَ} فحذف المفعول الأول لأن الفاعل والمفعولين لشيء واحد فاكتفى بذكر اثنين عن الثالث. {وَمَأْوَاهُمُ النار} عطف عليه من حيث المعنى كأنه قيل: الذين كفروا ليسوا بمعجزين ومأواهم النار، لأن المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإِعجاز. {وَلَبِئْسَ المصير} المأوى الذي يصيرون إليه.
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإِلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها والوعد عليها والوعيد على الإِعراض عنها، والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال لما روي أن غلام أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت. وقيل أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاماً وقت الظهيرة ليدعو عمر، فدخل وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت هذه الآية: {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} والصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار فعبر عن البلوغ بالاحتلام لأنه أقوى دلائله. {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} في اليوم والليلة مرة. {مّن قَبْلِ صلاة الفجر} لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة، ومحله النصب بدلاً من ثلاث مرات أو الرفع خبراً لمحذوف أي هي من قبل صلاة الفجر.
{وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم} أي ثيابكم لليقظة للقيلولة. {مّنَ الظهيرة} بيان للحين. {وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء} لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف. {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} أي هي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده وأصل العورة الخلل ومنها أعور المكان ورجل أعور. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي {ثلاث} بالنصب بدلاً من {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ}. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان، وليس فيه ما ينافي آية الاستئذان فينسخها لأنه في الصبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين. {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} أي هم طوافون استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة، وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات. {بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض. {كذلك} مثل ذلك التبيين. {يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} أي الأحكام. {والله عَلِيمٌ} بأحوالكم. {حَكِيمٌ} فيما شرع لكم.
{وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} الذين بلغوا من قبلهم في الأوقات كلها، واستدل به من أوجب استئذان العبد البالغ على سيدته، وجوابه أن المراد بهم المعهودين الذين جعلوا قسيماً للمماليك فلا يندرجون فيهم. {كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كرره تأكيداً ومبالغة في الأمر بالاستئذان.
{والقواعد مِنَ النساء} العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل. {اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} لا يطمعن فيه لكبرهن. {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي الثياب الظاهرة كالجلباب، والفاء فيه لأن اللام في {القواعد} بمعنى اللاتي أو لوصفها بها. {غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} غير مظهرات زينة مما أمرن بإخفائه في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم: سفينة بارجة لا غطاء عليها، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطاً بسوادها كله لا يغيب منه شيء، إلا أنه خص بتكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} من الوضع لأنه أبعد من التهمة. {والله سَمِيعٌ} لمقالتهن للرجال. {عَلِيمٌ} بمقصودهن.
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} نفي لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذراً من استقذارهم، أو أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج إلى الغزو وخلفهم على المنازل مخافة أن لا يكون ذلك من طيب قلب، أو من إجابة من دعوهم إلى بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة أن يكونوا كلاً عليهم، وهذا إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة أو كان في أول الإِسلام ثم نسخ بنحو قوله: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ} وقيل نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله ولا ما بعده. {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك» وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسبه وإن ولده من كسبه» {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظاً. وقيل بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وهو ما يفتح به وقرئ: {مفتاحه}. {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أو بيوت صديقكم فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر به، وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط، هذا كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم، أو كان ذلك في أول الإِسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به على أن لا قطع بسرقة مال المحرم. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} مجتمعين أو متفرقين نزلت في بني ليث ابن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده. أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه. أو في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطبائع في القذارة والنهمة. {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً} من هذه البيوت {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة. {تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله} ثابتة بأمره مشروعة من لدنه، ويجوز أن تكون صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عنده تعالى وانتصابها بالمصدر لأنها بمعنى التسليم. {مباركة} لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب. {طَيِّبَةً} تطيب بها نفس المستمع. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لي: «متى لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين» {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} كرره ثلاثاً لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهذا بما هو المقصود منه فقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي الحق والخير في الأمور.