فصل: سورة الشعراء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.سورة الشعراء:

مكية إلا قوله تعالى: {وَالشُّعَراءُ يَتَبِعُهُمُ الغَاوُونَ} إلى آخرها وهي مائتان وست أو سبع وعشرون آية.

.تفسير الآيات (1- 15):

{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)}
{طسم} قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالإِمالة، ونافع بين كراهة للعود إلى الياء المهروب منها، وأظهر نونه حمزة لأنه في الأصل منفصل عما بعده.
{تِلْكَ ءَايَاتُ الكتاب المبين} الظاهر إعجازه وصحته، والإِشارة إلى السورة أو القرآن على ما قرر في أول (البقرة).
{لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} قاتل نفسك، وأصل البخع أن يبلغ بالذبح النخاع وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح، وقرئ: {باخع نَّفْسَكَ} بالإِضافة، ولعل للإِشفاق أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة. {أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} لئلا يؤمنوا أو خيفة أن لا يؤمنوا.
{إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءَايَةً} دلالة ملجئة إلى الإِيمان أو بلية قاسرة عليه. {فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} منقادين وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الخبر على أصله. وقيل لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم. وقيل المراد بها الرؤساء أو الجماعات من قولهم: جاءنا عنق من الناس لفوج منهم، وقرئ: {خاضعة} و{ظَلْتَ} عطف على {نُنَزّلُ} عطف وأكن على فأصدق لأنه لو قيل أنزلنا بدله لصح.
{وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ} موعظة أو طائفة من القرآن. {مّنَ الرحمن} يوحيه إلى نبيه. {مُّحْدَثٍ} مجدد إنزاله لتكرير التذكير وتنويع التقرير. {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} إلا جددوا إعراضاً عنه وإصراراً على ما كانوا عليه.
{فَقَدْ كَذَّبُواْ} أي بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمناً في قوله: {فَسَيَأْتِيهِمْ} أي إذا مسهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة. {أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} من أنه كان حقاً أم باطلاً، وكان حقيقاً بأن يصدق ويعظم قدره أو يكذب فيستخف أمره.
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض} أو لم ينظروا إلى عجائبها. {كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ} صنف. {كَرِيمٌ} محمود كثير المنفعة، وهو صفة لكل ما يحمد ويرضى، وههنا يحتمل أن تكون مقيدة لما يتضمن الدلالة على القدرة، وأن تكون مبينة منبهة على أنه ما من نبت إلا وله فائدة إما وحده أو مع غيره، و{كُلٌّ} لإِحاطة الأزواج {وَكَمْ} لكثرتها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} إن في إنبات تلك الأصناف أو في كل واحد. {لآيَةً} على أن منبتها تام القدرة والحكمة، سابغ النعمة والرحمة. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} في علم الله وقضائه فلذلك لا ينفعهم أمثال هذه الآيات العظام.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} الغالب القادر على الانتقام من الكفرة. {الرحيم} حيث أمهلهم أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وآمن.
{وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} مقدر باذكر أو ظرف لما بعده. {أَنِ ائت} أي {ائت} أو بأن {ائت}. {القوم الظالمين} بالكفر واستعباد بني إسرائيل. وذبح أولادهم.
{قَوْمِ فِرْعَونَ} بدل من الأول أو عطف بيان له، ولعل الإِقتصار على القوم للعلم بأن فرعون كان أولى بذلك. {أَلا يَتَّقُونَ} استئناف أتبعه إرساله إليهم للإِنذار تعجيباً له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه، وقرئ بالتاء على الالتفات إليهم زجراً لهم وغضباً عليهم، وهم وإن كان غيباً حينئذ أجروا مجرى الحاضرين في كلام المرسل إليهم من حيث إنه مبلغه إليهم وإسماعه مبدأ إسماعهم، مع ما فيه من مزيد الحث على التقوى لمن تدبره وتأمل مورده، وقرئ بكسر النون اكتفاء بها عن ياء الإِضافة، ويحتمل أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون كقوله: أَلا يا اسجدوا.
{قَالَ رَبّ إِنّي أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلى هارون} رتب استدعاء ضم أخيه إليه وإشراكه له في الأمر على الأمور الثلاثة: خوف التكذيب، وضيق القلب انفعالاً عنه، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق، لأنها إذا اجتمعت مست الحاجة إلى معين يقوي قلبه وينوب منابه متى تعتريه حبسة حتى لا تختل دعوته ولا تنبتر حجته، وليس ذلك تعللاً منه وتوقفاً في تلقي الأمر، بل طلباً لما يكون معونة على امتثاله وتمهيد عذره فيه، وقرأ يعقوب {وَيَضِيقُ} {وَلاَ يَنطَلِقُ} بالنصب عطفاً على {يَكْذِبُونَ} فيكونان من جملة ما خاف منه.
{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} أي تبعة ذنب فحذف المضاف أو سمي باسمه، والمراد قتل القبطي وإنما سماه ذنباً على زعمهم، وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع. {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} به قبل أداء الرسالة، وهو أيضاً ليس تعللاً وإنما هو استدفاع للبلية المتوقعة، كما إن ذاك استمداد واستظهار في أمر الدعوة وقوله: {قَالَ كَلاَّ فاذهبا بئاياتنا} إجابة له إلى الطلبتين بوعده بدفع بلائهم اللازم ردعه عن الخوف، وضم أخيه إليه في الإِرسال، والخطاب في {فاذهبا} على تغليب الحاضر لأنه معطوف على الفعل الذي يدل عليه {كَلاَّ} كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت والذي طلبته. {إِنَّا مَعَكُمْ} يعني موسى وهرون وفرعون. {مُّسْتَمِعُونَ} سامعون لما يجري بينكما وبينه فأظهركما عليه، مثل نفسه تعالى بمن حضر مجادلة قوم استماعاً لما يجري بينهم وترقباً لإِمداد أوليائه منهم، مبالغة في الوعد بالإِعانة، ولذلك تجوز بالاستماع الذي هو بمعنى الإِصغاء للسمع الذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات، وهو خبر ثان أو الخبر وحده {ومعكم} لغو.

.تفسير الآيات (16- 42):

{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)}
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} أفرد الرسول لأنه مصدر وصف به فإنه مشترك بين المرسل والرسالة، قال الشاعر:
لَقَدْ كَذبَ الوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُم ** بِسِرٍ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ

ولذلك ثنى تارة وأفرد أخرى، أو لاتحادهما للأخوة أو لوحدة المرسل والمرسل به، أو لأنه أراد أن كل واحد منا.
{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسراءيل} أي أرسل لتضمن الرسول معنى الإِرسال المتضمن معنى القول، والمراد خلهم ليذهبوا معنا إلى الشام.
{قَالَ} أي فرعون لموسى بعد ما أتياه فقالا له ذلك. {أَلَمْ نُرَبٍِّكَ فِينَا} في منازلنا. {وَلِيداً} طفلاً سمي به لقربه من الولادة. {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} قيل لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين، ثم بقي بعد الغرق خمسين.
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} يعني قتل القبطي، وبخه به معظماً إياه بعدما عدد عليه نعمته، وقرئ فعلتك بالكسر لأنها كانت قتلة بالوكز. {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} بنعمتي حتى عمدت إلى قتل خواصي، أو ممن تكفرهم الآن فإنه عليه الصلاة والسلام كان يعايشهم بالتقية فهو حال من إحدى التاءين، ويجوز أن يكون حكماً مبتدأ عليه بأنه من الكافرين بآلهيته أو بنعمته لما عاد عليه بالمخالفة، أو من الذين كانوا يكفرون في دينهم.
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} من الجاهلين وقد قرئ به، والمعنى من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه، أو من الخاطئين لأنه لم يتعمد قتله، أو من الذاهلين عما يؤول إليه الوكز لأنه أراد به التأديب، أو الناسين من قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبّي حُكْماً} حكمة. {وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين} رد أولاً بذلك ما وبخه به قدحاً في نبوته ثم كر على ما عد عليه من النعمة ولم يصرح برده لأنه كان صدقاً غير قادح في دعواه، بل نبه على أنه كان في الحقيقة نقمة لكونه مسبباً عنها فقال: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسراءيل} أي وتلك التربية نعمة تمنها علي ظاهراً، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وقصدهم بذبح أبنائهم، فإنه السبب في وقوعي إليك وحصولي في تربيتك. وقيل إنه مقدر بهمزة الإِنكار أي تلك نعمة تمنها علي وهي {أَنْ عَبَّدتَّ}، ومحل {أَنْ عَبَّدتَّ} الرفع على أنه خبر محذوف أو بدل {نِعْمَة} أو الجر بإضمار الباء أو النصب بحذفها. وقيل تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة و{أَنْ عَبَّدتَّ} عطف بيانها والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة {تَمُنُّهَا} علي، وإنما وحد الخطاب في تمنها وجمع فيما قبله لأن المنة كانت منه وحده، والخوف والفرار منه ومن ملئه.
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} لما سمع جواب ما طعن به فيه ورأى أنه لم يرعو بذلك شرع في الاعتراض على دعواه فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل.
{قَالَ رَبُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} عرفه بأظهر خواصه وآثاره لما امتنع تعريف الأفراد إلا بذكر الخواص والأفعال وإليه أشار بقوله: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها علمتم أن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها، فلها مبدئ واجب لذاته وذلك المبدئ لابد وأن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب، أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال ثم ذلك الواجب لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته.
{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} جوابه سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله، أو يزعم أنه {رَبّ السموات} وهي واجبة متحركة لذاتها كما هو مذهب الدهرية، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثر.
{قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الأولين} عدولاً إلى ما لا يمكن أن يتوهم فيه مثله ويشك في افتقاره إلى مصور حكيم ويكون أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل.
{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر، وسماه رسولاً على السخرية.
{قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا} تشاهدون كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع تنتظم به أمور الكائنات. {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك لاينهم أولاً، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وعارضهم بمثل مقالهم.
{قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} عدولاً إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع وهكذا ديدن المعاند المحجوج، واستدل به على ادعائه الألوهية وإنكاره الصانع وأن تعجبه بقوله: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} من نسبة الربوبية إلى غيره، ولعله كان دهرياً اعتقد أن من ملك قطراً أو تولى أمره بقوة طالعه استحق العبادة من أهله، واللام في {المسجونين} للعهد أي ممن عرفت حالهم في سجوني فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك جعل أبلغ من لأسجننك.
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} أي أتفعل ذلك ولو جئتك بشيء يبين صدق دعواي، يعني المعجزة فإنها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته والدلالة على صدق مدعي نبوته، فالواو للحال وليها الهمزة بعد حذف الفعل.
{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في أن لك بينة أو في دعواك، فإن مدعي النبوة لابد له من حجة.
{فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} ظاهر ثعبانيته واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء فانثعب إذا فجرته فانفجر.
{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء للناظرين} روي أن فرعون لما رأى الآية الأولى قال فهل غيرها، فأخرج يده قال فما فيها فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.
{قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ} مستقرين حوله فهو ظهر وقع موقع الحال. {إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} فائق في علم السحر.
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} بهره سلطان المعجزة حتى حطه عن دعوى الربوبية إلى مؤامرة القوم وائتمارهم وتنفيرهم عن موسى وإظهار الاستشعار عن ظهوره واستيلائه على ملكه.
{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أي أخر أمرهما. وقيل إحبسهما. {وابعث فِي المدائن حاشرين} شرطاً يحشرون السحرة.
{يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} يفضلون عليه في هذا الفن وأمالها ابن عامر وأبو عمرو والكسائي، وقرئ: {بكل ساحر}.
{فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة.
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} فيه استبطاء لهم في الاجتماع حثاً على مبادرتهم إليه كقول تأبط شراً:
هَلْ أَنْتَ بَاعِثٌ دِينَارٍ لحَاجَتِنَا ** أَوْ عَبْدَ رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بن مِخْرَاقِ

أي ابعث أحدهما إلينا سريعاً.
{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا والترجي باعتبار الغلبة المقتضية للاتباع، ومقصودهم الأصل أن لا يتبعوا موسى لا أن يتبعوا السحرة فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام.
{فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن أغلبوا فإذا على ما يقتضيه من الجواب والجزاء، وقرئ: {نِعْمَ} بالكسر وهما لغتان.