فصل: تفسير الآيات (43- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (43- 60):

{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)}
{قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} أي بعدما قالوا له {إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين}، ولم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه بل الإِذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلاً به إلى إظهار الحق.
{فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} أقسموا بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإِتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.
{فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تبتلع، وقرأ حفص {تَلْقَفْ} بالتخفيف. {مَا يَأْفِكُونَ} ما يقلبونه عن وجهه بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، أو إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة.
{فَأُلْقِيَ السحرة ساجدين} لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئاً لا حقيقة له، وأن التبحر في كل فن نافع. وإنما بدل الخرور بالإِلقاء ليشاكل ما قبله ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما خولهم من التوفيق.
{قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين} بدل من {ألقي} بدل الاشتمال أو حال بإضمار قد.
{رَبّ موسى وهارون} إبدال للتوضيح ودفع التوهم والإِشعار على أن الموجب لإِيمانهم ما أجراه على أيديهما.
{قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} فعلمكم شيئاً دون شيء ولذلك غلبكم، أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم عليه، وأراد به التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وروح {أأمنتم} بهمزتين. {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وبال ما فعلتم وقوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} بيان له.
{قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} لا ضرر علينا في ذلك. {إِنَّا إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} بما توعدنا به فإن الصبر عليه محاء للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى، أو بسبب من أسباب الموت والقتل أنفعها وأرجاها.
{إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خطايانا أَن كُنَّا} لأن كنا. {أَوَّلَ المؤمنين} من أتباع فرعون، أو من أهل المشهد والجملة في المعنى تعليل ثان لنفي الضمير، أو تعليل للعلة المتقدمة. وقرئ: {إِن كُنَّا} على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة، أو على طريقة المدل بأمره نحو إن أحسنت إليك فلا تنس حقي.
{وَأَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} وذلك بعد سنين أقامها بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتواً وفساداً، وقرأ ابن كثير ونافع: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرئ: {أن سر} من السير. {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} يتبعكم فرعون وجنوده وهو علة الأمر بالإِسراء أي أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم.
{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ} حين أخبر بسراهم. {فِي المدائن حاشرين} العساكر ليتبعوهم.
{إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} على إرادة القول وإنما استقلهم وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً بالإِضافة إلى جنوده، إذ روي أنه خرج وكانت مقدمته سبعمائة ألف والشرذمة الطائفة القليلة، ومنها ثوب شراذم لما بلي وتقطع، و{قَلِيلُونَ} باعتبار أنهم أسباط كل سبط منهم قليل.
{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} لفاعلون ما يغيظنا.
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون} وإنا لجميع من عادتنا الحذر واستعمال الحزم في الأمور، أشار أولاً إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثاً عليه، أو اعتذر بذلك إلى أهل المدائن كي لا يظن به ما يكسر سلطانه، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان والكوفيون {حاذرون} والأول للثبات والثاني للتجدد، وقيل الحاذر المؤدي في السلاح وهو أيضاً من الحذر لأن ذلك إنما يفعل حذراً، وقرئ: {حادرون} بالدال المهملة أي أقوياء قال:
أُحِبُّ الصَّبِيَ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّهِ ** وَأُبْغِضُهُ مِنْ بُغْضِهَا وَهُوَ حَادِرٌ

أو تامو السلاح فإن ذلك يوجب حدارة في أجسامهم.
{فأخرجناهم} بأن خلقنا داعية الخروج بهذا السبب فحملتهم عليه. {مّن جنات وَعُيُونٍ}.
{وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} يعني المنازل الحسنة والمجالس البهية.
{كذلك} مثل ذلك الإِخراج أخرجنا فهو مصدر، أو مثل ذلك المقام الذي كان لهم على أنه صفة مقام، أو الأمر كذلك فيكون خبر المحذوف. {وأورثناها بَنِي إسراءيل}.
{فَأَتْبَعُوهُم} وقرئ: {فَأَتْبَعُوهُم}. {مُشْرِقِينَ} داخلين في وقت شروق الشمس.

.تفسير الآيات (61- 94):

{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)}
{فَلَمَّا تَرَآءَ الجمعان} تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر، وقرئ: {تراءت الفئتان} {قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} لملحقون، وقرئ: {لَمُدْرَكُونَ} من أدرك الشيء إذا تتابع ففني، أي: لمتتابعون في الهلاك على أيديهم.
{قَالَ كَلاَّ} لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم. {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} بالحفظ والنصرة. {سَيَهْدِينِ} طريق النجاة منهم، روي أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى فقال: أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون، فقال: أمرت بالبحر ولعلي أومر بما أصنع.
{فَأَوْحَينَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر} بحر القلزم أو النيل. {فانفلق} أي فضرب فانفلق وصار اثني عشر فرقاً بينها مسالك. {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} كالجبل المنيف الثابت في مقره فدخلوا في شعابها كل سبط في شعب.
{وَأَزْلَفْنَا} وقربنا. {ثَمَّ الآخرين} فرعون وقومه حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم.
{وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين} بإطباقه عليهم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} وأية آية. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} وما تنبه عليها أكثرهم إذ لم يؤمن بها أحد ممن بقي في مصر من القبط، وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} المنتقم من أعدائه. {الرحيم} بأوليائه.
{واتل عَلَيْهِمْ} على مشركي العرب. {نَبَأَ إبراهيم}.
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة.
{قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين} فأطالوا جوابهم بشرح حالهم معه تبجحاً به وافتخاراً، و{نظل} هاهنا بمعنى ندوم. وقيل كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.
{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} أيسمعون دعاءكم أو يسمعونكم تدعون فحذف ذلك لدلالة. {إِذْ تَدْعُونَ} عليه وقرئ: {يَسْمَعُونَكُمْ} أي يسمعونكم الجواب عن دعائكم ومجيئه مضارعاً مع {إِذْ} على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها.
{أَوْ يَنفَعُونَكُمْ} على عبادتكم لها. {أَوْ يَضُرُّونَ} من أعرض عنها.
{قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو يتوقع منهم ضر أو نفع، والتجأوا إلى التقليد.
{قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الأقدمون} فإن التقدم لا يدل على الصحة ولا ينقلب به الباطل حقاً.
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} يريد أنهم أعداء لعابديهم من حيث إنهم يتضررون من جهتهم فوق ما يتضرر الرجل من جهة عدوه، أو إن المغري بعبادتهم أعدى أعدائهم وهو الشيطان، لكنه صور الأمر في نفسه تعريضاً لهم فإنه أنفع في النصح من التصريح، وإشعاراً بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول، وإفراد العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب.
{إِلاَّ رَبَّ العالمين} استثناء منقطع أو متصل على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله.
{الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد كما قال تعالى: {والذى قَدَّرَ فهدى} هداية مدرجة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضار، مبدؤها بالنسبة إلى الإِنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم، ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها، والفاء للسببية إن جعل الموصول مبتدأ وللعطف إن جعل صفة رب العالمين فيكون اختلاف النظم لتقدم الخلق واستمرار الهداية وقوله: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} على الأول مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده، وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم.
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} عطف على {يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} لأنه من روادفهما من حيث إن الصحة والمرض في الأغلب يتبعان المأكول والمشروب، وإنما لم ينسب المرض إليه تعالى لأن المقصود تعديد النعم، ولا ينتقض بإسناد الإِماتة إليه فإن الموت من حيث إنه لا يحسن به لا ضرر فيه وإنما الضرر في مقدماته وهي المرض، ثم إنه لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب التي تستحقر دونها الحياة الدنيوية وخلاص من أنواع المحن والبليات، ولأن المرض في غالب الأمر إنما يحدث بتفريط من الإِنسان في مطاعمه ومشاربه وبما بين الأخلاط والأركان من التنافي والتنافر، والصحة إنما تحصل باستحفاظ اجتماعها والاعتدال المخصوص عليها قهراً وذلك بقدرة الله العزيز العليم.
{والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} في الآخرة.
{والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} ذكر ذلك هضماً لنفسه وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر، وطلب لأن يغفر لهم ما يفرط منهم واستغفاراً لما عسى يندر منه من الصغائر، وحمل الخطيئة على كلماته الثلاث: {إِنّي سَقِيمٌ}، {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا}، وقوله: (هي أختي)، ضعيف لأنها معاريض وليست خطايا.
{رَبّ هَبْ لِي حُكْماً} كما في العلم والعمل أستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق. {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} ووفقني للكمال في العمل لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح الذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره.
{واجعل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الاخرين} جاهاً وحسن صيت في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين، ولذلك ما من أمة إلا وهم محبون له مثنون عليه، أو صادقاً من ذريتي يجدد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
{واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} في الآخرة وقد مر معنى الوراثة فيها.
{واغفر لأَبِي} بالهداية والتوفيق للإِيمان. {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} طريق الحق وإن كان هذا الدعاء بعد موته فلعله كان لظنه أنه كان يخفي الإِيمان تقية من نمرود ولذلك وعده به، أو لأنه لم يمنع بعد من الاستغفار للكفار.
{وَلاَ تُخْزِنِى} بمعاتبتي على ما فرطت، أو بنقص رتبتي عن رتبة بعض الوراث، أو بتعذيبي لخفاء العاقبة وجواز التعذيب عقلاً، أو بتعذيب والدي، أو يبعثه في عداد الضالين وهو من الخزي بمعنى الهوان، أو من الخزاية بمعنى الحياء. {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} الضمير للعباد لأنهم معلومون أو ل {الضالين}.
{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي لا ينفعان أحداً إلا مخلصاً سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي وسائر آفاته، أو لا ينفعان إلا مال من هذا شأنه وبنوه حيث أنفق ماله في سبيل البر، وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عباد الله مطيعين شفعاء له يوم القيامة. وقيل الاستثناء مما دل عليه المال والبنون أي لا ينفع غنى إلاَّ غناه. وقيل منقطع والمعنى لكن سلامة {مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} تنفعه.
{وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} بحيث يرونها من الموقف فيتبجحون بأنهم المحشورون إليها.
{وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} فيرونها مكشوفة ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها، وفي اختلاف الفعلين ترجيح لجانب الوعد.
{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أين آلهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم. {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ} بدفع العذاب عنكم. {أَوْ يَنتَصِرُونَ} بدفعه عن أنفسهم لأنهم وآلهتهم يدخلون النار كما قال: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون} أي الآلهة وعبدتهم، والكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه كأن من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها.