فصل: تفسير الآيات (95- 154):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (95- 154):

{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)}
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} متبعوه من عصاة الثقلين، أو شياطينه. {أَجْمَعُونَ} تأكيد لل {جُنُودُ} إن جعل مبتدأ خبره ما بعده أو للضمير و{مَا} عطف عليه وكذا الضمير المنفصل وما يعود إليه في قوله: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تالله إِن كُنَّا لَفِي ضلال مُّبِينٍ} على أن الله ينطق الأصنام فتخاصم العبدة ويؤيده الخطاب في قوله: {إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبِّ العالمين} أي في استحقاق للعبادة، ويجوز أن تكون الضمائر للعبد كما في {قَالُواْ} والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة، والمعنى أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة متحسرون عليها.
{وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون فَمَا لَنَا مِن شافعين} كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء.
{وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} إِذِ الأَخِلاَّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إِلاَّ المتقين، أو فما لنا من شافعين ولا صديق ممن نعدهم شفعاء وأصدقاء، أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافع ولا صديق، وجمع الشافع وحدةال {صَدِيقٍ} لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، أو لأن ال {صَدِيقٍ} الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، أو لإِطلاق ال {صَدِيقٍ} على الجمع كالعدو لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل.
{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} تمن للرجعة أقيم فيه {لو} مقام ليت لتلاقيهما في معنى التقدير، أو شرط حذف جوابه. {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} جواب التمني أو عطف على {كَرَّةٌ} أي: لو أن لنا أن نكر فنكون من المؤمنين.
{إِنَّ فِي ذَلك} أي فيما ذكر من قصة إبراهيم. {لآيَةً} لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير، يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه لما فيها من الإِشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها وحسن دعوته للقوم وحسن مخالفته معهم وكمال إشفاقه عليهم وتصور الأمر في نفسه، وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضاً وإيقاظاً لهم ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقبول. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} أكثر قومه. {مُّؤْمِنِينَ} به.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} القادر على تعجيل الانتقام. {الرحيم} بالإِمهال لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذريتهم.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} ال {قَوْمٌ} مؤنثة ولذلك تصغر على قويمة وقد مر الكلام في تكذيبهم المرسلين.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} لأنه كان منهم. {أَلاَ تَتَّقُونَ} الله فتتركوا عبادة غيره.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} مشهور بالأمانة فيكم.
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله سبحانه.
{وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} على ما أنا عليه من الدعاء والنصح. {مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين}.
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} كرره للتأكيد والتنبيه على دلالة كل واحد من أمانته وحسم طمعه على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه فكيف إذا اجتمعا، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص بفتح الياء في {أَجْرِيَ} في الكلمات الخمس.
{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} الأقلون جاهاً ومالاً جمع الأرذل على الصحة، وقرأ يعقوب {وأتباعك} وهو جمع تابع كشاهد وأشهاد أو تبع كبطل وأبطال، وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على الحطام الدنيوية، حتى جعلوا اتباع المقلين فيها مانعاً عن اتباعهم وإيمانهم بما يدعوهم إليه ودليلاً على بطلانه، وأشاروا بذلك إلى أن اتباعهم ليس عن نظر وبصيرة وإنما هو لتوقع مال ورفعة فلذلك: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إنهم عملوه إخلاصاً أو طمعاً في طعمة وما عليَّ إلا اعتبار الظاهر.
{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي} ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله فإنه المطلع عليها. {لَوْ تَشْعُرُونَ} لعلمتم ذلك ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون.
{وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} جواب لما أوهم قولهم من استدعاه طردهم وتوقيف إيمانهم عليه حيث جعلوا اتباعهم المانع عنه وقوله: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} كالعلة له أي ما أنا إلا رجل مبعوث لإِنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا أعزاء أو أذلاء فكيف يليق بي في طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء، أو ما عليَّ إلا إنذاركم إنذاراً بيناً بالبرهان الواضح فلا عليَّ أن أطردهم لاسترضائكم.
{قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا نُوحٌ} عما تقول. {لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} من المشتومين أو المضروبين بالحجارة.
{قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} إظهاراً لما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم عليه.
{فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} فاحكم بيني وبينهم من الفتاحة. {وَنَجّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين} من قصدهم أو شؤم عملهم.
{فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون} المملوء.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ} بعد إنجائه. {الباقين} من قومه.
{إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً} شاعت وتواترت. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}.
{كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} أنثه باعتبار القبيلة وهو في الأصل اسم أبيهم.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}.
{وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين} تصدير القصص بها دلالة على أن البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى ثوابه ويبعده عن عقابه، وكان الأنبياء متفقين على ذلك وإن اختلفوا في بعض التفاريع مبرئين عن المطامع الدنيئة والأغراض الدنيوية.
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} بكل مكان مرتفع، ومنه ريع الأرض لارتفاعها. {ءايَةً} علماً للمارة. {تَعْبَثُونَ} ببنائها إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها أو بروج الحمام، أو بنياناً يجتمعون إليه للعبث بمن يمر عليهم، أو قصوراً يفتخرون بها.
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} مآخذ الماء وقيل قصوراً مشيدة وحصوناً. {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فتحكمون بنيانها.
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ} بسيف أو سوط. {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} متسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ونظر في العاقبة.
{فاتقوا الله} بترك هذه الأشياء. {وَأَطِيعُونِ} فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم.
{واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} كرره مرتباً على إمداد الله تعالى إياهم بما يعرفونه من أنواع النعم تعليلاً وتنبيهاً على الوعد عليه بدوام الإِمداد والوعيد على تركه بالإِنقطاع، ثم فصل بعض تلك النعم كما فصل بعض مساويهم المدلول عليها إجمالاً بالإِنكار في {أَلاَ تَتَّقُونَ} مبالغة في الإِيقاظ والحث على التقوى فقال: {أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ وجنات وَعُيُونٍ} ثم أوعدهم فقال: {إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدنيا والآخرة، فإنه كما قدر على الإِنعام قدر على الإِنتقام.
{قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الواعظين} فإنا لا نرعوي عما نحن عليه، وتغيير شق النفي عما تقتضيه المقابلة للمبالغة في قلة اعتدادهم بوعظه.
{إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين، أو ما خلقنا هذا إلا خلقهم نحيا ونموت مثلهم ولا بعث ولا حساب، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: {خُلُقُ الاولين} بضمتين أي ما هذا الذي جئت به إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله، أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون، أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم تزل الناس عليها.
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نحن عليه.
{فَكَذَّبُوهُ فأهلكناهم} بسبب التكذيب بريح صرصر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالح أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}.
{وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبّ العالمين أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هاهنا ءَامِنِينَ} إنكار لأن يتركوا كذلك أو تذكير للنعمة في تخلية الله إياهم وأسباب تنعمهم آمنين ثم فسره بقوله: {فِي جنات وَعُيُونٍ}.
{وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} لطيف لين للطف الثمر، أو لأن النخل أنثى وطلع وإناث النخل ألطف وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، أو متدل منكسر من كثرة الحمل، وإفراد ال {نَخْلٍ} لفضله على سائر أشجار الجنات أو لأن المراد بها غيرها من الأشجار.
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين} بطرين أو حاذقين من الفراهة وهي النشاط، فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {فرهين} وهو أبلغ من {فارهين}.
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين} استعير الطاعة التي هي انقياد الأمر لامتثال الأمر، أو نسب حكم الآمر إلى أمره مجازاً.
{الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض} وصف موضح لإِسرافهم ولذلك عطف: {وَلاَ يُصْلِحُونَ} على يفسدون دلالة على خلوص فسادهم.
{قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} الذين سحروا كثيراً حتى غلب على عقلهم، أو من ذوي السحر وهي الرئة أي من الأناسي فيكون: {مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} تأكيداً له. {فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دعواك.

.تفسير الآيات (155- 194):

{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)}
{قَالَ هذه نَاقَةٌ} أي بعدما أخرجها الله من الصخرة بدعائه كما اقترحوها. {لَّهَا شِرْبٌ} نصيب من الماء كالسقي والقيت للحظ من السقي والقوت وقرئ بالضم. {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} فاقتصروا على شربكم ولا تزاحموها في شربها.
{وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} كضرب وعقر. {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} عظم اليوم لعظم ما يحل فيه، وهو أبلغ من تعظيم العذاب.
{فَعَقَرُوهَا} أسند العقر إلى كلهم لأن عاقرها إنما عقرها برضاهم ولذلك أخذوا جميعاً. {فَأَصْبَحُواْ نادمين} على عقرها خوفاً من حلول العذاب لا توبة، أو عند معاينة العذاب ولذلك لم ينفعهم.
{فَأَخَذَهُمُ العذاب} أي العذاب الموعود. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} في نفي الإِيمان عن أكثرهم في هذا المعرض إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب، وإن قريشاً إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}.
{وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبّ العالمين أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيركم، أو أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كثرتهم وغلبة الإِناث فيهم كأنهن قد أعوزنكم، فالمراد ب {العالمين} على الأول كل من ينكح وعلى الثاني الناس.
{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ} لأجل استمتاعكم. {رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم} للبيان إن أريد به جنس الإناث، أو للتبعيض إن أريد به العضو المباح منهن فيكون تعريضاً بأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم أيضاً. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} متجاوزون عن حد الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل الحيوانات، أو مفرطون في المعاصي وهذا من جملة ذاك، أو أحقاء بأن توصفوا بالعدوان لارتكابكم هذه الجريمة.
{قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط} عما تدعيه أو عن نهينا وتقبيح أمرنا. {لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} من المنفيين من بين أظهرنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على عنف وسوء حال.
{قَالَ إِنّي لِعَمَلِكُمْ مّنَ القالين} من المبغضين غاية البعض لا أقف عن الإِنكار عليه بالإِبعاد، وهو أبلغ من أن يقول: {إِنّي لِعَمَلِكُمْ} قال لدلالته على أنه معدود في زمرتهم مشهور بأنه من جملتهم.
{رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي من شؤمه وعذابه.
{فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أهل بيته والمتبعين له على دينه بإخراجهم من بينهم وقت حلول العذاب بهم.
{إِلاَّ عَجُوزاً} هي امرأة لوط. {فِى الغابرين} مقدرة في الباقين في العذاب إذ أصابها حجر في الطريق فأهلكها لأنها كانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم.
وقيل كائنة فيمن بقي في القرية فإنها لم تخرج مع لوط.
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين} أهلكناهم.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} وقيل أمطر الله على شذاذ القوم حجارة فأهلكهم. {فَسَاءَ مَطَرُ المنذرين} اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}.
{كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ المرسلين} الأيكة غيضة تنبت ناعم الشجر يريد غيضة بقرب مدين تسكنها طائفة فبعث الله إليهن شعيباً كما بعثه إلى مدين وكان أجنبياً منهم فلذلك قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} ولم يقل أخوهم شعيب. وقيل الأيكة شجرة ملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر {ليكة} بحذف الهمزة وإبقاء حركتها على اللام وقرئت كذلك مفتوحة على أنها ليكة وهي اسم بلدتهم، وإنما كتبت هاهنا وفي ص بغير ألف اتباعاً للفظ.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبّ العالمين}.
{أَوْفُواْ الكيل} أتموه. {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} الناقصين حقوق الناس بالتطفيف.
{وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} بالميزان السوي، وهو وإن كان عربياً فإن كان من القسط ففعلاس بتكرير العين وإلا ففعلال. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف. {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ} ولا تنقصوا شيئاً من حقوقهم. {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} بالقتل والغارة وقطع الطريق.
{واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} وذوي الجبلة الأولين يعني من تقدمهم من الخلائق.
{قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} أتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين متنافين للرسالة مبالغة في تكذيبه. {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} في دعواك.
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء} قطعة منها، ولعله جواب لما أشعر به الأمر بالتقوى من التهديد. وقرأ حفص بفتح السين. {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في دعواك.
{قَالَ رَبّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} وبعذابه منزل عليكم ما أوجبه لكم عليه في وقته المقدر له لا محالة.
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} على نحو ما اقترحوا بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت أنهارهم وأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا. {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ}.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمكذبين به، وإطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به يدفع أن يقال إنه كان بسبب اتصالات فلكية أو كان إبتلاء لهم لا مؤاخدة على تكذيبهم.
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين}.
{على قَلْبِكَ} تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على إعجاز القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحياً من الله عز وجل، والقلب إن أراد به الروح فذاك وإن أراد به العضو فتخصيصه، لأن المعاني الروحانية إنما تنزل أولاً على الروح ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق، ثم تتصعد منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة، و{الروح الأمين} جبريل عليه الصلاة والسلام فإنه أمين الله على وحيه. وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي بتشديد الزاي ونصب {الروح الامين}. {لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك.