فصل: تفسير الآيات (31- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (31- 42):

{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ} أي فألقاها فصارت ثعباناً واهتزت {فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ}. {كَأَنَّهَا جَانٌّ} في الهيئة والجثة أو في السرعة. {ولى مُدْبِراً} منهزماً من الخوف. {وَلَمْ يُعَقّبْ} ولم يرجع. {يَا موسى} نودي يا موسى. {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين} من المخاوف، فإنه لا {يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون} {اسلك يَدَكَ في جَيْبِكَ} أدخلها. {تَخْرُجُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} عيب. {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريراً لغرض آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو إظهار جراءة ومبدأ لظهور معجزة، ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فإنه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه. {مِنَ الرهب} من أجل الرهب أي إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلداً وضبطاً لنفسك. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر بضم الراء وسكون الهاء، وقرئ بضمهما، وقرأ حفص بالفتح والسكون والكل لغات. {فَذَانِكَ} إشارة إلى العصا واليد، وشدده ابن كثير وأبو عمرو ورويس. {برهانان} حجتان وبرهان فعلان لقولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من قولهم بره الرجل إذا ابيض، ويقال برهاء وبرهرهة للمرأة البيضاء وقيل فعلال لقولهم برهن. {مِن رَبّكَ} مرسلاً بهما. {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} فكانوا أحقاء بأن يرسل إليهم.
{قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} بها.
{وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً} معيناً وهو في الأصل اسم ما يعان به كالدفء، وقرأ نافع {رداً} بالتخفيف. {يُصَدّقُنِى} بتخليص الحق وتقرير الحجة وتزييف الشبهة. {إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ} ولساني لا يطاوعني عند المحاجة، وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب، وقرأ عاصم وحمزة {يُصَدّقُنِى} بالرفع على أنه صفة والجواب محذوف.
{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} سنقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور، ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد. {وَنَجْعَلَ لَكُمَا سلطانا} غلبة أو حجة. {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} باستيلاء أو حجاج. {بئاياتنا} متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا، أو ب {نَجْعَلِ} أي نسلطكما بها، أو بمعنى {لا يصلون} أي تمتنعون منهم، أو قسم جوابه {لا يصلون}، أو بيان ل {الغالبون} في قوله: {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} بمعنى أنه صلة لما بينه أو صلة له على أن اللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ موسى بئاياتنا بينات قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} سحر تختلقه لم يفعل قبل مثله، أو سحر تعمله ثم تفتريه على الله؛ أو سحر موصوف بالإِفتراء كسائر أنواع السحر.
{وَمَا سَمِعْنَا بهذا} يعنون السحر أو ادعاء النبوة. {فِي ءَابَآئِنَا الأَوَّلِينَ} كائناً في أيامهم.
{وَقَالَ موسى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ} فيعلم أني محق وأنتم مبطلون. وقرأ ابن كثير {قال} بغير واو لأنه قال ما قاله جواباً لمقالهم، ووجه العطف أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد. {وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} العاقبة المحمودة فإن المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأنها خلقت مجازاً إلى الآخرة، والمقصود منها بالذات هو الثواب والعقاب إنما قصد بالعرض. وقرأ حمزة والكسائي {يَكُونَ} بالياء. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} لا يفوزون بالهدى في الدنيا وحسن العاقبة في العقبى.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} نفى علمه بإله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه، ولذلك أمر ببناء الصرح ليصعد إليه ويتطلع على الحال بقوله: {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين فاجعل لّي صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إلى إله موسى} كأنه توهم أنه لو كان لكان جسماً في السماء يمكن الترقي إليه ثم قال: {وَإِنّي لأظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} أو أراد أن يبني له رصداً يترصد منه أوضاع الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول وتبدل دولة، وقيل المراد بنفي العلم نفي المعلوم كقوله تعالى: {أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ في السموات وَلاَ في الأرض} فإن معناه بما ليس فيهن، وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها لك انتفاؤها، ولا كذلك العلوم الانفعالية، قيل أول من اتخذ الآجر فرعون ولذلك أمر باتخاذه على وجه يتضمن تعليم الصنعة مع ما فيه من تعظم؛ ولذلك نادى هامان باسمه ب {يا} في وسط الكلام. {واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ في الأرض بِغَيْرِ الحق} بغير استحقاق. {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} بالنشور. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم.
{فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم في اليم} كما مر بيانه، وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ واستحقار للمأخوذين كأنه أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} {فانظر} يا محمد. {كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين} وحذر قومك عن مثلها.
{وجعلناهم أَئِمَّةً} قدوة للضلال بالحمل على الإِضلال، وقيل بالتسمية كقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} أو بمنع الألطاف الصارفة عنه. {يَدْعُونَ إِلَى النار} إلى موجباتها من الكفر والمعاصي. {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم.
{وأتبعناهم في هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} طرداً عن الرحمة، أو لعن اللاعنين يلعنهم الملائكة والمؤمنون. {وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين} من المطرودين، أو ممن قبح وجوههم.

.تفسير الآيات (43- 54):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)}
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب} التوراة. {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى} أقوام نوح وهود وصالح ولوط. {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أنواراً لقلوبهم تتبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل. {وهدى} إلى الشرائع التي هي سبل الله تعالى. {وَرَحْمَةً} لأنهم لو عملوا بها نالوا رحمة الله سبحانه وتعالى. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ليكونوا على حال يرجى منهم التذكر، وقد فسر بالإِرادة وفيه ما عرفت.
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} يريد الوادي، أو الطور فإنه كان في شق الغرب من مقام موسى، أو الجانب الغربي منه والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي ما كنت حاضراً. {إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر} إذ أوحينا إليه الأمر الذي أردنا تعريفه. {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} للوحي إليه أو على الوحي إليه، وهم السبعون المختارون الميقات، والمراد الدلالة على أن إخباره عن ذلك من قبيل الإِخبار عن المغيبات التي لا تعرف إِلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر} أي ولكنا أوحينا إليك لأنا أنشأنا قروناً مختلفة بعد موسى فتطاولت عليهم المدد، فحرفت الأخبار وتغيرت الشرائع واندرست العلوم، فحذفت المستدرك وأقام سببه مقامه. {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً} مقيماً. {فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} شعيب والمؤمنين به. {تَتْلُو عَلَيْهِمْ} تقرأ عليهم تعلماً منهم. {ءاياتنا} التي فيها قصتهم. {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إياك ومخبرين لك بها.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} لعل المراد به وقت ما أعطاه التوراة وبالأول حين ما استنبأه لأنهما المذكوران في القصد. {ولكن} علمناك. {رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} وقرئت بالرفع على هذه {رَحْمَةً مّن رَبِّكَ}. {لِتُنذِرَ قَوْماً} متعلق بالفعل المحذوف. {مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة، أو بينك وبين إسماعيل، على أن دعوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون.
{وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} {لَوْلاَ} الأولى امتناعية والثانية تحضيضية واقعة في سياقها، لأنها إنما أجيبت بالفاء تشبيهاً لها بالأمر مفعول يقولوا المعطوف على تصيبهم بالفاء المعطية معنى السببيّة المنبهة على أن القول هو المقصود بأن يكون سبباً لانتفاء ما يجاب به، وأنه لا يصدر عنهم حتى تلجئهم العقوبة والجواب محذوف والمعنى: لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ربنا هلا أرسلت إلينا رسولاً يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين، ما أرسلناك أي إنما أرسلناك قطعاً لعذرهم وإلزاماً للحجة عليهم. {فَنَتَّبِعَ ءاياتك} يعني الرسول المصدق بنوع من المعجزات. {وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين}.
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ موسى} من الكتاب جملة واليد والعصا وغيرها اقتراحاً وتعنتاً.
{أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ} يعني أبناء جنسهم في الرأي والمذهب وهم كفرة زمان موسى، أو كان فرعون عربياً من أولاد عاد. {قَالُواْ سَاحِران} يعني موسى وهارون، أو موسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام. {وَإِن تَظَاهَرَا} تعاوناً بإظهار تلك الخوارق أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون {سحران} بتقدير مضاف أو جعلهما سحرين مبالغة، أو إسناد تظاهرهما إلى فعلهما دلالة على سبب الإِعجاز. وقرئ ظاهراً على الإِدغام. {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كافرون} أي بكل منهما أو بكل الأنبياء.
{قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا} مما أنزل على موسى وعلى محمد صلى الله عليه وسلم وإضمارهما لدلالة المعنى، وهو يؤيد أن المراد بالساحرين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. {أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صادقين} إنا ساحران مختلفان، وهذا من الشروط التي يراد بها الإِلزام والتبكيت، ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم.
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} دعاءك إِلى الإِتيان بالكتاب الأهدى فحذف المفعول للعلم به، ولأن فعل الاستجابة يعدى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي، فإذا عدي إليه حذف الدعا غالباً كقوله:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا ** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

{فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} إذ لو اتبعوا حجة لأتوا بها. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ} استفهام بمعنى النفي. {بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله} في موضع الحال للتأكيد أو التقييد، فإن هوى النفس قد يوافق الحق. {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى.
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول} أتبعنا بعضه بعضاً في الإِنزال ليتصل التذكير، أو في النظم لتقرر الدعوة بالحجة والمواعظ بالمواعيد والنصائح بالعبر. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيؤمنون ويطيعون.
{الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وقيل في أربعين من أهل الانجيل اثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانية من الشام، والضمير في {مِن قَبْلِهِ} للقرآن كالمستكن في: {وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءَامَنَّا بِهِ} أي بأنه كلام الله تعالى. {إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا} استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به. {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذٍ، وإنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة وكونهم على دين الإِسلام قبل نزول القرآن، أو تلاوته عليهم باعتقادهم صحته في الجملة.
{أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن. {بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم وثباتهم على الإِيمانين، أو على الإِيمان بالقرآن قبل النزول وبعده، أو على أذى المشركين ومن هاجرهم من أهل دينهم. {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} ويدفعون بالطاعة المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} في سبيل الخير.