فصل: تفسير الآيات (14- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (14- 25):

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} أي المؤمنون والكافرون لقوله تعالى: {فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ في رَوْضَةٍ} أرض ذات أزهار وأنهار. {يُحْبَرُونَ} يسرون سروراً تهلك له وجوههم.
{وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الآخرة فَأُوْلَئِكَ في العذاب مُحْضَرُونَ} مدخلون لا يغيبون عنه.
{فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحمد في السموات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته وتتجدد فيها نعمته، أو دلالة على أن ما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزهه واستحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهل السموات والأرض، وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار القدرة والعظمة فيهما أظهر، وتخصيص الحمد بالعشي الذي هو آخر النهار من عشى العين إذا نقص نورها والظهيرة التي هي وسطه لأن تجدد النعم فيهما أكثر، ويجوز أن يكون {عشياً} معطوفاً على {الله حِينَ تُمْسُونَ} وقوله: {وَلَهُ الحمد في السموات والأرض} اعتراضاً. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن الآية جامعة للصلوات الخمس {تُمْسُونَ} صلاتا المغرب والعشاء، و{تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر، و{عشيا} صلاة العصر، و{تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر. ولذلك زعم الحسن أنها مدنية لأنه كان يقول كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقتا وإنما فرضه الخمس بالمدينة، والأكثر على أنها فرضت بمكة. وعنه عليه الصلاة والسلام: «من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل فسبحان الله حين تمسون الآية» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في ليلته، ومن قاله حين يمسي أدرك ما فاته في يومه» وقرئ: {حيناً تمسون} و{حيناً تصبحون} أي تمسون فيه وتصبحون فيه.
{يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} كالإِنسان من النطفة والطائر من البيضة. {وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} كالنطفة والبيضة، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس. {وَيُحيِي الأَرْضَ} بالنبات. {بَعْدَ مَوْتِهَا} يبسها. {وكذلك} ومثل ذلك الإخراج. {تُخْرَجُونَ} من قبوركم فإنه أيضاً تعقيب الحياة الموت، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء.
{وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} أي في أصل الإِنشاء لأنه خلق أصلهم منه. {ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض.
{وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا} لأن حواء خلقت من ضلع آدم وسائر النساء خلقن من نطف الرجال، أو لأنهن من جنسهم لا من جنس آخر. {لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا} لتميلوا إليها وتألفوا بها فإن الجنسية علة للضم والاختلاف سبب للتنافر. {وَجَعَلَ بَيْنَكُم} أي بين الرجال والنساء، أو بين أفراد الجنس.
{مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} بواسطة الزواج حال الشبق وغيرها بخلاف سائر الحيوانات نظماً لأمر المعاش، أو بأن تعيش الإِنسان متوقف على التعارف والتعاون المحوج إلى التواد والتراحم، وقيل المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد كقوله تعالى: {وَرَحْمَةً مّنَّا} {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيعلمون ما في ذلك من الحكم.
{وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ} لغاتكم بأن علم كل صنف لغته أو ألهمه وضعها وأقدره عليها، أو أجناس نطفكم وأشكاله فإنك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية. {وألوانكم} بياض الجلد وسواده، أو تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها، وحلاها بحيث وقع التمايز والتعارف حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة. {إِنَّ في ذلك لآيات للعالمين} لا تكاد تخفى على عاقل من ملك أو إنس أو جن، وقرأ حفص بكسر اللام ويؤيد قوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون} {وَمِنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ} منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وتقوي القوى الطبيعية وطلب معاشكم فيهما، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين إشعاراً بأن كلاً من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة، ويؤيده سائر الآيات الواردة فيه. {إِنَّ في ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع تفهم واستبصار فإن الحكمة فيه ظاهرة.
{وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق} مقدر بأن المصدرية كقوله:
أَلاَ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضَر الوَغَى ** وَأَن أشْهَد اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلدِي

أو الفعل فيه منزلة المصدر كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، أو صفة لمحذوف تقديره آية يريكم بها البرق كقوله:
فَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ** أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي العَيْشَ أَكْدَحُ

{خَوْفًا} من الصاعقة للمسافر. {وَطَمَعًا} في الغيث للمقيم، ونصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فإن إراءتهم تستلزم رؤيتهم أوله على تقدير مضاف نحو إرادة خوف وطمع، أو تأويل الخوف والطمع بالإِخافة والإِطماع كقولك فعلته رغماً للشيطان، أو على الحال مثل كَلَّمْتُهُ شِفَاهاً. {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاءً} وقرئ بالتشديد. {فَيُحيِي بِهِ الأَرْضَ} بالنبات. {بَعْدَ مَوْتِهَا} يبسها. {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته.
{وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء والأرض بِأَمْرِهِ} قيامهما بإقامته لهما وإرادته لقيامهما في حيزيها المعينين من غير مقيم محسوس، والتعبير بالأمر للمبالغة في كمال القدرة والغنى عن الآلة. {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} عطف على {أَن تَقُومَ} على تأويل مفرد كأنه قيل: ومن آياته قيام السموات والأرض بأمره ثم خروجكم من القبور {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً} واحدة فيقول أيها الموتى اخرجوا، والمراد تشبيه سرعة ترتب حصول ذلك على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه ومن الأرض متعلق بدعا كقولك: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها، و{إِذَا} الثانية للمفاجأة ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.

.تفسير الآيات (26- 37):

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)}
{وَلَهُمْ مَن في السموات والأرض كُلٌّ لَّهُ قانتون} منقادون لفعله فيهم لا يمتنعون عنه.
{وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد هلاكهم. {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} والإِعادة أسهل عليه من الأصل بالإِضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم وإلا فهما عليه سواء ولذلك قيل الهاء ل {الخلق}، وقيل: {أَهْوَنُ} بمعنى هين وتذكير هو لأهون أو لأن الإِعادة بمعنى أن يعيد. {وَلَهُ المثل} الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة ومن فسره بقول لا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية. {الأعلى} الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه. {فِي السموات والأرض} يصفه به ما فيها دلالة ونطقاً. {وَهُوَ العزيز} القادر الذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته. {الحكيم} الذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.
{ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ} منتزعاً من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم. {هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} من مماليككم. {مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم} من الأموال وغيرها. {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} فتكونون أنتم وهم فيه شرعاً يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم وأنها معارة لكم، و{مِنْ} الأولى للابتداء والثانية للتبعيض والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. {تَخَافُونَهُمْ} أن يستبدوا بتصرف فيه. {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض. {كذلك} مثل ذلك التفصيل. {نُفَصّلُ الآيات} نبينها فإن التفصيل مما يكشف المعاني ويوضحها. {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال.
{بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ} بالإِشراك. {أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} جاهلين لا يكفهم شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه. {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله} فمن يقدر على هدايته. {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} يخلصونهم من الضلالة ويحفظونهم عن آفاتها.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً} فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه، وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه والاهتمام به. {فِطْرَتَ الله} خلقته نصب على الإِغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها. {التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} خلقهم عليها وهي قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه، أو ملة الإِسلام فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها، وقيل العهد المأخوذ من آدم وذريته. {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} لا يقدر أحد يغيره أو ما ينبغي أن يغير. {ذلك} إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة. {الدين القيم} المستقيم الذي لا عوج فيه. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} استقامته لعدم تدبرهم.
{مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى، وقيل منقطعين إليه من الناب وهو حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة الله أو في أقم لأن الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والأمة لقوله: {واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} غير أنها صدرت بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيماً له.
{مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} بدل من المشركين وتفريقهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم، وقرأ حمزة والكسائي {فارقوا} بمعنى تركوا دينهم الذي أمروا به. {وَكَانُواْ شِيَعاً} فرقاً تشايع كل إمامها الذي أضل دينها. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} مسرورون ظناً بأنه الحق، ويجوز أن يجعل فرحون صفة كل على أن الخبر {مِنَ الذين فَرَّقُواْ}.
{وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} شدة. {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعين من دعاء غيره. {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} خلاصاً من تلك الشدة. {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} فاجأ فريق منهم بالإِشراك بربهم الذي عافاهم.
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم} اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر بمعنى التهديد لقوله: {فَتَمَتَّعُواْ} غير أنه التفت فيه مبالغة وقرئ و{ليتمتعوا}. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة تمتعكم، وقرئ بالياء التحتية على أن تمتعوا ماض.
{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا} حجة وقيل ذا سلطان أي ملكاً معه برهان. {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} تكلم دلالة كقوله: {كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} أو نطق. {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} بإشراكهم وصحته، أو بالأمر الذي بسببه يشركون به في ألوهيته.
{وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} نعمة من صحة وسعة. {فَرِحُواْ بِهَا} بطروا بسببها. {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} شدة. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بشؤم معاصيهم. {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فاجؤوا القنوط من رحمته وقرأ الكسائي وأبو عمرو بكسر النون.
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} فما لهم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين. {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة.

.تفسير الآيات (38- 46):

{فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)}
{فَئَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} كصلة الرحم، واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم وهو غير مشعر به. {والمساكين وابن السبيل} ما وظف لهما من الزكاة، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لمن بسط له ولذلك رتب على ما قبله بالفاء. {ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} ذاته أو جهته أي يقصدون بمعروفهم إياه خالصاً، أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى. {وأولئك هُمُ المفلحون} حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم.
{وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن رِباً} زيادة محرمة في المعاملة أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة، وقرأ ابن كثير بالقصر بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. {لّيَرْبُوَاْ في أَمْوَالِ الناس} ليزيد ويزكو في أموالهم. {فَلاَ يَرْبُواْ عَندَ الله} فلا يزكو عنده ولا يبارك فيه، وقرأ نافع ويعقوب {لتربوا} أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا. {وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ} تبتغون به وجهه خالصاً {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون} ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوة واليسار، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة، وقرئ بفتح العين وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظماً للمبالغة، والالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفاً لحالهم، أو للتعميم كأنه قال: فمن فعل ذلك {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون}، والراجع منه محذوف إن جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به، أو فَمُؤْتُوه أولئك هم المضعفون.
{الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَئ} أثبت له لوازم الألوهية ونفاها رأساً عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها مؤكداً بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء فقال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ويجوز أن تكون الكلمة الموصولة صفة والخبر {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ} والرابط {مّن ذلكم} لأنه بمعنى من أفعاله، و{مِنْ} الأولى والثانية تفيد أن شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيدة لتعميم المنفي وكل منها مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.
{ظَهَرَ الفساد في البر والبحر} كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار، أو الضلالة والظلم. وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرئ و{البحور}. {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس} بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه، وقيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصباً. {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} بعض جزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو العاقبة. وعن ابن كثير ويعقوب {لّنُذِيقَهُمْ} بالنون.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عما هم عليه.
{قُلْ سِيرُواْ في الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ} لتشاهدوا مصداق ذلك وتحققوا صدقه. {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشو الشرك وغلبته فيهم، أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم} البليغ الاستقامة. {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} لا يقدر أن يرده أحد، وقوله: {مِنَ الله} متعلق ب {يَأْتِىَ}، ويجوز أن يتعلق ب {مَرَدْ} لأنه مصدر على معنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه. {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} يتصدعون أي يتفرقون {فَرِيقٌ في الجنة وَفَرِيقٌ في السعير} كما قال: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وباله وهو النار المؤبدة. {وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} يسوون منزلاً في الجنة، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص.
{لِيَجْزِىَ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ} علة ل {يَمْهَدُونَ} أو ل {يَصَّدَّعُونَ}، والاقتصار على جزاء المؤمنين للإِشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء على فحوى قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين، وتأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له ومن فضله دال على أن الإِثابة تفضل محض، وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر.
{وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح} الشمال والصبا والجنوب فإنها رياح الرحمة وأما الدبور فريح العذاب، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {الريح} على إرادة الجنس. {مبشرات} بالمطر. {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ} يعني المنافع التابعة لها، وقيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها والعطف على علة محذوفة دل عليها {مبشرات} أو عليها باعتبار المعنى، أو على {يُرْسِلُ} بإضمار فعل معلل دل عليه. {وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} يعني تجارة البحر. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولتشكروا نعمة الله تعالى فيها.