فصل: تفسير الآيات (20- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (20- 30):

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)}
{أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السموات} بأن جعله أسباباً محصلة لمنافعكم. {وَمَا في الأرض} بأن مكنكم من الإِنتفاع به بوسط أو غير وسط {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً} محسوسة ومعقولة ما تعرفونه وما لا تعرفونه وقد مر شرح النعمة وتفصيلها في الفاتحة، وقرئ: {وأصبغ} بالإبدال وهو جار في كل سين اجتمع من الغين أو الخاء أو القاف كصلخ وصقر، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص {نِعَمَهُ} بالجمع والإِضافة. {وَمِنَ الناس مَن يجادل في الله} في توحيده وصفاته. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مستفاد من دليل. {وَلاَ هُدًى} راجع إلى رسول. {وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ} أنزله الله بل بالتقليد كما قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} وهو منع صريح من التقليد في الأصول. {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ} يحتمل أن يكون الضمير {لَهُمْ} ولآبائهم. {إلى عَذَابِ السعير} إلى ما يؤول إليه من التقليد أو الإِشراك وجواب محذوف مثل لاتبعوه، والإِستفهام للإنكار والتعجب.
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} بأن فوض أمره إليه وأقبل بشراشره عليه من أسلمت المتاع إلى الزبون، ويؤيده القراءة بالتشديد وحيث عدى باللام فلتضمن معنى الإخلاص. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله. {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} تعلق بأوثق ما يتعلق به، وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه. {وإلى الله عاقبة الأمور} إذ الكل صائر إليه.
{وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} فإنه لا يضرك في الدنيا والآخرة، وقرئ: {فَلاَ يَحْزُنكَ} من أحزن وليس بمستفيض. {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} في الدارين. {فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ} بالإِهلاك والتعذيب. {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فمجازٍ عليه فضلاً عما في الظاهر.
{نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً} تمتيعاً أو زماناً قليلاً فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل. {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ أو يضم إلى الإِحراق الضغط.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذاعته. {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على إلزامهم والجائهم إلى الإِعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن ذلك يلزمهم.
{للَّهِ مَا في السموات والأرض} لا يستحق العبادة فيهما غيره {إِنَّ الله هُوَ الغنى} عن حمد الحامدين. {الحميد} المستحق للحمد وإن لم يحمد.
{وَلَوْ أَنَّ مَّا في الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} ولو ثبت كون الأشجار أقلاماً، وتوحيد {شَجَرَةٍ} لأن المراد تفصيل الآحاد. {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} والبحر المحيط بسعته مداداً ممدوداً بسبعة أبحر، فأغنى عن ذكر المداد بمده لأنه من مد الدواة وأمدها، ورفعه للعطف على محل أن ومعموليها وبمده حال أو للابتداء على أنه مستأنف أو الواو للحال، ونصبه البصريان بالعطف على اسم {أَن} أو إضمار فعل يفسره {يَمُدُّهُ}، وقرئ: {تمده} {ويمده} بالياء والتاء.
{مَّا نَفِدَتْ كلمات الله} بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد وإيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. {أَنَّ الله عَزِيزٌ} لا يعجزه شيء. {حَكِيمٌ} لا يخرج عن علمه وحكمته أمر، والآية جواب لليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} وقد أنزل التوراة وفيها علم كل شيء.
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} إلا كخلقها وبعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية كما قال: {إِنَّمَا أَمْرُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {إِنَّ الله سَمِيعٌ} يسمع كل مسموع {بَصِيرٌ} يبصر كل مبصر لا يشغله إدراك بعضها عن بعض فكذلك الحق.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اليل في النهار وَيُولِجُ النهار في اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى} كل من النيرين يجري في فلكه. {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى منتهى معلوم الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر. وقيل إلى يوم القيامة والفرق بينه وبين قوله: {لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أن ال {أَجَلٌ} هاهنا منتهى الجري وثمة غرضه حقيقة أو مجازاً وكلا المعنيين حاصل في الغايات. {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عالم بكنهه.
{ذلك} إشارة إلى الذي ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص الباري بها. {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته، أو الثابت إلهيته. {وَأَنَّ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل} المعدوم في حد ذاته لأنه لا يوجد ولا يتصف إلا بجعله أو الباطل إلهيته، وقرأ البصريان والكوفيون غير أبي بكر بالياء. {وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير} مترفع على كل شيء ومتسلط عليه.

.تفسير الآيات (31- 34):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِى في البحر بِنِعْمَةِ الله} بإحسانه في تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وكمال حكمه وشمول إنعامه والباء للصلة أو الحال، وقرئ: {الفلك} بالتثقيل و{بنعمات الله} بسكون العين، وقد جوز في مثله الكسر والفتح والسكون. {لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءاياته} دلائله. {إِنَّ في ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ} على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر في الأفاق والأنفس. {شَكُورٍ} يعرف النعم ويتعرف مانحها، أو للمؤمنين فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ} علاهم وغطاهم. {مَّوْجٌ كالظلل} كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما، وقرئ كالظلال جمع ظلة كقلة وقلال. د {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد. {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} مقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد، أو متوسط في الكفر لانزجاره بعض الانزجار. {وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ} غدار فإنه نقض للعهد الفطري، أو لما كان في البحر والختر أشد الغدر. {كَفُورٌ} للنعم.
{يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} لاَ يقضي عنه، وقرئ: {لا يجزئ} من أجزأ إذا أغنى والراجع إلى الموصوف محذوف أي لا يجزى فيه. {وَلاَ مَوْلُودٌ} عطف على {وَالِدٌ} أو مبتدأ خبره. {هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} وتغيير النظم للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. {إِنَّ وَعْدَ الله} بالثواب والعقاب. {حَقّ} لا يمكن خلفه. {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} الشيطان بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي.
{إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} علم وقت قيامها. لما روي أن الحرث بن عمرو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: متى قيام الساعة؟ وإني قد ألقيت حباتي في الأرض فمتى السماء تمطر؟ وحمل امرأتي أذكر أم أنثى؟ وما أعمل غداً وأين أموت؟ فنزلت. وعنه عليه الصلاة والسلام: «مفاتح الغيب خمس» وتلا هذه الآية. {وَيُنَزّلُ الغيث} في إبانه المقدر له والمحل المعين له في علمه، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد. {وَيَعْلَمُ مَا في الأرحام} أذكر أم أنثى أتام أم ناقص. {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} من خير أو شر وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه. {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} كما لا تدري في أي وقت تموت. روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظم إليه، فقال الرجل من هذا؟ قال: ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجباً منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك، وإنما جعل العلم لله تعالى والدراية للعبد لأن فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين، ويدل على أنه إن أعمل حيلة وأنفذ فيها وسعه لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه، وقرئ: {بأية أرض} وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في {كُلُّهُنَّ}.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ} يعلم الأشياء كلها. {خَبِيرٌ} يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقاً يوم القيامة، وأعطي من الحسنات عشراً عشراً بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر».

.سورة السجدة:

مكية وآيها ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون آية.

.تفسير الآيات (1- 10):

{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)}
{الم} إن جعل اسماً للسورة أو القرآن فمبتدأ خبره: {تَنزِيلُ الكتاب} على أن التنزيل بمعنى المنزل، وإن جعل تعديداً للحروف كان {تَنزِيلَ} خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} فيكون. {مِن رَّبّ العالمين} حالاً من الضمير في {فِيهِ} لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً ولا {رَيْبَ فِيهِ} حال من {الكتاب}، أو اعتراض والضمير فيه لمضمون الجملة ويؤيده قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} فإنه إنكار لكونه من رب العالمين وقوله: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ} فإنه تقرير له، ونظم الكلام على هذا أنه أشار أولاً إلى إعجازه، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكاراً له وتعجيباً منه، فإن {أَمْ} منقطعة ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله وبين المقصود من تنزيله فقال: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ} إذا كانوا أهل الفترة. {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} بإنذارك إياهم.
{الله الذي خَلَقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} مر بيانه في (الأعراف). {مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ} {مَا لَكُمْ} إذا جاوزتم رضا الله أحد ينصركم ويشفع لكم، أو {مَا لَكُمْ} سواه ولي ولا شفيع بل هو الذي يتولى مصالحكم وينصركم في مواطن نصركم على أن الشفيع متجوز به للناصر، فإذا خذلكم لم يبق لكم ولي ولا ناصر. {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} بمواعظ الله تعالى.
{يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض} يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية كالملائكة وغيرها نازلة آثارها إلى الأرض. {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} ثم يصعد إليه ويثبت في علمه موجوداً. {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} في برهة من الزمان متطاولة يعني بذلك استطالة ما بين التدبير والوقوع. وقيل يدبر الأمر بإظهاره في اللوح فينزل به الملك ثم يعرج إليه في زمان هو كألف سنة، لأن مسافة نزوله وعروجه مسيرة ألف سنة فإن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة. وقيل يقضي قضاء ألف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الألف لألف آخر. وقيل يدبر الأمر إلى قيام الساعة ثم يعرج إليه الأمر كله يوم القيامة. وقيل يدبر المأمور به من الطاعات منزلاً من السماء إلى الأرض بالوحي، ثم لا يعرج إليه خالصاً كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة المخلصين والأعمال الخلص، وقرئ: {يَعْرُجُ} و{يَعْدُونَ}.
{ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة} فيدبر أمرهما على وفق الحكمة. {العزيز} الغالب على أمره. {الرحيم} على العباد في تدبيره، وفيه إيماء بأنه سبحانه يراعي المصالح تفضلاً وإحساناً.
{الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَئ خَلَقَهُ} خلقة موفراً عليه ما يستعد له ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة، وخلقه بدل من كل بدل الاشتمال وقل علم كيف يخلقه من قولهم قيمة المرء ما يحسنه أي يحسن معرفته، و{خَلَقَهُ} مفعول ثان. وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل وعلى الثاني بمتصل. {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان} يعني آدم. {مِن طِينٍ}.
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} ذريته سميت بذلك لأنها تنسل منه أي تنفصل. {مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاءٍ مَّهِينٍ} ممتهن.
{ثُمَّ سَوَّاهُ} قَوَّمَّهُ بتصوير أعضائه على ما ينبغي. {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} إضافة إلى نفسه تشريفاً له وإشعاراً بأنه خلق عجيب، وأن له شأناً له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية ولأجله قيل من عرف نفسه فقد عرف ربه. {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} خصوصاً لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا. {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} تشكرون شكراً قليلاً.
{وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا في الأرض} أي صرنا تراباً مخلوط بتراب الأرض لا نتميز منه، أو غبنا فيها. وقرأ {ضَلَلْنَا} بالكسر من ضل يضل {وصللَنا} من صل اللحم إذا أنتن، وقرأ ابن عامر: {إذا} على الخبر والعامل فيه ما دل عليه. {أَئِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو: نبعث أو يجدد خلقنا. وقرأ نافع والكسائي ويعقوب {أنا} على الخبر، والقائل أبي بن خلف وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به. {بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ} بالبعث أو بتلقي ملك الموت وما بعده. {كافرون} جاحدون.