فصل: تفسير الآيات (31- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (31- 38):

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)}
{أَلَمْ يَرَوْاْ} ألم يعلموا وهو معلق عن قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون} لأن {كَمْ} لا يعمل فيها ما قبلها وإن كانت خبرية لأن أصلها الاستفهام. {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بدل من {كَمْ} على المعنى أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم، وقرئ بالكسر على الاستئناف.
{وَإِنْ كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} يوم القيامة للجزاء، و{إِن} مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة و{ما} مزيدة للتأكيد، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة {لَّمّاً} بالتشديد بمعنى إلا فتكون إن نافية وجميع فعيل بمعنى مفعول، و{لَدَيْنَا} ظرف له أو ل {مُحْضَرُونَ}.
{وَءَايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة} وقرأ نافع بالتشديد. {أحييناها} خبر ل {الأرض}، والجملة خبر {ءَايَةً} أو صفة لها إذ لم يرد بها معينة وهي الخبر أو المبتدأ والآية خبرها، أو استئناف لبيان كونها {ءايَةً}. {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} جنس الحب. {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} قدم الصلة للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب} من أنواع النخل والعنب، ولذلك جمعهما دون الحب فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك الدال على الأنواع، وذكر النخيل دون التمور ليطابق الحب والأعناب لاختصاص شجرها بمزيد النفع وآثار الصنع. {وَفَجَّرْنَا فِيهَا} وقرئ بالتخفيف، والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى. {مِنَ العيون} أي شيئاً من العيون، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، أو {العيون} و{مِنْ} مزيدة عند الأخفش.
{لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} ثمر ما ذكر وهو الجنات، وقيل الضمير لله تعالى على طريقة الالتفات والإِضافة إليه لأن الثمر بخلقه، وقرأ حمزة والكسائي بضمتين وهو لغة فيه، أو جمع ثمار وقرئ بضمة وسكون. {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} عطف على الثمر والمراد ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما، وقيل: {مَا} نافية والمراد أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم، ويؤيد الأول قراءة الكوفيين غير حفص بلا هاء فإن حذفه من الصلة أحسن من غيرها. {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أمر بالشكر من حيث أنه إنكار لتركه.
{سبحان الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} الأنواع والأصناف. {مِمَّا تُنبِتُ الأرض} من النبات والشجر. {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} الذكر والأنثى. {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} وأزواجاً مما لم يطلعهم الله تعالى عليه ولم يجعل لهم طريقاً إلى معرفته.
{وَءَايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} نزيله ونكشفه عن مكانه مستعار من سلخ الجلد والكلام في إعرابه ما سبق. {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} داخلون في الظلام.
{والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} لحد معين ينتهي إليه دورها، فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو لكبد السماء فإن حركتها فيه يوجد فيها بطء بحيث يظن أن لها هناك وقفة قال:
وَالشَّمْسُ حَيْرَى لَهَا بِالجَوِّ تَدْوِيمُ

أو لاستقرار لها على نهج مخصوص، أو لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب فإن لها في دورها ثلثمائة وستين مشرقاً ومغرباً، تطلع كل يوم من مطلع وتغرب من مغرب ثم لا تعود إليهما إلى العام القابل، أو لمنقطع جريها عند خراب العالم. وقرئ: {لا مستقر لها} أي لا سكون فإنها متحركة دائماً و{لا مستقر} على أن {لا} بمعنى ليس. {ذلك} الجري على هذا التقدير المتضمن للحكم التي تكل الفطن عن إحصائها. {تَقْدِيرُ العزيز} الغالب بقدرته على كل مقدور. {العليم} المحيط علمه بكل معلوم.

.تفسير الآيات (39- 47):

{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)}
{والقمر قدرناه} قدرنا مسيره. {مَنَازِلَ} أو سيره في منازل وهي ثمانية وعشرون: السرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزبانا، الإِكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعدالسعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، الرشا، وهو بطن الحوت ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه، فإذا كان في آخر منازله وهو الذي يكون فيه قبيل الإِجتماع دق واستقوس، وقرأ الكوفيون وابن عامر {والقمر} بنصب الراء. {حتى عَادَ كالعرجون} كالشمراخ المعوج، فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج، وقرئ: {كالعرجون} وهما لغتان كالبزيون والبزيون. {القديم} العتيق وقيل ما مر عليه حول فصاعداً.
{لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَا} يصح لها ويتسهل. {أَن تدْرِكَ القمر} في سرعة سيره فإن ذلك يخل بتكون النبات وتعيش الحيوان، أو في آثاره ومنافعه أو مكانه بالنزول إلى محله، أو سلطانه فتطمس نوره، وإيلاء حرف النفي {الشمس} للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه، وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيران، وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس فيكون عكساً للأول وتبديل الإِدراك بالسبق لأنه الملائم لسرعة سيره. {وَكُلٌّ} وكلهم والتنوين عوض عن المضاف إليه، والضمير للشموس والأقمار فإن اختلاف الأحوال يوجب تعدداً ما في الذات، أو للكواكب فإن ذكرهما مشعر بهما. {فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يسيرون فيه بانبساط.
{وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم، أو صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم، فإن الذرية تقع عليهن لأنهن مزارعها. وتخصيصهم لأن استقرارهم في السفن أشق وتماسكهم فيها أعجب، وقرأ نافع وابن عامر {ذرياتهم}. {فِى الفلك المشحون} المملوء، وقيل المراد فلك نوح عليه الصلاة والسلام، وحمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وتخصيص الذرية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجب مع الإِيجاز.
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ} من مثل الفلك. {مَا يَرْكَبُونَ} من الإِبل فإنها سفائن البر أو من السفن والزوارق.
{وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق، أو فلا إغاثة كقولهم: أتاهم الصريخ. {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} ينجون من الموت به.
{إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا وَمَتَاعاً} إلا لرحمة ولتمتيع بالحياة. {إلى حِينٍ} زمان قدر لآجالهم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} الوقائع التي خلت أو العذاب المعد في الآخرة، أو نوازل السماء ونوائب الأَرض كقوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض} أو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة أو عكسه، أو ما تقدم من الذنوب وما تأخر.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لتكونوا راجين رحمة الله، وجواب إذا محذوف دل عليه قوله: {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءَايَةٍ مّنْ ءايات رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} كأنه قال وإذا قيل لهم اتقوا العذاب أعرضوا لأنهم اعتادوه وتمرنوا عليه.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله} على محاويجكم. {قَالَ الذين كَفَرُواْ} بالصانع يعني معطلة كانوا بمكة. {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} تهكماً بهم من إقرارهم به وتعليقهم الأمور بمشيئته. {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ الله أَطْعَمَهُ} على زعمكم، وقيل قاله مشركو قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين إيهاماً بأن الله تعالى لما كان قادراً أن يطعمهم ولم يطعمهم فنحن أحق بذلك، وهذا من فرط جهالتهم فإن الله يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم له. {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ في ضلال مُّبِينٍ} حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله، ويجوز أن يكون جواباً من الله لهم أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.

.تفسير الآيات (48- 53):

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)}
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} يعنون وعد البعث.
{مَا يَنظُرُونَ} ما ينتظرون. {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} هي النفخة الأولى. {تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ} يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم أمرها كقوله: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} وأصله يختصمون فسكنت التاء أدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، وقرأ أبو بكر بكسر الياء للاتباع، وقرأ ابن كثير وورش وهشام بفتح الخاء على إلقاء حركة التاء إليه، وأبو عمرو وقالون به مع الإِختلاس وعن نافع الفتح فيه والإِسكان والتشديد وكأنه جوز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغماً، وقرأ حمزة {يَخِصّمُونَ} من خصمه إذا جادله.
{فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} في شيء من أمورهم. {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} فيروا حالهم بل يموتون حيث تبغتهم.
{وَنُفِخَ في الصور} أي مرة ثانية وقد سبق تفسيره في سورة {المؤمنين}. {فَإِذَا هُم مّنَ الأجداث} من القبور جمع جدث وقرئ بالفاء. {إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ} يسرعون وقرئ بالضم.
{قَالُواْ ياويلنا} وقرئ: {يا ويلتنا}. {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} وقرئ: {من أهبنا} من هب من نومه إذا انتبه ومن هبنا بمعنى أهبنا، وفيه ترشيح ورمز وإشعار بأنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نياماً، و{مَن بَعَثَنَا} و{من هبنا} على الجارة والمصدر، وسكت حفص وحده عليها سكتة لطيفة والوقف عليها في سائر القراءات حسن. {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} مبتدأ وخبر و{مَا} مصدرية، أو موصولة محذوفة الراجع، أو {هذا} صفة ل {مَّرْقَدِنَا} و{مَا وَعَدَ} خبر محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون}، أو {مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} حق وهو من كلامهم، وقيل جواب للملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم، معدول عن سننه تذكيراً لكفرهم وتقريعاً لهم عليه وتنبيهاً بأن الذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث كأنهم قالوا: بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأرسل إليكم الرسل فصدقوكم وليس الأمر كما تظنون، فإنه ليس يبعث النائم فيهمكم السؤال عن الباعث وإنما هو البعث الأكبر ذو الأهوال.
{إِن كَانَتْ} ما كانت الفعلة. {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} هي النفخة الأخيرة، وقرئت بالرفع على كان التامة. {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} بمجرد تلك الصيحة وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر واستغناؤهما عن الأسباب التي ينوطان بها فيما يشاهدونه.

.تفسير الآيات (54- 65):

{فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)}
{فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} حكاية لما يقال لهم حينئذ تصويراً للموعود وتمكيناً له في النفوس وكذا قوله: {إِنَّ أصحاب الجنة اليوم في شُغُلٍ فاكهون} متلذذون في النعمة من الفكاهة، وفي تنكير {شُغُلٍ} وإبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ، وتنبيه على أنه أعلى ما يحيط به الأفهام ويعرب عن كنهه الكلام، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {فِى شُغُلٍ} بالسكون، ويعقوب في رواية {فكهون} للمبالغة وهما خبران ل {إِنْ}، ويجوز أن يكون {فِى شُغُلٍ} صلة {لفاكهون}، وقرئ: {فكهون} بالضم وهو لغة كنطس ونطس {وفاكهين} {وفكهين} على الحال من المستكهن في الظرف، و{شُغُلٍ} بفتحتين وفتحة وسكون والكل لغات.
{هُمْ وأزواجهم في ظلال} جمع ظل كشعاب أو ظلة كقباب ويؤيده قراءة حمزة والكسائي في {ظلل}. {على الأرائك} على السرر المزينة. {مُتَّكِئُونَ} و{هُمْ} مبتدأ خبره {فِى ظلال}، و{على الأرائك} جملة مستأنفة أو خبر ثان أو {مُتَّكِئُونَ} والجاران صلتان له، أو تأكيد للضمير في شغل أو في فاكهون، وعلى الأرائك متكئون خبر آخر لإِن وأزواجهم عطف على {هُمْ} للمشاركة في الأحكام الثلاثة، و{فِى ظلال} حال من المعطوف والمعطوف عليه.
{لَهُمْ فِيهَا فاكهة وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} ما يدعون به لأنفسهم يفتعلون من الدعاء كاشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه، أو ما يتداعونه كقولك ارتموه بمعنى تراموه، أو يتمنون من قولهم ادع علي ما شئت بمعنى تمنه علي، أو ما يدعونه في الدنيا من الجنة ودرجاتها و{مَا} موصولة أو موصوفة مرتفعة بالابتداء، و{لَهُمْ} خبرها وقوله: {سلام} بدل منها أو صفة أخرى، ويجوز أن يكون خبرها أو خبر محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر أي ولهم سلام، وقرئ بالنصب على المصدر أو الحال أي لهم مرادهم خالصاً. {قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} أي يقول الله أو يقال لهم قولاً كائناً من جهته، والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيماً لهم وذلك مطلوبهم ومتمناهم، ويحتمل نصبه على الاختصاص.
{وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} وانفردوا عن المؤمنين وذلك حين يسار بهم إلى الجنة كقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} وقيل اعتزلوا من كل خير أو تفرقوا في النار فإن لكل كافر بيتاً ينفرد به لا يرى ولا يرى.
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} من جملة ما يقال لهم تقريعاً وإلزاماً للحجة، وعهده إليهم ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادته الزاجرة عن عبادة غيره وجعلها عبادة الشيطان، لأنه الآمر بها والمزين لها، وقرئ: {أَعْهَدْ} بكسر حرف المضارعة و{أحهد} و{أحد} على لغة بني تميم.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تعليل للمنع عن عبادته بالطاعة فيها يحملهم عليه.
{وَأَنِ اعبدونى} عطف على {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ}. {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} إشارة إلى ما عهد إليهم أو إلى عبادته، فالجملة استئناف لبيان المقتضي للعهد بشقيه أو بالشق الآخر، والتنكير للمبالغة والتعظيم، أو للتبعيض فإن التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم.
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} رجوع إلى بيان معاداة الشيطان مع ظهور عداوته ووضوح إضلاله لمن له أدنى عقل ورأي والجبل الخلق، وقرأ يعقوب بضمتين وابن كثير وحمزة والكسائي بهما مع تخفيف اللام وابن عامر وأبو عمرو بضمة وسكون مع التخفيف والكل لغات، وقرئ: {جِبِلاًّ} جمع جبلة كخلقة وخلق و{جيلاً} واحد الأجيال.
{هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.
{اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا.
{اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} نمنعها عن الكلام. {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بظهور آثار المعاصي عليها ودلالتها على أفعالها، أو إنطاق الله إياها وفي الحديث: «إنهم يجحدون ويخاصمون فيختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم».