فصل: تفسير الآيات (66- 75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (66- 75):

{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)}
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة. {فاستبقوا الصراط} فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه، وانتصابه بنزع الخافض أو بتضمين الاستباق معنى الابتدار، أو جعل المسبوق إليه مسبوقاً على الاتساع أو بالظرف. {فأنى يُبْصِرُونَ} الطريق وجهة السلوك فضلاً عن غيره.
{وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم} بتغيير صورهم وإبطال قواهم. {على مكانتهم} مكانهم بحيث يجمدون فيه، وقرأ أبو بكر {مكاناتهم}. {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً} ذهاباً. {وَلاَ يَرْجِعُونَ} ولا رجوعاً فوضع الفعل موضعه للفواصل، وقيل: {لاَ يَرْجِعُونَ} عن تكذيبهم، وقرئ: {مُضِياً} بإتباع الميم الضاد المكسورة لقلب الواو ياء كالمعتى والمعتي ومضياً كصبي، والمعنى أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم واقتضاء الحكمة إمهالهم.
{وَمَن نّعَمّرْهُ} ومن نطل عمره. {نُنَكِّسْهُ في الخلق} نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاض بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره، وابن كثير على هذه يشبع ضمة الهاء على أصله، وقرأ عاصم وحمزة {نُنَكّسْهُ} من التنكيس وهو أبلغ والنكس أشهر. {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما ويزاد غير أنه على تدرج، وقرأ نافع برواية ابن عامر وابن ذكوان ويعقوب بالتاء لجري الخطاب قبله.
{وَمَا علمناه الشعر} رد لقولهم إن محمداً شاعر أي ما علمناه الشعر بتعليم القرآن، فإنه لا يماثله لفظاً ولا معنى لأنه غير مقفى ولا موزون، وليس معناه ما يتوخاه الشعراء من التخيلات المرغبة والمنفرة ونحوها. {وَمَا يَنبَغِي لَهُ} وما يصح له الشعر ولا يتأتى له إن أراد قرضه على ما خبرتم طبعه نحواً من أربعين سنة، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» وقوله:
هَلٌ أَنَتَ إلا إِصبعٌ دَميت ** وفي سَبِيلِ الله مَا لقيتِ

اتفاقيٌ من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك، وقد يقع مثله كثيراً في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعراً، هذا وقد روي أنه حرك الباءين وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية، وقيل الضمير لل {قُرْءانَ} أي وما يصح للقرآن أن يكون شعراً. {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} عظة وإرشاد من الله تعالى. {وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} وكتاب سماوي يتلى في المعابد، ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإِعجاز.
{لّيُنذِرَ} القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قراءة نافع وابن عامر ويعقوب بالتاء. {مَن كَانَ حَيّاً} عاقلاً فهما فإن الغافل كالميت، أو مؤمناً في علم الله تعالى فإن الحياة الأبدية بالإِيمان، وتخصيص الإِنذار به لأنه المنتفع به. {وَيَحِقَّ القول} وتجب كلمة العذاب.
{عَلَى الكافرين} المصرين على الكفر، وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة.
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} مما تولينا إحداثه ولم يقدر على إحداثه غيرنا، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص، والتفرد بالإِحداث. {أنعاما} خصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع. {فَهُمْ لَهَا مالكون} متملكون لها بتمليكنا إياها، أو متمكنون من ضبطها والتصرف فيها بتسخيرنا إياها لهم قال:
أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَحَ وَلا ** أَمْلِكُ رَأْسَ البَعِيرِ إِنْ نَفَرَا

{وذللناها لَهُمْ} وصيرناها منقادة لهم. {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} مركوبهم، وقرئ: {ركوبتهم}، وهي بمعناه كالحلوب والحلوبة، وقيل جمعه وركوبهم أي ذو ركوبهم أو فمن منافعها {رَكُوبُهُمْ}. {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي ما يأكلون لحمه.
{وَلَهُمْ فِيهَا منافع} من الجلود والأصواف والأوبار. {ومشارب} من اللبن جمع مشرب بمعنى الموضع، أو المصدر وأمال الشين ابن عامر وحده برواية هشام. {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} نعم الله في ذلك إذ لولا خلقه لها وتذليله إياها كيف أمكن التوسل إلى تحصيل هذه المنافع المهمة.
{واتخذوا مِن دُونِ الله ءَالِهَةً} أشركوها به في العبادة بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة، وعلموا أنه المتفرد بها. {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} رجاء أن ينصروهم فيما حزبهم من الأمور والأمر بالعكس لأنهم.
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ} لآلهتهم. {جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} معدون لحفظهم والذب عنهم، أو {مُحْضَرُونَ} أثرهم في النار.

.تفسير الآيات (76- 83):

{فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}
{فَلاَ يَحْزُنكَ} فلا يهمنك، وقرئ بضم الياء من أحزن. {قَوْلُهُمْ} في الله بالإِلحاد والشرك، أو فيك بالتكذيب والتهجين. {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فنجازيهم عليه وكفى ذلك أن تتسلى به، وهو تعليل للنهي على الاستئناف ولذلك لو قرئ: {أَنَاْ} بالفتح على حذف لام التعليل جاز.
{أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ} تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر، وفيه تقبيح بليغ لإِنكاره حيث عجب منه وجعله إفراطاً في الخصومة بينا ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه، ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفاً مكرماً بالعقوق والتكذيب. روي أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده وقال: أترى الله يحيي هذا بعد ما رم، فقال عليه الصلاة والسلام: «نعم ويبعثك ويدخلك النار فنزلت» وقيل معنى {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً مميز منطيق قادر على الخصام معرب عما في نفسه.
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} أمراً عجيباً وهو نفي القدرة على إحياء الموتى، أو تشبيهه بخلقه بوصفه بالعجز عما عجزوا عنه. {وَنَسِىَ خَلْقَهُ} خلقنا إياه. {قَالَ مَن يُحيِيِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} منكراً إياه مستبعداً له، والرميم ما بلي من العظام، ولعله فعيل بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسماً بالغلبة ولذلك لم يؤنث، أو بمعنى مفعول من رممته. وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء.
{قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فإن قدرته كما كانت لامتناع التغير فيه والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. {وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه وكيفية خلقها، فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتبددة أصولها وفصولها ومواقعها وطريق تمييزها، وضم بعضها إلى بعض على النمط السابق وإعادة الأعراض والقوى التي كانت فيها أو إحداث مثلها.
{الذي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر} كالمرخ والعفار. {نَارًا} بأن يسحق المرخ على العفار وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار. {فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ} لا تشكون فإنها نار تخرج منه، ومن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيتها كان أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضاً فيبس وبلي، وقرئ من {الشجر الخضراء} على المعنى كقوله: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} {أَوَ لَيْسَ الذي خَلَقَ السموات والأرض} مع كبر جرمهما وعظم شأنهما. {بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} في الصغر والحقارة بالإِضافة إليهما، أو مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد، وعن يعقوب {يقدر}.
{بلى} جواب من الله تعالى لتقرير ما بعد النفي مشعر بأنه لا جواب سواه. {وَهُوَ الخلاق العليم} كثير المخلوقات والمعلومات.
{إِنَّمَا أَمْرُهُ} إِنَّمَا شأنه. {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن} أي تكون. {فَيَكُونُ} فهو يكون أي يحدث، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعاً لمادة الشبهة، وهو قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق، ونصبه ابن عامر والكسائي عطفاً على {يِقُولُ}.
{فسبحان الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَئ} تنزيه عما ضربوا له، وتعجيب عما قالوا فيه معللاً بكونه مالكاً للأمر كله قادراً على كل شيء. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وعد ووعيد للمقرين والمنكرين، وقرأ يعقوب بفتح التاء. وعن ابن عباس رضي الله عنه: كنت لا أعلم ما روي في فضل يس كيف خصت به فإذا أنه بهذه الآية. وعنه عليه الصلاة والسلام: «إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس، وأيما مسلم قرأها يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً يصلون عليه ويستغفرون له، ويشهدون غسله ويشيعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض روحه وهو ريان، ويمكث في قبره وهو ريان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان».

.سورة الصافات:

مكية وآيها مائة واثنتان وثمانون آية.

.تفسير الآيات (1- 10):

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)}
{والصافات صَفَّا فالزجرات زَجْراً فالتاليات ذِكْراً} أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية، على مراتب باعتبارها تفيض عليهم الأنوار الإِلهية، منتظرين لأمر الله الزاجرين الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به فيها، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخير، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين آيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأولياءه، أو بطوائف الأجرام المرتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس {يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} أو بنفوس العلماء الصافين في العبادات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه، أو بنفوس الغزاة الصافين في الجهاد الزاجرين الخيل، أو العدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو والعطف لاختلاف الذوات، أو الصفات والفاء لترتيب الوجود كقوله:
يا لهف زيابة للحارث الص ** ابح فالغانم فالآيب

فإن الصف كمال والزجر تكميل بالمنع عن الشر، أو الإِشاقة إلى قبول الخير والتلاوة إفاضته أو الرتبة كقوله عليه الصلاة والسلام: «رحم الله المحلقين فالمقصرين» غير أنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس، وأدغم أبو عمرو وحمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا.
{إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} جواب للقسم والفائدة فيه تعظيم المقسم به وتأكيد المقسم عليه على ما هو المألوف في كلامهم، وأما تحقيقه فبقوله تعالى.
{رَبُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق} فإن وجودها وانتظامها على الوجه الأكمل مع إمكان غيره دليل على وجود الصانع الحكيم ووحدته على ما مر غير مرة، {وَرَبُّ} بدل من واحد أو خبر ثان أو خبر محذوف وما بينهما يتناول أفعال العباد فيدل على أنها من خلقه، و{المشارق} مشارق الكواكب أو مشارق الشمس في السنة وهي ثلاثمائة وستون مشرقاً، تشرق كل يوم في واحد وبحسبها تختلف المغارب، ولذلك اكتفى بذكرها مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة، وما قيل إنها مائة وثمانون إنما يصح لو لم تختلف أوقات الانتقال.
{إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا} القربى منكم. {بِزِينَةٍ الكواكب} بزينة هي {الكواكب} والإِضافة للبيان، ويعضده قراءة حمزة ويعقوب وحفص بتنوين {زينة} وجر {الكواكب} على إبدالها منه، أو بزينة هي لها كأضوائها وأوضاعها، أو بأن زينا {الكواكب} فيها على إضافة المصدر إلى المفعول فإنها كما جاءت اسماً كالليقة جاءت مصدراً كالنسبة ويؤيده قراءة أبي بكر بالتنوين، والنصب على الأصل أو بأن زينتها {الكواكب} على إضافته إلى الفاعل وركوز الثوابت في الكرة الثامنة وما عدا القمر من السيارات في الست المتوسطة بينها وبين السماء الدنيا أن تحقق لم يقدح في ذلك، فإن أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة.
{وَحِفْظاً} منصوب بإضمار فعله، أو العطف على {زينة} باعتبار المعنى كأنه قال إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظاً. {مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ} خارج من الطاعة برمي الشهب.
{لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى} كلام مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم، ولا يجوز جعله صفة لكل شيطان فإنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون، ولا علة للحفظ على حذف اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذف أن وأهدرها كقوله:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

فإن اجتماع ذلك منكر والضمير ل {كُلٌّ} باعتبار المعنى، وتعدية السماع بإلى لتضمنه معنى الإِصغاء مبالغة لنفيه وتهويلاً لما يمنعهم عنه، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي {وحفص} بالتشديد من التسمع وهو طلب السماع و{الملأ الأعلى} الملائكة وأشرافهم. {وَيُقْذَفُونَ} ويرمون. {مِن كُلّ جَانِبٍ} من جوانب السماء إذا قصدوا صعوده.
{دُحُوراً} علة أي للدحور وهو الطرد أو مصدر لأنه والقذف متقاربان، أو حال بمعنى مدحورين أو منزوع عنه الباء جمع دحر، وهو ما يطرد به ويقويه القراءة بالفتح وهو يحتمل أيضاً أن يكون مصدراً كالقبول أو صفة له أي قذفاً دحوراً. {وَلَهُمْ عَذَابُ} أي عذاب آخر. {وَاصِبٌ} دائم أو شديد وهو عذاب الآخرة.
{إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} استثناء من واو {يَسْمَعُونَ} ومن بدل منه، والخطف الاختلاس والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرف الخطفة، وقرئ: {خَطِفَ} بالتشديد مفتوح الخاء ومكسروها وأصلهما اختطف. {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} أتبع بمعنى تبع، والشهاب ما يرى كأن كوكباً انقض، وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين إن صح لم يناف ذلك إذ ليس فيه ما يدل على أنه ينقض من الفلك ولا في قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين} فإن كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض وزينة للسماء من حيث إنه يرى كأنه على سطحه، ولا يبعد أن يصير الحادث كما ذكر في بعض الأوقات رجماً لشياطين تتصعد إلى قرب الفلك للتسمع، وما روي أن ذلك حدث بميلاد النبي عليه الصلاة والسلام إن صح فلعل المراد كثرة وقوعه، أو مصيره {دُحُوراً}. واختلف في أن المرجوم يتأذى به فيرجع أو يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأساً، ولا يقال إن الشيطان من النار فلا يحترق، لأنه ليس من النار الصرف كما أن الإِنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها. {ثَاقِبٌ} مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه.