فصل: تفسير الآيات (11- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (11- 23):

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)}
{فاستفتهم} فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة أو لبني آدم. {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا} يعني ما ذكر من الملائكة والسماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب، و{مِنْ} لتغليب العقلاء ويدل عليه إطلاقه ومجيئه بعد ذلك، وقراءة من قرأ {أم من عددنا}، وقوله: {إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} فإنه الفارق بينهم وبينها لا بينهم وبين من قبلهم كعاد وثمود، وإن المراد إثبات المعاد ورد استحالته والأمر فيه بالإِضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء، وتقريره أن استحالة ذلك إما لعدم قابلية المادة ومادتهم الأصلية هي الطين اللازب الحاصل من ضم الجزء المائي إلى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام بعد، وقد علموا أن الإِنسان الأول إنما تولد منه إما لاعترافهم بحدوث العالم أو بقصة آدم وشاهدوا تولد كثير من الحيوانات منه بلا توسط مواقعة، فلزمهم أن يجوزوا إعادتهم كذلك، وإما لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتد به بالإِضافة إليها سيما ومن ذلك بدؤهم أولاً وقدرته ذاتية لا تتغير.
{بَلْ عَجِبْتَ} من قدرة الله تعالى وإنكارهم للبعث. {وَيَسْخُرُونَ} من تعجبك وتقريرك للبعث، وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء أي بلغ كمال قدرتي وكثرة خلائقي أن تعجبت منها، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها. أو عجبت من أن ينكر البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يجوزه. والعجب من الله تعالى إما على الفرض والتخييل أو على معنى الاستعظام اللازم له فإنه روعة تعتري الإِنسان عند استعظامه الشيء، وقيل إنه مقدر بالقول أي: قال يا محمد بل عجبت.
{وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ} وإذا وعظوا بشيء لا يتعظون به، أو إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم.
{وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً} معجزة تدل على صدق القائل به. {يَسْتَسْخِرُونَ} يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.
{وَقَالُواْ إِن هذا} يعنون ما يرونه. {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر سحريته.
{أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أصله انبعث إذا متنا فبدلوا الفعلية بالاسمية وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإِنكار، وإشعاراً بأن البعث مستنكر في نفسه وفي هذه الحالة أشد استنكاراً، فهو أبلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الأولى وقراءة نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية.
{أَوَ ءَابَاؤُنَا الأولون} عطف على محل {إِن} واسمها، أو على الضمير في {مبعوثون} فإنه مفصول منه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم، وسكن نافع برواية قالون بن عامر والواو على معنى الترديد.
{قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ داخرون} صاغرون، وإنما اكتفى به في الجواب لسبق ما يدل على جوازه وقيام المعجز على صدق المخبر عن وقوعه، وقرئ: {قال} أي الله أو الرسول وقرأ الكسائي وحده {نِعْمَ} بالكسر وهو لغة فيه.
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحدة} جواب شرط مقدر أي إذا كان ذلك فإنما البعثة {زَجْرَةٌ} أي صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وأمرها في الإِعادة كأمر {كُنْ} في الإِبداء ولذلك رتب عليها. {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون، أو ينتظرون ما يفعل بهم.
{وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين} اليوم الذي نجازى بأعمالنا وقد تم به كلامهم وقوله: {هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} جواب الملائكة، وقيل هو أيضاً من كلام بعضهم لبعض والفصل القضاء، أو الفرق بين المحسن والمسيء.
{احشروا الذين ظَلَمُواْ} أمر الله للملائكة، أو أمر بعضهم لبعض بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف. وقيل منه إلى الجحيم. {وأزواجهم} وأشباههم عابد الصنم مع عبدة الصنم وعابد الكوكب مع عبدته كقوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة} أو نساءهم اللاتي على دينهم أو قرناءهم من الشياطين. {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} من الأصنام وغيرها زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم، وهو عام مخصوص بقوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} الآية، وفيه دليل على أن {الذين ظَلَمُواْ} هم المشركون. {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} فعرفوهم طريقاً ليسلكوها.

.تفسير الآيات (24- 44):

{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)}
{وَقِفُوهُمْ} احبسوهم في الموقف. {إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} عن عقائدهم وأعمالهم والواو لا توجب الترتيب مع جواز أن يكون موقفهم متعدداً.
{مَا لَكُمْ لاَ تناصرون} لا ينصر بعضكم بعضاً بالتخليص، وهو توبيخ وتقريع.
{بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم، وأصل الاستسلام طلب السلامة أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضاً ويخذله.
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} يعني الرؤوساء والأتباع أو الكفرة والقرناء. {يَتَسَاءلُونَ} يسأل بعضهم بعضاً للتوبيخ ولذلك فسر ب {يتخاصمون}.
{قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} عن أقوى الوجوه وأيمنها، أو عن الدين أو عن الخير كأنكم تنفعوننا نفع السانح فتبعناكم وهلكنا، مستعار من يمين الإِنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمي يميناً وتيمن بالسانح، أو عن القوة والقهر فتقسروننا على الضلال، أو على الحلف فإنهم كانوا يحلفون لهم إنهم على الحق.
{قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}.
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين} أجابهم الرؤساء أولاً بمنع إضلالهم بأنهم كانوا ضالين في أنفسهم، وثانياً بأنهم ما أجبروهم على الكفر إذ لم يكن لهم عليهم تسلط وإنما جنحوا إليه لأنهم كانوا قوماً مختارين الطغيان.
{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ}.
{فأغويناكم إِنَّا كُنَّا غاوين} ثم بينوا أن ضلال الفريقين ووقوعهم في العذاب كان أمراً مقضياً لا محيص لهم عنه، وإن غاية ما فعلوا بهم أنهم دعوهم إلى الغي لأنهم كانوا على الغي فأحبوا أن يكونوا مثلهم، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية لإِغواء غاو فمن أغواهم.
{فَإِنَّهُمْ} فإن الأتباع والمتبوعين. {يَوْمَئِذٍ في العذاب مُشْتَرِكُونَ} كما كانوا مشتركين في الغواية.
{إِنَّا كَذَلِكَ} مثل ذلك الفعل. {نَفْعَلُ بالمجرمين} بالمشركين لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} أي عن كلمة التوحيد، أو على من يدعوهم إليه.
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} يعنون محمداً عليه الصلاة والسلام.
{بَلْ جَاءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} رد عليهم بأن ما جاء به من التوحيد حق قام به البرهان وتطابق عليه المرسلون.
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا العذاب الأليم} بالإِشراك وتكذيب الرسل، وقرئ بنصب {العذاب}، على تقرير النون كقوله:
وَلاَ ذَاكِرُ الله إِلاَّ قَلِيلاً

وهو ضعيف في غير المحلى باللام وعلى الأصل.
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} إلا مثل ما عملتم.
{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناء منقطع إلا أن يكون الضمير في {تُجْزَوْنَ} لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عنه باعتبار المماثلة، فإن ثوابهم مضاعف والمنقطع أيضاً بهذا الاعتبار.
{أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} خصائصه من الدوام، أو تمحض اللذة ولذلك فسره بقوله: {فواكه} فإن الفاكهة ما يقصد للتلذذ دون التغذي والقوت بالعكس، وأهل الجنة لما أعيدوا على خلقة محكمة محفوظة عن التحلل كانت أرزاقهم فواكه خالصة. {وَهُم مُّكْرَمُونَ} في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال كما عليه رزق الدنيا.
{فِي جنات النعيم} في جنات ليس فيها إلا النعيم، وهو ظرف أو حال من المستكن في {مُّكْرَمُونَ}، أو خبر ثان {لأولئك} وكذلك: {على سُرُرٍ} يحتمل الحال أو الخبر فيكون: {متقابلين} حالاً من المستكن فيه أو في {مُّكْرَمُونَ}، وأن يتعلق ب {متقابلين} فيكون حالاً من ضمير {مُّكْرَمُونَ}.

.تفسير الآيات (45- 54):

{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)}
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ} بإناء فيه خمر أو خمر كقوله:
وَكَأْسٌ شُرِبَتْ عَلَى لَذَّةٍ

{مّن مَّعِينٍ} من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون، أو خارج من العيون وهو صفة للماء من عان الماء إذا نبع. وصف به خمر الجنة لأنها تجري كالماء، أو للإِشعار بأن ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من أنواع الأشربة لكمال اللذة، وكذلك قوله: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ للشاربين} وهما أيضاً صفتان لكأس، ووصفها ب {لَذَّةٍ} إما للمبالغة أو لأنها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب ووزنه فعل قال:
وَلَذّ كَطَعْم الصَرخديّ تَرَكْتُه ** بِأَرْضِ العِدَا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثَانِ

{لاَ فِيهَا غَوْلٌ} غائلة كما في خمر الدنيا كالخمار من غاله يغوله إذا أفسده ومنه الغول. {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} يسكرون من نزف الشارب فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله، أفرده بالنفي وعطفه على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي وتابعهما عاصم في (الواقعة) من أنزف الشارب إذا نفد عقله أو شرابه، وأصله للنفاد يقال نزف المطعون إذا خرج دمه كله ونزحت الركية حتى نزفتها.
{وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} قصرن أبصارهن على أزواجهن. {عِينٌ} نجل العيون جمع عيناء.
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} شبههن ببيض النعام المصون عن الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة فإنه أحسن ألوان الأبدان.
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُوَنَ} معطوف على {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} أي يشربون فيتحادثون على الشراب قال:
وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إِلا ** أَحَادِيثُ الكِرَامِ عَلَى المُدَامِ

والتعبير عنه بالماضي للتأكيد فيه فإنه ألذ تلك اللذات إلى العقل، وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
{قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} في مكالمتهم. {إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ} جليس في الدنيا...
{يِقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين} يوبخني على التصديق بالبعث، وقرئ بتشديد الصاد من التصدق.
{أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءِنَّا لَمَدِينُونَ} لمجزيون من الدين بمعنى الجزاء.
{قَالَ} أي ذلك القائل. {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين، وقيل القائل هو الله سبحانه وتعالى أو بعض الملائكة يقول لهم: هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم؟ وعن أبي عمرو {مُّطَّلِعُونَ فَأَطَّلِعَ} بالتخفيف وكسر النون وضم الألف على أنه جعل اطلاعهم سبب اطلاعه من حيث أن أدب المجالسة يمنع الاستبداد به، أو خاطب الملائكة على وضع المتصل موضع المنفصل كقوله:
هُم الآمِرُونَ الخَيْرَ وَالفَاعِلُونَهُ

أو شبه اسم الفاعل بالمضارع.

.تفسير الآيات (55- 79):

{فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)}
{فَأَطَّلِعَ} عليهم. {فَرَءاهُ} أي قرينه. {فِى سَوَاء الجحيم} وسطه.
{قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} لتهلكني بالإِغواء، وقرئ: {لتغوين} و{إِن} هي المخففة واللام هي الفارقة.
{وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّي} بالهداية والعصمة. {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} معك فيها.
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ} عطف على محذوف أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين، أي بمن شأنه الموت وقرئ: {بمائتين}.
{إِلأ مَوْتَتَنَا الأولى} التي كانت في الدنيا وهي متناولة لما في القبر بعد الإِحياء للسؤال، ونصبها على المصدر من اسم الفاعل. وقيل على الاستثناء المنقطع. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالكفار، وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعاً له أو معاودة إلى مكالمة جلسائه تحدثاً بنعمة الله، أو تبجحاً بها وتعجباً منها وتعريضاً للقرين بالتوبيخ.
{إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} يحتمل أن يكون من كلامهم وأن يكون كلام الله سبحانه وتعالى لتقرير قوله والإِشارة إلى ما هم عليه من النعمة والخلود والأمن من العذاب.
{لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، وهو أيضاً يحتمل الأمرين.
{أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} شجرة ثمرها نزل أهل النار، وانتصاب {نُزُلاً} على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقال للنازل ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار، وهو: اسم شجرة صغيرة الورق ذفر مرة تكون بتهامة سميت به الشجرة الموصوفة.
{إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين} محنة وعذاباً لهم في الآخرة، أو ابتلاء في الدنيا فإنهم لما سمعوا أنها في النار قالوا كيف ذلك والنار تحرق الشجر، ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجرة في النار وحفظه من الإِحراق.
{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
{طَلْعِهَا} حملها مستعار من طلع التمر لمشاركته إياه في الشكل، أو الطلوع من الشجر. {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} في تناهي القبح والهول، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق الحسن بالملك. وقيل: {الشياطين} حيات هائلة قبيحة المنظر لها أعراف، ولعلها سميت بها لذلك.
{فَإِنَّهُمْ لأكِلُونَ مِنْهَا} من الشجرة أو من طلعها. {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} لغلبة الجوع أو الجبر على أكلها.
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا} أي بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم، ويجوز أن يكون ثم لما في شرابهم من مزيد الكراهة والبشاعة. {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} لشراباً من غساق، أو صديد مشوباً بماء حميم يقطع أمعاءهم، وقرئ بالضم وهو اسم ما يشاب به والأول مصدر سمي به.
{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} مصيرهم. {لإِلَى الجحيم} إلى دركاتها أو إلى نفسها، فإن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولهم، وقيل الحميم خارج عنها لقوله تعالى: {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آن} يوردون إليه كما تورد الإِبل إلى الماء ثم يردون إلى الجحيم، ويؤيده أنه قرئ: {ثم إن منقلبهم}.
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَاءهُمْ ضَالّينَ فَهُمْ على ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال، والإِهراع: الإِسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإِسراع على {آثارهم}، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث.
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} قبل قومك. {أَكْثَرُ الأولين}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أنبياء أنذروهم من العواقب.
{فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} من الشدة والفظاعة.
{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} إلا الذين تنبهوا بإنذارهم فأخلصوا دينهم لله، وقرئ بالفتح أي الذين أخلصهم الله لدينه والخطاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقصود خطاب قومه فإنهم أيضاً سمعوا أخبارهم ورأوا آثارهم.
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها، أي ولقد دعانا حين أيس من قومه. {فَلَنِعْمَ المجيبون} أي فأجبناه أحسن الإِجابة فوالله لنعم المجيبون نحن، فحذف منها ما حذف لقيام ما يدل عليه.
{ونجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} من الغرق أو أذى قومه.
{وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} إذ هلك من عداهم وبقوا متناسلين إلى يوم القيامة، إذ روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم.
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الأخرين} من الأمم.
{سلام على نُوحٍ} هذا الكلام جيء به على الحكاية والمعنى يسلمون عليه تسليماً. وقيل هو سلام من الله عليه ومفعول {تَّرَكْنَا} محذوف مثل الثناء. {فِى العالمين} متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعاً.