فصل: تفسير الآيات (9- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (9- 18):

{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)}
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} قائم بوظائف الطاعات. {أَنَاءَ اللَّيْلِ} ساعاته وأم متصلة بمحذوف تقديره الكافر خير {أم من هو قانت}، أو منقطعة والمعنى بل {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} كمن هو بضده، وقرأ الحجازيان وحمزة بتخفيف الميم بمعنى أمن هو قانت لله كمن جعل له أنداداً. {ساجدا وَقَائِماً} حالان من ضمير {قَانِتٌ}، وقرئا بالرفع على الخبر بعد الخبر والواو للجمع بين الصفتين {يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ} في موضع الحال أو الاستئناف للتعليل. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} نفى لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيه باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم. وقيل تقرير للأول على سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون. {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} بأمثال هذه البيانات، وقرئ: {يذكر} بالإِدغام.
{قُلْ يا عِبَادِي الذين ءَامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ} بلزوم طاعته. {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ في هذه الدنيا حَسَنَةٌ} أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة. وقيل معناه للذين أحسنوا حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية، وفي هذه بيان لمكان {حَسَنَةٌ}. {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} فمن تعسر عليه التوفر على الإِحسان في وطنه فليهاجر إلى حيث يتمكن منه. {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون} على مشاق الطاعات من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لها. {أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أجراً لا يهتدي إليه حساب الحساب، وفي الحديث إنه: «ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون بها أجورهم، ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} موحداً له.
{وَأُمِرْتُ لأِنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة، لأن قصب السبق في الدين بالإِخلاص أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من قريش ومن دان بدينهم، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة، والإشعار بأن العبادة المقرونة بالإِخلاص وإن اقتضت لذاتها أن يؤمر بها فهي أيضاً تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين، ويجوز أن تجعل اللام مزيدة كما في أردت لأن أفعل فيكون أمر بالتقدم في الإِخلاص والبدء بنفسه في الدعاء إليه بعد الأمر به.
{قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء. {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لعظمة ما فيه.
{قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى} أمر بالإِخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصاً له دينه بعد الأمر بالإِخبار عن كونه مأموراً بالعبادة والإِخلاص خائفاً عن المخالفة من العقاب قطعاً لأطماعهم، ولذلك رتب عليه قوله: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ} تهديداً وخذلاناً لهم.
{قُلْ إِنَّ الخاسرين} الكاملين في الخسران. {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} بالضلال. {وَأَهْلِيهِمْ} بالإِضلال. {يَوْمَ القيامة} حين يدخلون النار بدل الجنة لأنهم جمعوا وجوه الخسران. وقيل وخسروا أهليهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده. {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} مبالغة في خسرانهم لما فيه من الاستئناف والتصدير ب {أَلاَ}، وتوسيط الفصل وتعريف الخسران ووصفه ب {المبين}.
{لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار} شرح لخسرانهم. {وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أطباق من النار هي ظلل للآخرين. {ذلك يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} ذلك العذاب هو الذي يخوفهم به ليتجنبوا ما يوقعهم فيه. {يَا عِبَادِ فاتقون} ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي.
{والذين اجتنبوا الطاغوت} البالغ غاية الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بني للمبالغة في المصدر كالرحموت، ثم وصف به للمبالغة في النعت ولذلك اختص بالشيطان. {أَن يَعْبُدُوهَا} بدل اشتمال منه. {وَأَنَابُواْ إِلَى الله} وأقبلوا إليه بشراشرهم عما سواه. {لَهُمُ البشرى} بالثواب على ألسنة الرسل، أو الملائكة عند حضور الموت. {فَبَشّرْ عِبَادِ}.
{الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وضع فيه الظاهر موضع ضمير {الذين اجتنبوا} للدلالة على مبدأ اجتنابهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحق والباطل ويؤثرون الأفضل فالأفضل. {أُوْلَئِكَ الذين هَدَاهُمُ الله} لدينه. {وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الألباب} العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة، وفي ذلك دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله وقبول النفس لها.

.تفسير الآيات (19- 23):

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن في النار} جملة شرطية معطوفة على محذوف دل عليه الكلام تقديره أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، فكررت الهمزة في الجزاء لتأكيد الإِنكار والاستبعاد، ووضع {مَن في النار} موضع الضمير لذلك وللدلالة على أن من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلف فيه، وأن اجتهاد الرسل في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار، ويجوز أن يكون {أَفَأَنتَ} تنقذ جملة مستأنفة للدلالة على ذلك والإِشعار بالجزاء المحذوف.
{لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} علالي بعضها فوق بعض. {مَّبْنِيَّةٌ} بنيت بناء النازل على الأرض. {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي من تحت تلك الغرف. {وَعَدَ الله} مصدر مؤكد لأن قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى الوعد. {لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد} ولأن الخلف نقص وهو على الله محال.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} هو المطر. {فَسَلَكَهُ} فأدخله. {يَنَابِيعَ في الأرض} هي عيون ومجاري كائنة فيها، أو مياه نابعات فيها إذ الينبوع جاء للمنبع وللنابع فنصبها على الظرف أو الحال. {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} أصنافه من بر وشعير وغيرهما، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما. {ثُمَّ يَهِيجُ} يتم جفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منبته. {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} من يبسه. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما} فتاتاً. {إِنَّ في ذَلِكَ لذكرى} لتذاكيراً بأنه لابد من صانع حكيم دبره وسواه، أو بأنه مثل الحياة الدنيا فلا تغتر بها. {لأُوْلِى الألباب} إِذْ لاَ يَتَذكر به غيرهم.
{أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} حتى تمكن فيه بيسر عبر به عمن خلق نفسه شديدة الاستعداد لقبوله غير متأبية عنه من حيث أن الصدر محل القلب المنبع للروح المتعلق للنفس القابلة للإِسلام. {فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ} يعني المعرفة والاهتداء إلى الحق. وعنه عليه الصلاة والسلام: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، فقيل فما علامة ذلك قال: الإِنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله» وخبر {مِنْ} محذوف دل عليه {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله} من أجل ذكره وهو أبلغ من أن يكون عن مكان من، لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبياً عن قبوله من القاسي عنه لسبب آخر، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بامتناع ذكر شرح الصدر وأسنده إلى الله وقابله بقساوة القلب وأسنده إليه. {أُوْلَئِكَ في ضلال مُّبِينٍ} يظهر للناظر بأدنى نظر، والآية نزلت في حمزة وعلي وأبي لهب وولده.
{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} يعني القرآن، روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له حدثنا فنزلت. وفي الابتداء باسم الله وبناء نزل عليه تأكيد للإسناد إليه وتفخيم للمنزل واستشهاد على حسنه. {كتابا متشابها} بدل من {أَحْسَنُ} أو حال منه، وتشابهه تشابه أبعاضه في الإِعجاز وتجاوب النظم وصحة المعنى والدلالة على المنافع العامة. {مَّثَانِيَ} جمع مثنى أو مثنى أو مثن على ما مر في (الحجر)، وصف به كتاباً باعتبار تفاصيله كقولك: القرآن سور وآيات، والإِنسان: عظام وعروق وأعصاب، أو جعل تمييزاً من {متشابها} كقولك: رأيت رجلاً حسناً شمائله. {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} تشمئز خوفاً مما فيه من الوعيد، وهو مثل في شدة الخوف واقشعرار الجلد تقبضه وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس بزيادة الراء ليصير رباعياً كتركيب أقمطر من القمط وهو الشد. {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} بالرحمة وعموم المغفرة، والإِطلاق للإشعار بأن أصل أمره الرحمة وأن رحمته سبقت غضبه، والتعدية ب {إلى} لتضمين معنى السكون والاطمئنان، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها. {ذلك} أي الكتاب أو الكائن من الخشية والرجاء. {هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء} هدايته. {وَمَن يُضْلِلِ الله} ومن يخذله. {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يخرجهم من الضلال.

.تفسير الآيات (24- 31):

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}
{أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ} يجعله درقة يقي به نفسه لأنه يكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه. {سُوءَ العذاب يَوْمَ القيامة} كمن هو آمن منه، فحذف الخبر كما حذف في نظائره.
{وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ} أي لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بالموجب لما يقال لهم وهو: {ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي وباله، والواو للحال وقد مقدرة.
{كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها.
{فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى} الذل. {فِي الحياة الدنيا} كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإِجلاء. {وَلَعَذَابُ الآخرة} المعد لهم. {أَكْبَرُ} لشدته ودوامه. {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} لو كانوا من أهل العلم والنظر لعلموا ذلك واعتبروا به.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ} يحتاج إليه الناظر في أمر دينه. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون به.
{قُرْءاناً عَرَبِيّاً} حال من هذا والاعتماد فيها على الصفة كقولك: جاءني زيد رجلاً صالحاً، أو مدح له. {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} لا اختلال فيه بوجه ما هو أبلغ من المستقيم وأخص بالمعاني. وقيل بالشك استشهاداً بقوله:
وَقَدْ أَتَاكَ يَقِينٌ غَيْرُ ذِيْ عِوَجٍ ** مِنَ الإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ

وهو تخصيص له ببعض مدلوله. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} علة أخرى مرتبة على الأولى.
{ضَرَبَ الله مَثَلاً} للمشرك والموحد. {رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ متشاكسون وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ} مثل المشرك على ما يقتضيه مذهبه من أن يدعي كل واحد من معبوديه عبوديته، ويتنازعوا فيه بعبد يتشارك فيه، جمع يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة في تحيره وتوزع قلبه، والموحد بمن خلص لواحد ليس لغيره عليه سبيل و{رَجُلاً} بدل من مثل وفيه صلة {شُرَكَاء}، والتشاكس والتشاخص الاختلاف. وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون {سلاما} بفتحتين، وقرئ بفتح السين وكسرها مع سكون اللام وثلاثتها مصادر سلم نعت بها، أو حذف منها ذا ورجل سالم أي وهناك رجل سالم، وتخصيص الرجل لأنه أفطن للضر والنفع. {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} صفة وحالاً ونصبه على التمييز ولذلك وحده، وقرئ: {مثلين} للإشعار باختلاف النوع، أو لأن المراد على {يَسْتَوِيَانِ} في الوصفين على أن الضمير للمثلين فإن التقدير مثل رجل ومثل رجل. {الحمد للَّهِ} كل الحمد له لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإِطلاق. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فيشركون به غيره من فرط جهلهم.
{إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} فإن الكل بصدد الموت وفي عداد الموتى، وقرئ: {مائت} و{مائتون} لأنه مما سيحدث.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ} على تغليب المخاطب على الغيب. {يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فتحتج عليهم بأنك كنت على الحق في التوحيد وكانوا على الباطل في التشريك، واجتهدت في الإرشاد والتبليغ ولجوا في التكذيب والعناد، ويعتذرون بالأباطيل مثل {أَطَعْنَا سَادَتَنَا} و{وَجَدْنَا ءابَاءنَا} وقيل المراد به الاختصام العام يخاصم الناس بعضهم بعضاً فيما دار بينهم في الدنيا.