فصل: تفسير الآيات (32- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (32- 40):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)}
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} بإضافة الولد والشريك إليه. {وَكَذَّبَ بالصدق} وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. {إِذْ جَاءهُ} من غير توقف وتفكر في أمره. {أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} وذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم، واللام تحتمل العهد والجنس، واستدل به على تكفير المبتدعة فإنهم يكذبون بما علم صدقه وهو ضعيف لأنه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجيء الرسول به بالتكذيب.
{والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} اللام للجنس ليتناول الرسل والمؤمنين لقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} وقيل هو النبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو ومن تبعه كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} وقيل الجائي هو الرسول والمصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وذلك يقتضي إضمار {الذى} وهو غير جائز. وقرئ: {وَصَدَّقَ بِهِ} بالتخفيف أي صدق به الناس فأداه إليهم كما نزل من غير تحريف، أو صار صادقاً بسببه لأنه معجز يدل على صدقه {وَصَدَّقَ بِهِ} على البناء للمفعول.
{لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبّهِمْ} في الجنة. {ذَلِكَ جَزَاء المحسنين} على إحسانهم.
{لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ} خص الأسوأ للمبالغة فإنه إذا كفر كان غيره أولى بذلك، أو للإشعار بأنهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون أنهم مقصرون مذنبون وأن ما يفرط منهم من الصغائر أسوأ ذنوبهم، ويجوز أن يكون بمعنى السيء كقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان، وقرئ: {أسوأ} جمع سوء. {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ} ويعطيهم ثوابهم. {بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فتعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم فيها.
{أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإِثبات، والعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل الجنس ويؤيده قراءة حمزة والكسائي {عباده}، وفسر بالأنبياء صلوات الله عليهم. {وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} يعني قريشاً فإنهم قالوا له إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا بعيبك إياها. وقيل إنه بعث خالداً ليكسر العزى فقال له سادنها أُحَذِّرْكَهَا فإن لها شدة، فعمد إليها خالد فهشم أنفها فنزل تخويف خالد منزلة تخويفه لأنه الآمر له بما خوف عليه. {وَمَن يُضْلِلِ الله} حتى غفل عن كفاية الله له وخوفه بما لا ينفع ولا يضر. {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى الرشاد.
{وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ} إذ لا راد لفعله كما قال: {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ} غالب منيع. {ذِى انتقام} ينتقم من أعدائه.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} لوضوح البرهان على تفرده بالخلقية. {قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ} أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى وأن آلهتكم إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه.
{أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ} بنفع. {هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} فيمسكنها عني، وقرأ أبو عمرو {كاشفات ضُرّهِ} {ممسكات رَحْمَتِهِ} بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته. {قُلْ حَسْبِىَ الله} كافياً في إصابة الخير ودفع الضر إذ تقرر بهذا التقرير أنه القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر. روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سألهم فسكتوا فنزل ذلك، وإنما قال: {كاشفات} و{ممسكات} على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيهاً على كمال ضعفها. {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} لعلمهم بأن الكل منه تعالى.
{قُلْ يا قَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالكم، اسم للمكان استعير للحال كما استعير هنا وحيث من المكان للزمان، وقرئ: {مكاناتكم}. {إِنّى عامل} أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا يقف فإنه تعالى يزيده على مر الأيام قوة ونصرة ولذلك توعدهم بكونه منصوراً عليهم في الدارين فقال: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
{مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} فإن خزي أعدائه دليل غلبته، وقد أخزاهم الله يوم بدر. {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم وهو عذاب النار.

.تفسير الآيات (41- 50):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)}
{إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ} لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم. {بالحق} متلبساً به. {فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ} إذ نفع به نفسه. {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} فإن وباله لا يتخطاها. {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى وإنما أمرت بالبلاغ وقد بلغت.
{الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا} أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها إما ظاهراً وباطناً وذلك عند الموت، أو ظاهراً لا باطناً وهو في النوم. {فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت} ولا يردها إلى البدن، وقرأ حمزة والكسائي قُضِيَ بِضَم القاف وكسر الضاد والموت بالرفع. {وَيُرْسِلُ الأخرى} أي النائمة إلى بدنها عند اليقظة. {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو الوقت المضروب لموته وهو غاية جنس الإرسال. وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن في ابن آدم نفساً وروحاً بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والحياة، فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم قريب مما ذكرناه. {إِنَّ في ذَلِكَ} من التوفي والإِمساك والإِرسال. {لاَيَاتٍ} دالة على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته. {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها بالكلية حين الموت، وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها، وما يعتريها من السعادة والشقاوة والحكمة في توفيها عن ظواهرها وإرسالها حيناً بعد حين إلى توفي آجالها.
{أَمِ اتخذوا} بل اتخذت قريش. {مِن دُونِ الله شُفَعَاءَ} تشفع لهم عند الله. {قُلْ أَوَ لَّوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ} ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم.
{قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً} لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم، والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ورضاه، ولا يستقل بها ثم قرر ذلك فقال: {لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة فيكون الملك له أيضاً حينئذ.
{وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ} دون آلهتهم. {اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} انقبضت ونفرت. {وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ} يعني الأوثان. {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله، ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه، والاشمئزاز أن يمتلئ غماً حتى ينقبض أديم وجهه، والعامل في {إِذَا ذُكِرَ} العامل في إذا المفاجأة.
{قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والأرض عالم الغيب والشهادة} التجئ إلى الله بالدعاء لما تحيرت في أمرهم وضجرت من عنادهم وشدة شكيمتهم، فإنه القادر على الأشياء والعالم بالأحوال كلها.
{أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني وبينهم.
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا في الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء العذاب يَوْمَ القيامة} وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص. {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} زيادة مبالغة فيه وهو نظير قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم} في الوعد.
{وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم. {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} وأحاط بهم جزاؤه.
{فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا} إخبار عن الجنس بما يغلب فيه، والعطف على قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ} بالفاء لبيان مناقضتهم وتعكيسهم في التسبب بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره، وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم. {ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا} أعطيناه إياه تفضلاً فإن التخويل مختص به. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} مني بوجوه كسبه، أو بأني سأعطاه لما لي من استحقاقه، أو من الله بي واستحقاقي، والهاء فيه لما إن جعلت موصولة وإلا فللنعمة والتذكير لأن المراد شيء منها. {بَلْ هي فِتْنَةٌ} امتحان له أيشكر أم يكفر، وهو رد لما قاله وتأنيث الضمير باعتبار الخير أو لفظ ال {نعمة}، وقرئ بالتذكير. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك، وهو دليل على أن الإِنسان للجنس.
{قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ} الهاء لقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} لأنها كلمة أو جملة، وقرئ بالتذكير {والذين مِن قَبْلِهِمْ} قارون وقومه فإنه قال ورضي به قومه {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من متاع الدنيا.

.تفسير الآيات (51- 56):

{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)}
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} جزاء سيئات أعمالهم أو جزاء أعمالهم، وسماه سيئة لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة رمزاً إلى أن جميع أعمالهم كذلك. {والذين ظَلَمُواْ} بالعتو. {مِنْ هَؤُلاَءِ} المشركين و{مِنْ} للبيان أو للتبعيض. {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُواْ} كما أصاب أولئك، وقد أصابهم فإنهم قحطوا سبع سنين وقتل ببدر صناديدهم. {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين.
{أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} حيث حبس عنهم الرزق سبعاً ثم بسط لهم سبعاً. {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بأن الحوادث كلها من الله بوسط أو غيره.
{قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} أفرطوا في الجناية عليها بالإِسراف في المعاصي، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن. {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} لا تيأسوا من مغفرته أولاً وتفضله ثانياً. {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} عفواً ولو بَعْدَ بُعْدٍ، تقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية، والتعليل بقوله: {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في {عِبَادِى} من الدلالة على الذلة، والإِختصاص المقتضيين للترحم، وتخصيص ضرر الإِسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقاً عن الرحمة فضلاً عن المغفرة، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، ووضع اسم {الله} موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإِطلاق والتأكيد بالجميع. وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال: ألا ومن أشرك ثلاث مرات» وما روي أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت. وقيل في عياش والوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله: {وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} بأنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإِخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب.
{واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه، والعزائم دون الرخص أو الناسخ دون المنسوخ، ولعله ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة. {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} بمجيئه فتتداركوا.
{أَن تَقُولَ نَفْسٌ} كراهة أن تقول وتنكير {نَفْسٌ} لأن القائل بعض الأنفس أو للتكثير كقول الأعشى:
وَرُبَّ بَقِيعَ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّه ** أَتَانِي كَرِيمٌ يَنْفُضُ الرَّأْسَ مُغْضبا

{يَا حسرتى} وقرئ بالياء على الأصل. {على مَا فَرَّطَتُ} بما قصرت. {فِى جَنبِ الله} في جانبه أي في حقه وهو طاعته. قال سابق البربري:
أَمَا تَتَّقِينَ الله فِي جَنْبٍ وَامِق ** لَهُ كبدٌ حَرّى عَلَيْكَ تَقَطَّع

وهو كناية فيها مبالغة كقوله:
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالمُرُوءَةَ وَالنَّدَى ** فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الحَشْرَجِ

وقيل ذاته على تقدير مضاف كالطاعة وقيل في قربه من قوله تعالى: {والصَّاحِب بالجنب} وقرئ: {في ذكر الله}. {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} المستهزئين بأهله ومحل {إِن كُنتَ} نصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر.