فصل: تفسير الآيات (59- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (59- 74):

{إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)}
{إِنَّ الساعة لأَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} في مجيئها لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسون به.
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى} اعبدوني. {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أثبكم لقوله: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} صاغرين، وإن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلاً منزلته للمبالغة، أو المراد بالعبادة الدعاء فإنه من أبوابها. وقرأ ابن كثير وأبو بكر {سَيُدْخَلُونَ} بضم الياء وفتح الخاء.
{الله الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} لتستريحوا فيه بأن خلقه بارداً مظلماً ليؤدي إلى ضعف الحركات وهدوء الحواس. {والنهار مُبْصِراً} يبصر فيه أو به، وإسناد الإِبصار إليه مجاز فيه مبالغة ولذلك عدل به عن التعليل إلى الحال: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} لا يوازيه فضل، وللإِشعار به لم يقل لمفضل. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم، وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم.
{ذلكم} المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية. {الله رَبُّكُمْ خالق كُلِّ شَئ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقررها، وقرئ: {خالق} بالنصب على الاختصاص فيكون {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} استئنافاً بما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة. {فأنى تُؤْفَكُونَ} فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بئايات الله يَجْحَدُونَ} أي كما أفكوا أفك عن الحق كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها.
{الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسماء بِنَاءً} استدلال ثان بأفعال أخر مخصوصة. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} بأن خلقكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء، والتخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} اللذائذ. {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ العالمين} فإن كل ما سواه مربوب مفتقر بالذات معرض للزوال.
{هُوَ الحي} المتفرد بالحياة الذاتية. {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} إذ لا موجد سواه ولا موجد يساويه أو يدانيه في ذاته وصفاته. {فادعوه} فاعبدوه. {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي الطاعة من الشرك والرياء. {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} قائلين له.
{قُلْ إِنّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَمَّا جَاءَنِى البينات مِن رَّبّى} من الحجج والآيات أو من الآيات فإنها مقوية لأدلة العقل منبهة عليها. {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ العالمين} بأن أنقاد له أو أخلص له ديني.
{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أطفالاً، والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم.
{ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} اللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا وكذا في قوله: {ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً} ويجوز عطفه على {لِتَبْلُغُواْ} وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام {شُيُوخاً} بضم الشين. وقرئ: {شيخاً} كقوله: {طِفْلاً}. {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ} من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد. {وَلِتَبْلُغُواْ} ويفعل ذلك لتبلغوا: {أَجَلاً مُّسَمًّى} هو وقت الموت أو يوم القيامة. {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ما في ذلك من الحجج والعبر.
{هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً} فإذا أراده. {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة، والفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق من حيث أنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون في ءايات الله أنى يُصْرَفُونَ} عَن التصديق به وتكريم ذم المجادلة لتعدد المجادل، أو المجادل فيه أو للتأكيد.
{الذين كَذَّبُواْ بالكتاب} بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية. {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} من سائر الكتب أو الوحي والشرائع. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} جزاء تكذيبهم.
{إِذِ الأغلال في أعناقهم} ظرف ل {يَعْلَمُونَ} إذ المعنى على الاستقبال، والتعبير بلفظ المضي لتيقنه. {والسلاسل} عطف على {الأغلال} أو مبتدأ خبره. {يُسْحَبُونَ}.
{فِى الحميم} والعائد محذوف أي يسحبون بها، وهو على الأول حال. وقرئ: {والسلاسل يُسْحَبُونَ} بالنصب وفتح الياء على تقديم المفعول وعطف الفعلية على الاسمية، {والسلاسل} بالجر حملاً على المعنى {إِذِ الإغلال في أعناقهم} بمعنى أعناقهم في الأغلال، أو إضماراً للباء ويدل عليه القراءة به. {ثُمَّ في النار يُسْجَرُونَ} يحرقون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومنه السجير للصديق كأنه سجر بالحب أي ملئ. والمراد أنهم يعذبون بأنواع من العذاب وينقلون من بعضها إلى بعض.
{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} غابوا عنا وذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم، أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم. {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً} أي بل تبين لنا لم نكن نعبد شيئاً بعبادتهم فإنهم ليسوا شيئاً يعتد به كقولك: حسبته شيئاً فلم يكن. {كذلك} مثل ذلك الضلال. {يُضِلُّ الله الكافرين} حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة، أو يضلهم عن آلهتهم حتى لو تطالبوا لم يتصادفوا.

.تفسير الآيات (75- 85):

{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
{ذلكم} الإِضلال. {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرض} تبطرون وتتكبرون. {بِغَيْرِ الحق} وهو الشرك والطغيان. {وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} تتوسعون في الفرح، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ.
{ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ} الأبواب السبعة المقسومة لكم. {خالدين فِيهَا} مقدرين الخلود. {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} عن الحق جهنم، وكان مقتضى النظم فبئس مدخل المتكبرين ولكن لما كان الدخول المقيد بالخلود بسبب الثواء عبر بالمثوى.
{فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله} بهلاك الكافرين. {حَقّ} كائن لا محالة. {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} فإن نرك، وما مزيدة لتأكيد الشرطية ولذلك لحقت النون الفعل ولا تلحق مع أن وحدها. {بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} وهو القتل والأسر. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن تراه. {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب {نَتَوَفَّيَنَّكَ}، وجواب {نُرِيَنَّكَ} محذوف مثل فذاك، ويجوز أن يكون جواباً لهما بمعنى إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب، ويدل على شدته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} إذ قيل عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والمذكور قصصهم أشخاص معدودة. {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} فإن المعجزات عطايا قسمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها. {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ الله} بالعذاب في الدنيا أو الآخرة. {قُضِىَ بالحق} بإنجاء المحق وتعذيب المبطل. {وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} المعاندون باقتراح الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها.
{الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فإن من جنسها ما يؤكل كالغنم ومنها ما يؤكل ويركب كالإِبل والبقر.
{وَلَكُمْ فيِهَا منافع} كالألبان والجلود والأوبار. {وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُمْ} بالمسافرة عليها. {وَعَلَيْهَا} في البر. {وَعَلَى الفلك} في البحر. {تُحْمَلُونَ} وإنما قال: {وَعَلَى الفلك} ولم يقل في الفلك للمزاوجة، وتغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة. وقيل لأنه يقصد به التعيش وهو من الضروريات والتلذذ والركوب والمسافرة عليها قد تكون لأغراض دينية واجبة أو مندوبة، أو للفرق بين العين والمنفعة.
{وَيُرِيكُمْ ءاياته} دلائله الدالة على كمال قدرته وفرط رحمته. {فَأَىَّ آيَاتِ اللهِ} أي فأي آية من تلك الآيات. {تُنكِرُونَ} فإنها لظهورها لا تقبل الإِنكار، وهو ناصب {أي} إذا لو قدرته متعلقاً بضميره كان الأولى رفعه والتفرقة بالتاء في أي أغرب منها في الأسماء غير الصفات لإبهامه.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً في الأرض} ما بقي منهم من القصور والمصانع ونحوهما، وقيل آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم.
{فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} {ما} الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به.
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزات أو الآيات الواضحات. {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} واستحقروا علم الرسل، والمراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة كقوله: {بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ في الاخرة} وهو قولهم: لا نبعث ولا نعذب، وما أظن الساعة قائمة ونحوها، وسماها علماً على زعمهم تهكماً بهم، أو علم الطبائع والتنجيم والصنائع ونحو ذلك، أو علم الأنبياء، وفرحهم به ضحكهم منه واستهزاؤهم به ويؤيده: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} وقيل الفرح أيضاً للرسل فإنهم لما رأوا تمادي جهل الكفار وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
{فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} شدة عذابنا. {قَالُواْ ءَامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} يعنون الأصنام.
{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} لامتناع قبوله حينئذ ولذلك قال: {لَمْ يَكُ} بمعنى لم يصح ولم يستقم، والفاء الأولى لأن قوله: {فَمَا أغنى} كالنتيجة لقوله: {كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ}، والثانية لأن قوله: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} كالتفسير لقوله: {فَمَا أغنى} والباقيتان لأن رؤية البأس مسببة عن مجيء الرسل وامتناع نفي الإِيمان مسبب عن الرؤية. {سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ} أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد وهي من المصادر المؤكدة. {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} أي وقت رؤيتهم البأس، اسم مكان استعير للزمان. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له».

.سورة فصلت:

مكية وآيها ثلاث أو أربع وخمسون آية.

.تفسير الآيات (1- 11):

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)}
{حَمَ} إن جعلته مبتدأ فخبره.
{تَنزِيلٌ مّنَ الرحمن الرحيم} وإن جعلته تعديداً للحروف ف {تَنزِيلَ} خبر محذوف أو مبتدأ لتخصصه بالصفة وخبره: {كِتَابٌ} وهو على الأولين بدل منه أو خبر آخر أو خبر محذوف، ولعل افتتاح هذه السور السبع ب {حم} وتسميتها به لكونها مصدرة ببيان الكتاب متشاكلة في النظم والمعنى، وإضافة ال {تَنزِيلَ} إلى {الرحمن الرحيم} للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية والدنيوية. {فُصّلَتْ ءاياته} ميزت باعتبار اللفظ والمعنى. وقرئ: {فُصّلَتْ} أي فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني، أو فصلت بين الحق والباطل. {قُرْءاناً عَرَبِيّاً} نصب على المدح أو الحال من {فُصّلَتْ}، وفيه امتنان بسهولة قراءاته وفهمه. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي لقوم يعلمون العربية أو لأهل العلم والنظر، وهو صفة أخرى ل {قُرْءاناً} أو صلة ل {تَنزِيلَ}، أو ل {فُصّلَتْ}، والأول أولى لوقوعه بين الصفات.
{بَشِيراً وَنَذِيراً} للعاملين به والمخالفين له، وقرئا بالرفع على الصفة لل {كِتَابٌ} أو الخبر لمحذوف. {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عن تدبره وقبوله. {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} سماع تأمل وطاعة.
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ} أغطية جمع كنان. {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ} صمم، وأصله الثقل، وقرئ بالكسر. {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} يمنعنا عن التواصل، ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم ومنه بحيث استوعب المسافة المتوسطة ولم يبق فراغ. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقادهم ومج أسماعهم له، وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم. {فاعمل} على دينك أو في إبطال أمرنا. {إِنَّنَا عاملون} على ديننا أو في إبطال أمرك.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} لست ملكاً ولا جنياً لا يمكنكم التلقي منه، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول والاسماع، وإنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل، وقد يدل عليهما دلائل العقل وشواهد النقل. {فاستقيموا إِلَيْهِ} فاستقيموا في أفعالكم متوجهين إليه، أو فاستووا إليه بالتوحيد والإِخلاص في العمل. {واستغفروه} مما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل، ثم هددهم على ذلك فقال: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ} من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله.
{الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} لبخلهم وعدم اشفاقهم على الخلق، وذلك من أعظم الرذائل، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. وقيل معناه لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإِيمان والطاعة. {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كافرون} حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم للآخرة.
{إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ} عظيم. {غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا يمن به عليهم من المن وأصله الثقل، أو لا يقطع من مننت الحبل إذا قطعته. وقيل نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصلح ما كانوا يعملون.
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ} في مقدار يومين، أو نوبتين وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون. ولعل المراد من {الأرض} ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة ومن خلقها {فِى يَوْمَيْنِ} أنه خلق لها أصلاً مشتركاً ثم خلق لها صوراً بها صارت أنواعاً، وكفرهم به إلحادهم في ذاته وصفاته. {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} ولا يصح أن يكون له ند. {ذلك} الذي {خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ}. {رَبّ العالمين} خالق جميع ما وجد من الممكنات ومربيها.
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} استئناف غير معطوف على {خَلقَ} للفصل بما هو خارج عن الصلة. {مّن فَوْقِهَا} مرتفعة عليها ليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار وتكون منافعها معرضة للطلاب. {وبارك فِيهَا} وأكثر خيرها بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوان. {وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها} أقوات أهلها بأن عين لكل نوع ما يصلحه ويعيش به، أو أقواتاً تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها، وقرئ: {وقسم فِيهَا أقواتها}. {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} في تتمة أربعة أيام كقولك: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً. ولعله قال ذلك ولم يقل في يومين للإِشعار باتصالهما باليومين الأولين. والتصريح على الفذلكة. {سَوَاءٌ} أي استوت سواء بمعنى استواء، والجملة صفة أيام ويدل عليه قراءة يعقوب بالجر. وقيل حال من الضمير في أقواتها أو في فيها، وقرئ بالرفع على هي سواء. {لّلسَّائِلِينَ} متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، أو بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها.
{ثُمَّ استوى إِلَى السماء} قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجهاً لا يلوي على غيره، والظاهر أن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} ودحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها. {وَهِىَ دُخَانٌ} أمر ظلماني، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي كتب منها {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا} بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة. أو {ائتيا} في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة، أو الإِخبار أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة، وقد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما ويؤيده قراءة {آتيا} في المؤاتاة أي لتوافق كل واحدة أختها فيما أردت منكما. {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} شئتما ذلك أو أبيتما والمراد إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده لا إثبات الطوع والكره لهما، وهما مصدران وقعا موقع الحال. {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} منقادين بالذات، والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيهما وتأثرهما بالذات عنها، وتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع كقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} وما قيل من أنه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب إنما يتصور على الوجه الأول والأخير، وإنما قال طائعين على المعنى باعتبار كونهما مخاطبتين كقوله: {ساجدين}