فصل: تفسير الآيات (12- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (12- 22):

{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)}
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} فخلقهن خلقاً إبداعياً وأتقن أمرهن، والضمير ل {السماء} على المعنى أو مبهم، و{سَبْعَ سموات} حال على الأول وتمييز على الثاني. {فِى يَوْمَيْنِ} قيل خلق السموات يوم الخميس والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة. {وأوحى في كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} شأنها وما يتأتى منها بأن حملها عليه اختياراً أو طبعاً. وقيل أوحى إلى أهلها بأوامره ونواهيه. {وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح} فإن الكواكب كلها ترى كأنها تتلألأ عليها. {وَحِفْظاً} أي وحفظناها من الآفات، أو من المسترقة حفظاً. وقيل مفعول له على المعنى كأنه قال: وخصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظاً. {ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} البالغ في القدرة والعلم.
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ} عن الإِيمان بعد هذا البيان. {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاعقة} فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. {مِّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} وقرئ: {صعقة مثل صعقة عاد وثمود} وهي المرة من الصعق أو الصعق يقال صعقته الصاعقة صعقاً فصعق صعقاً.
{إِذْ جَاءَتْهُمُ الرسل} حال من {صاعقة عَادٍ}، ولا يجوز جعله صفة ل {صاعقة} أو ظرفاً ل {أَنذَرْتُكُمْ} لفساد المعنى. {مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أتوهم من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة، أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة، وكل من اللفظين يحتملهما، أو من قبلهم ومن بعدهم إذ قد بلغتهم خبر المتقدمين وأخبرهم هود وصالح عن المتأخرين داعين إلى الإِيمان بهم أجمعين، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ} {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} بأن لا تعبدوا أو أي لا تعبدوا. {قَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا} إرسال الرسل. {لأَنزَلَ ملائكة} برسالته. {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} على زعمكم. {كافرون} إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لَكُمْ علينا.
{فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا في الأرض بِغَيْرِ الحق} فتعظموا فيها على أهلها من غير استحقاق. {وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} اغتراراً بقوتهم وشوكتهم. قيل كان من قوتهم أن الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده. {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} قدرة فإنه قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى، قوي على ما لا يقدر عليه أحد غيره. {وَكَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ} يعرفون أنها حق وينكرونها وهو عطف على {فاستكبروا}.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} باردة تهلك بشدة بردها من الصر وهو البرد الذي يصر أي يجمع، أو شديدة الصوت في هبوبها من الصرير. {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} جمع نحسة من نحس نحساً نقيص سعد سعداً، وقرأ الحجازيان والبصريان بالسكون على التخفيف أو النعت على فعل، أو الوصف بالمصدر قيل كان آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء.
{لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى في الحياة الدنيا} أضاف ال {عَذَابِ} إلى {الخزى} وهو الذل على قصد وصفة به لقوله: {وَلَعَذَابُ الأخرة أخزى} وهو في الأصل صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإِسناد المجازي للمبالغة. {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم.
{وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم} فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل، وقرئ: {ثَمُودَ} بالنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده ومنوناً في الحالين وبضم الثاء. {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} فاختاروا الضلالة على الهدى. {فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب الهون} صاعقة من السماء فأهلكتهم، وإضافتها إلى {العذاب} ووصفه ب {الهون} للمبالغة. {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من اختيار الضلالة.
{وَنَجَّيْنَا الذين ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ} من تلك الصاعقة.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَى النار} وقرئ: {يَحْشُرُ} على البناء للفاعل وهو الله عز وجل. وقرأ نافع{نَحْشُرُ} بالنون مفتوحة وضم الشين ونصب {أَعْدَاء}. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم لئلا يتفرقوا وهو عبارة عن كثرة أهل النار.
{حتى إِذَا مَا جَاؤُوهَا} إذا حضروها و{مَا} مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور. {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بأن ينطقها الله تعالى، أو يظهر عليها آثاراً تدل على ما اقترف بها فتنطق بلسان الحال.
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} سؤال توبيخ أو تعجب، ولعل المراد به نفس التعجب. {قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَئ} أي ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء، أو ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الذي أنطق كل حي، ولو أول الجواب والنطق بدلالة الحال بقي الشيء عاماً في الموجودات الممكنة. {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود وأن يكون استئنافاً.
{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ} أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم بها فما استترتم عنها. وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أنه لا يمر عليه حال إلا وهو عليه رقيب. {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ} فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.

.تفسير الآيات (23- 35):

{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}
{وَذَلِكُمْ} إشارة إلى ظنهم هذا، وهو مبتدأ وقوله: {ظَنُّكُمْ الذي ظَنَنتُمْ بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ} خبران له ويجوز أن يكون {ظَنُّكُمُ} بدلاً و{أَرْدَاكُمْ} خبراً. {فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الخاسرين} إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سبباً لشقاء المنزلين.
{فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} لا خلاص لهم عنها. {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ} يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبون. {فَمَا هُم مّنَ المعتبين} المجابين إليها ونظيره قوله تعالى حكاية {أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} وقرئ: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ المعتبين}، أي إن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون لفوات المكنة.
{وَقَيَّضْنَا} وقدرنا. {لَهُمْ} للكفرة. {قُرَنَاءَ} أخدانا من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القبض على البيض وهو القشر. وقيل أصل القيض البدل ومنه المقايضة لمعاوضة. {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الدنيا واتباع الشهوات. {وَمَا خَلْفَهُمْ} مِنْ أمر الآخرة وإنكاره. {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي كلمة العذاب. {فِى أُمَمٍ} في جملة أمم كقول الشاعر:
إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأ ** فُوكاً فِفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا

وهو حال من الضمير المجرور. {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس} وقد عملوا مثل أعمالهم. {إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين} تعليل لاستحقاقهم العذاب، والضمير {لَهُمْ} ولل {أُمَمٌ}.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ} وعارضوه بالخرافات أو ارفعوا أصواتكم بها لتشوشوه على القارئ، وقرئ بضم الغين والمعنى واحد يقال لغى يلغي ولغا يلغو إذا هذى. {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي تغلبونه على قراءته.
{فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً} المراد بهم هؤلاء القائلون، أو عامة الكفار. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} سيئات أعمالهم وقد سبق مثله.
{ذلك}: إشارة إلى الأسوأ. {جَزَاءُ أَعْدَاءِ الله} خبره. {النار} عطف بيان لل {جَزَاء} أو خبر محذوف. {لَّهُمْ فِيهَا} في النار. {دَارُ الخُلْدِ} فإنها دار إقامتهم، وهو كقولك: في هذه الدار دار سرور، وتعني بالدار عينها على أن المقصود هو الصفة. {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بئاياتنا يَجْحَدُونَ} ينكرون الحق أو يلغون، وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.
{وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا اللذين أضلانا مِنَ الجن والإنس} يعني شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة والعصيان. وقيل هما إبليس وقابيل فإنهما سنا الكفر والقتل، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والسوسي {أَرِنَا} بالتخفيف كفخذ في فخذ، وقرأ الدوري باختلاس كسرة الراء. {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} ندوسهما انتقاماً منهما، وقيل نجعلهما في الدرك الأسفل. {لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} مكاناً أو ذلاً.
{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله} اعترافاً بربوبيته وإقراراً بوحدانيته.
{ثُمَّ استقاموا} في العمل و{ثُمَّ} لتراخيه عن الإِقرار في الرتبة من حيث أنه مبدأ الاستقامة، أو لأنها عسر قلما تتبع الإِقرار، وما روي عن الخلفاء الراشدين في معنى الاستقامة من الثبات على الإِيمان وإخلاص العمل وأداء الفرائض فجزئياتها. {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة} فيما يعن لهم بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن، أو عند الموت أو الخروج من القبر. {أَلاَّ تَخَافُواْ} ما تقدمون عليه. {وَلاَ تَحْزَنُواْ} على ما خلفتم وأن مصدرية أو مخففة مقدرة بالباء أو مفسرة. {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدنيا على لسان الرسل.
{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا} نلهمكم الحق ونحملكم على الخير بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة. {وَفِي الأخرة} بالشفاعة والكرامة حيثما يتعادى الكفرة وقرناؤهم. {وَلَكُمْ فِيهَا} في الآخرة {مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} من اللذائذ {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ما تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب وهو أعم من الأول.
{نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} حال من ما تدعون للإشعار بأن ما يتمنون بالنسبة إلى ما يعطون مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله} إلى عبادته. {وَعَمِلَ صالحا} فيما بينه وبين ربه. {وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين} تفاخراً به واتخاذاً للإسلام ديناً ومذهباً من قولهم: هذا قول فلان لمذهبه. والآية عامة لمن استجمع تلك الصفات. وقيل نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وقيل في المؤذنين.
{وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة} في الجزاء وحسن العاقبة و{لا} الثانية مزيدة لتأكيد النفي. {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقاً، أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، وإنما أخرجه مخرج الاستئناف على أنه جواب من قال؛ كيف أصنع؟ للمبالغة ولذلك وضع {أَحْسَنُ} موضع الحسنة. {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} أي إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق.
{وَمَا يُلَقَّاهَا} وما يلقى هذه السجية وهي مقابلته الإِساءة بالإحسان. {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} فَإِنها تحبس النفس عن الانتقام. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} من الخير وكمال النفس وقيل الحظ الجنة.

.تفسير الآيات (36- 45):

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)}
{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان} نخس شبه به وسوسته لأنها تبعث الإِنسان على ما لا ينبغي كالدفع بما هو أسوأ، وجعل النزغ نازغاً على طريقة جديدة، أو أريد به نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر. {فاستعذ بالله} من شره ولا تطعه. {إِنَّهُ هُوَ السميع} لاستعاذتك. {العليم} بنيتك أو بصلاحك.
{وَمِنْ ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} لأنهما مخلوقان مأموران مثلكم. {واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ} الضمير للأربعة المذكورة، والمقصود تعليق الفعل بهما إشعاراً بأنهما من عداد ما لا يعلم ولا يختار. {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإن السجود أخص العبادات وهو موضع السجود عندنا لاقتران الأمر به، وعند أبي حنيفة آخر الآية الأخرى لأنه تمام المعنى.
{فَإِنِ استكبروا} عن الامتثال. {فالذين عِندَ رَبّكَ} من الملائكة. {يُسَبّحُونَ لَهُ بالليل والنهار} أي دائماً لقوله: {وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ} أي لا يملون.
{وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة} يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل. {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ} تزخرفت وانتفخت بالنبات، وقرئ: {ربأت} أي زادت. {إِنَّ الذي أحياها} بعد موتها. {لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} من الإِحياء والإِماتة.
{إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ} يميلون عن الاستقامة. {فِي ءَايَاتِنَا} بالطعن والتحريف والتأويل الباطل والإِلغاء فيها. {لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فنجازيهم على إلحادهم. {أَفَمَن يُلْقَى في النَّارِ خَيْرٌ أَم مَن يَأَتِي آمِناً يَوْمَ القِيَامَةِ} قابل الإِلقاء في النار بالإِتيان آمناً مبالغة في إحماد حال المؤمنين. {اعملوا مَا شِئْتُمْ} تهديد شديد. {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وعيد بالمجازاة.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَاءَهُمْ} بدل من قوله: {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في ءاياتنا} أو مستأنف وخبر {إِن} محذوف مثل معاندون أو هالكون، أو {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ} و{الذكر} القرآن. {وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ} كثير النفع عديم النظير أو منيع لا يتأتى إبطاله وتحريفه.
{لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات أو مما فيه من الأخبار الماضية والأمور الآتية. {تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ} أي حكيم. {حَمِيدٍ} يحمده كل مخلوق بما ظهر عليه من نعمه.
{مَّا يُقَالُ لَكَ} أي ما يقول لك كفار قومك. {إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} إلا مثل ما قال لهم كفار قومهم، ويجوز أن يكون المعنى ما يقول الله لك إلا مثل ما قال لهم. {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ} لأنبيائه. {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لأعدائهم، وهو على الثاني يحتمل أن يكون المقول بمعنى أن حاصل ما أوحي إليك وإليهم، وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة.
{وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً} جواب لقولهم: هلا أنزل القرآن بلغة العجم والضمير {للذكر}. {لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته} بينت بلسان نفقهه. {ءأَعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ} أكلام أعجمي ومخاطب عربي إنكار مقرر للتخصيص، والأعجمي يقال للذي لا يفهم كلامه. وهذا قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي، وقرأ قالون وأبو عمرو بالمد والتسهيل وورش بالمد وإبدال الثانية ألفاً، وابن كثير وابن ذكوان وحفص بغير المد بتسهيل الثانية وقرئ: {أعجمي} وهو منسوب إلى العجم، وقرأ هشام {أعجمي} على الإِخبار، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجمياً لإِفهام العجم وبعضها عربياً لإِفهام العرب، والمقصود إبطال مقترحهم باستلزامه المحذور، أو للدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت في الآيات كيف جاءت. {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى} إلى الحق. {وَشِفَاءٌ} لما في الصدور في الشك والشبه {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ} مبتدأ خبره. {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} على تقدير هو في {آذَانِهِمْ وَقْرٌ} لقوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وذلك لتصامهم عن سماعه وتعاميهم عما يريهم من الآيات، ومن جوز العطف على عاملين مختلفين عطف ذلك على {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى}. {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أي صم، وهو تمثيل لهم في عدم قبولهم الحق واستماعهم له بمن يصاح به من مسافة بعيدة.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} بالتصديق والتكذيب كما اختلف في القرآن. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} وهي العدة بالقيامة وفصل الخصومة حينئذ، أو تقدير الآجال. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} باستئصال المكذبين. {وَإِنَّهُمْ} وإن اليهود أو {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ}. {لَفِى شَكّ مّنْهُ} من التوراة أو القرآن. {مُرِيبٌ} موجب للاضطراب.