فصل: تفسير الآيات (20- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (20- 30):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)}
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة} ثوابها شبهه بالزرع من حيث أنه فائدة تحصل بعمل ولذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ويقال للزرع الحاصل منه. {نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ} فنعطه بالواحد عشراً إلى سبعمائة فما فوقها. {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} شيئاً منها على ما قسمنا له. {وَمَا لَهُ في الأخرة مِن نَّصِيبٍ} إذ الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} بل ألهم شركاء، والهمزة للتقرير والتقريع وشركاؤهم شياطينهم. {شَرَعُواْ لَهُمْ} بالتزيين. {مّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا. وقيل شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم بما تدينوا به، أو صور من سنة لهم. {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل} أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء، أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بين الكافرين والمؤمنين، أو المشركين وشركائهم. {وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقرئ: {أن} بالفتح عطفاً على كلمة {الفصل} أي {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل} وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا، فإن العذاب الأليم غالب في عذاب الآخرة.
{تَرَى الظالمين} في القيامة. {مُشْفِقِينَ} خائفين. {مِمَّا كَسَبُواْ} من السيئات. {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي وباله لاحق بهم أشفقوا أو لم يشفقوا. {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات في روضات الجنات} في أطيب بقاعها وأنزهها. {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبّهِمْ} أي ما يشتهونه ثابت لهم عند ربهم. {ذلك} إشارة إلى المؤمنين. {هُوَ الفضل الكبير} الذي يصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا.
{ذَلِكَ الذي يُبَشّرُ الله عِبَادَهُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به فحذف الجار ثم العائد، أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي {يُبَشّرُ} من بشره وقرئ: {يُبَشّرُ} من أبشره. {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} على ما أتعاطاه من التبليغ والبشارة. {أَجْراً} نفعاً منكم. {إِلاَّ المودة في القربى} أي تودوني لقرابتي منكم، أو تودوا قرابتي، وقيل الاستثناء منقطع والمعنى: لا أسألكم أجراً قط ولكني أسألكم المودة، و{فِى القربى} حال منها أي {إِلاَّ المودة} ثابتة في ذوي {القربى} متمكنة في أهلها، أو في حق القرابة ومن أجلها كما جاء في الحديث: «الحب في الله والبغض في الله» روي: أنها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم علينا قال: «علي وفاطمة وابناهما» وقيل: {القربى} التقرب إلى الله أي إلا أن تودوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح، وقرئ: {إلا مودة في القربى}. {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} ومن يكتسب طاعة سيما حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ومودته لهم. {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} في الحسنة بمضاعفة الثواب، وقرئ: {يزد} أي يزد الله وحسنى. {إِنَّ الله غَفُورٌ} لمن أذنب. {شَكُورُ} لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة.
{أَمْ يَقُولُونَ} بل أيقولون. {افترى عَلَى الله كَذِبًا} افترى محمد بدعوى النبوة أو القرآن. {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} استبعاد للافتراء عن مثله بالإِشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختوماً على قلبه جاهلاً بربه، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا، وكأنه قال: إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترئ بالافتراء عليه. وقيل يختم على قلبك يمسك القرآن أو الوحي عنه، أو يربط عليه بالصبر فلا يشق عليك أذاهم. {وَيَمْحُ الله الباطل وَيُحِقُّ الحق بكلماته إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} استئناف لنفي الافتراء عما يقوله بأنه لو كان مفترى لمحقه إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده، بمحو باطلهم وإثبات حقه بالقرآن، أو بقضائه الذي لا مرد له، وسقوط الواو من {يمح} في بعض المصاحف لاتباع اللفظ كما في قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر} {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} بالتجاوز عما تابوا عنه، والقبول يعدى إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإِبانة، وقد عرفت حقيقة التوبة. وعن علي رضي الله تعالى عنه: هي اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإِعادة، ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. {وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} صغيرها وكبيرها لمن يشاء. {وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُونَ} فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة، وقرأ الكوفيون غير أبي بكر {ما تفعلون} بالتاء.
{وَيَسْتَجِيبُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي يستجيب الله لهم فحذف اللام كما حذف في {وَإِذَا كَالُوهُمْ} والمراد إجابة الدعاء أو الإِثابة على الطاعة، فإنها كدعاء وطلب لما يترتب عليها. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الدعاء الحمد لله» أو يستجيبون لله بالطاعة إذا دعاهم إليها. {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} على ما سألوا واستحقوا واستوجبوا له بالاستجابة. {والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضل.
{وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في الأرض} لتكبروا وأفسدوا فيها بطراً، أو لبغى بعضهم على بعض استيلاء واستعلاء وهذا على الغالب، وأصل البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى كمية أو كيفية.
{ولكن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ} بتقدير. {مَا يَشَاء} كما اقتضته مشيئته. {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم فيقدر لهم ما يناسب شأنهم. روي أن أهل الصفة تمنوا الغنى فنزلت. وقيل في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وإذا أجدبوا انتجعوا.
{وَهُوَ الذي يُنَزّلُ الغيث} المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم {يُنَزّلُ} بالتشديد. {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} أيسوا منه، وقرئ بكسر النون. {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان. {وَهُوَ الولى} الذي يتولى عباده بإحسانه ونشر رحمته. {الحميد} المستحق للحمد على ذلك.
{وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والأرض} فإنها بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم. {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} عطف على {السموات} أو ال {خلقُ}. {مِن دَابَّةٍ} من حي على إطلاق اسم المسبب على السبب، أو مما يدب على الأرض وما يكون في أحد الشيئين يصدق أن فيها في الجملة. {وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ} أي في أي وقت يشاء. {قَدِيرٌ} متمكن منه و{إِذَا} كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع.
{وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فبسبب معاصيكم، والفاء لأن {مَا} شرطية أو متضمنة معناه، ولم يذكرها نافع وابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببية. {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} من الذنوب فلا يعاقب عليها. والآية مخصوصة بالمجرمين، فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه.

.تفسير الآيات (31- 40):

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)}
{وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرض} فائتين ما قضى عليكم من المصائب. {وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ} يحرصكم عنها. {وَلاَ نَصِيرٍ} يدفعها عنكم.
{وَمِنْ ءاياته الجوار} السفن الجارية. {فِى البحر كالأعلام} كالجبال. قالت الخنساء:
وَإِنَّ صَخْراً لَتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِه ** كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ

{إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح} وقرئ: {الرياح}. {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ} فيبقين ثوابت على ظهر البحر. {إِنَّ في ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} لكل من وكل همته وحبس نفسه على النظر في آيات الله والتفكر في آلائه، أو لكل مؤمن كامل الإِيمان فإن الإِيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر.
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة، والمراد إهلاك أهلها لقوله تعالى: {بِمَا كَسَبُواْ} وأصله أو يرسلها فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود كما في قوله تعالى: {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} إذ المعنى أو يرسلها فيوبق ناساً بذنوبهم وينج ناساً على العفو منهم، وقرئ: {ويعفو} على الاستئناف.
{وَيَعْلَمَ الذين يجادلون في ءاياتنا} عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم {وَيَعْلَمَ}، أو على الجزاء ونصب نصب الواقع جواباً للأشياء الستة لأنه أيضاً غير واجب، وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاسئتناف، وقرئ بالجزم عطفاً على {يعف} فيكون المعنى ويجمع بين إهلاك قوم وإنجاء قوم وتحذير آخرين. {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} محيد من العذاب والجملة معلق عنها الفعل.
{فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَئ فمتاع الحياة الدنيا} تمتعون به مدة حياتكم. {وَمَا عِندَ الله} من ثواب الآخرة. {خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لخلوص نفعه ودوامه و{مَا} الأولى موصولة تضمنت معنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية. وعن علي رضي الله تعالى عنه: تصدق أبو بكر رضي الله تعالى عنه بماله كله فلامه جمع فنزلت.
{والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} {والذين} بما بعده عطف على {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} أو مدح منصوب أو مرفوع، وبناء {يَغْفِرُونَ} على ضميرهم خبراً للدلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب، وقرأ حمزة والكسائي {كبير الإِثم}.
{والذين استجابوا لِرَبّهِمْ} نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِيمان فاستجابوا له. {وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} ذو شورى بينهم لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبرهم وتيقظهم في الأمور، وهي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور. {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} في سبيل الله الخير.
{والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ} على ما جعله الله لهم كراهة التذلل، وهو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمهات الفضائل وهو لا يخالف وصفهم بالغفران، فإنه ينبئ عن عجز المغفور والانتصار عن مقاومة الخصم، والحلم عن العاجز محمود وعن المتغلب مذموم لأنه إجراء وإغراء على البغي، ثم عقب وصفهم بالانتصار للمنع عن التعدي.
{وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} وسمى الثانية {سَيّئَةٌ} للازدواج، أو لأنها تسوء من تنزل به. {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} بينه وبين عدوه. {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} عدة مبهمة تدل على عظم الموعود. {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} المبتدئين بالسيئة والمتجاوزين في الانتقام.

.تفسير الآيات (41- 53):

{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
{وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} بعد ما ظلم، وقد قرئ به. {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} بالمعاتبة والمعاقبة.
{إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} يبتدؤنهم بالإِضرار ويطلبون ما لا يستحقونه تجبراً عليهم. {وَيَبْغُونَ في الأرض بِغَيْرِ الحق أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على ظلمهم وبغيهم.
{وَلَمَن صَبَرَ} على الأذى. {وَغَفَرَ} ولم ينتصر. {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أي إن ذلك منه فحذف كما حذف في قولهم: السمن منوان بدرهم، للعلم به.
{وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ} من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله إياه. {وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} حين يرونه فذكر بلفظ الماضي تحقيقاً. {يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ} هل إلى رجعة إلى الدنيا.
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} على النار، ويدل عليه {العذاب}. {خاشعين مِنَ الذل} متذللين متقاصرين مما يلحقهم من الذل. {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ} أيبتدئ نظرهم إلى النار مع تحريك لأجفانهم ضعيف كالمصبور ينظر إلى السيف. {وَقَالَ الذين ءَامَنُواْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} بالتعريض للعذاب المخلد. {يَوْمَ القيامة} ظرف ل {خَسِرُواْ} والقول في الدنيا، أو لقال أي يقولون إذا رأوهم على تلك الحال. {أَلاَ إِنَّ الظالمين في عَذَابٍ مُّقِيمٍ} تمام كلامهم أو تصديق من الله لهم.
{وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} إلى الهدى أو النجاة.
{استجيبوا لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} لا يرده الله بعدما حكم به و{مِنْ} صلة ل {مَرَدَّ}. وقيل صلة {يَأْتِىَ} أي من قبل أن يأتي يوم من الله لا يمكن رده. {مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ} مفر. {يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ} إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائف أعمالكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم.
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} رقيباً أو محاسباً. {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} وقد بلغت. {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} أراد بالإِنسان الجنس لقوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ} بليغ الكفران ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها، وهذا وإن اختص بالمجرمين جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه. وتصدير الشرطية الأولى ب {إِذَا} والثانية ب {إَنَّ} لأن أذاقة النعمة محققة من حيث أنها عادة مقتضاة بالذات بخلاف إصابة البلية، وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع المضمر في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة.
{للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} فله أن يقسم النعمة والبلية كيف يشاء. {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من غير لزوم ومجال اعتراض. {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور}.
{أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً} بدل من {يَخْلُقُ} بدل البعض، والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة فيهب لبعض إما صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى أو الصنفين جميعاً ويعقم آخرين، ولعل تقديم الإِناث لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لأن مساق الآية للدلالة على أن الواقع ما يتعلق به مشيئة الله لا مشيئة الإِنسان والإِناث كذلك، أو لأن الكلام في البلاء والعرب تعدهن بلاء، أو لتطييب قلوب آبائهن أو للمحافظة على الفواصل ولذلك عرف الذكور، أو لجبر التأخير وتغيير العاطف في الثلث لأنه قسيم المشترك بين القسمين، ولم يحتج إليه الرابع لا فصاحة بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة. {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار.
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} وما صح له. {أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً} كلاماً خفياً يدرك لأنه بسرعة تمثيل ليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة تتوقف على تموجات متعاقبة، وهو ما يعم المشافه به كما روي في حديث المعراج، وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى في طوى والطور، ولكن عطف قوله: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها. وقيل المراد به الإِلهام والإِلقاء في الروع أو الوحي المنزل به الملك إلى الرسل فيكون المراد بقوله: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} أو يرسل إليه نبياً فيبلغ وحيه كما أمره، وعلى الأول المراد بالرسول الملك الموحي إلى الرسل، ووحياً بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأن {مِن وَرَاء حِجَابٍ} صفة كلام محذوف والإِرسال نوع من الكلام، ويجوز أن يكون وحياً ويرسل مصدرين و{مِن وَرَاء حِجَابٍ} ظرفاً وقعت أحوالاً، وقرأ نافع {أَوْ يُرْسِلَ} برفع اللام. {إِنَّهُ عَلِىٌّ} عن صفات المخلوقين. {حَكِيمٌ} يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بوسط، وتارة بغير وسط إما عياناً وإما من وراء حجاب.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} يعني ما أوحي إليه، وسماه روحاً لأن القلوب تحيا به، وقيل جبريل والمعنى أرسلناه إليك بالوحي. {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} أي قبل الوحي، وهو دليل على أنه لم يكن متعبداً قبل النبوة بشرع. وقيل المراد هو الإِيمان بما لا طريق إليه إلا السمع. {ولكن جعلناه} أي الروح أو الكتاب أو الإِيمان. {نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} بالتوفيق للقبول والنظر فيه. {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو الإِسلام، وقرئ: {لَتَهْدِى} أي ليهديك الله.
{صراط الله} بدل من الأول. {الذى لَهُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} خلقاً وملكاً. {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} بارتفاع الوسائط والتعلقات، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له».