فصل: تفسير الآيات (16- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (16- 20):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}
{أُوْلَئِكَ الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} يعني طاعاتهم فإن المباح حسن ولا يثاب عليه. {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيَّئَاتِهِمْ} لتوبتهم، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون فيهما. {فِى أصحاب الجنة} كائنين في عدادهم أو مثابين أو معدودين فيهم. {وَعْدَ الصدق} مصدر مؤكد لنفسه فإن يتقبل ويتجاوز وعد {الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ} أي في الدنيا.
{والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا} مبتدأ خبره {أولئك}، والمراد به الجنس وإن صح نزولها في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، فإن خصوص السبب لا يوجب التخصيص. وفي {أُفّ} قراءات ذكرت في سورة (بني إسرائيل). {أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ} أبعث، وقرأ هشام {أتعداني} بنون واحدة مشددة. {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى} فلم يرجع أحد منهم. {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله} يقولان الغياث بالله منك، أو يسألانه أن يغيثه بالتوفيق للإِيمان. {وَيْلَكَ ءامِنْ} أي يقولان له {وَيْلَكَ}، وهو الدعاء بالثبور بالحث على ما يخاف على تركه. {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هذا إِلاَّ أساطير الأولين} أباطيلهم التي كتبوها.
{أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} بأنهم أهل النار وهو يرد النزول في عبد الرحمن لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك وقد جب عنه إن كان لإسلامه. {فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ} كقوله في أصحاب الجنة. {مّنَ الجن والإنس} بيان للأمم. {إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين} تعليل للحكم على الاستئناف.
{وَلِكُلّ} من الفريقين. {درجات مّمَّا عَمِلُواْ} مراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، أو من أجل ما عملوا وال {درجات} غالبة في المثوبة وها هنا جاءت على التغليب. {وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالهم} جزاءها، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن ذكوان بالنون. {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب وزيادة عقاب.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} يعذبون بها. وقيل تعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم: عرضت الناقة على الحوض. {أَذْهَبْتُمْ} أي يقال لهم أذهبتم، وهو ناصب اليوم وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالاستفهام غير أن ابن كثير يقرؤه بهمزة ممدودة وهما يقرآن بها وبهمزتين محققتين. {طيباتكم} لذاتكم. {فِى حياتكم الدنيا} باستيفائها. {واستمتعتم بِهَا} فما بقي لكم منها شيء. {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} الهوان وقد قرئ به. {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ في الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله، وقرئ: {تَفْسِقُونَ} بالكسر.

.تفسير الآيات (21- 27):

{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)}
{واذكر أَخَا عَادٍ} يعني هوداً. {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج، وكانوا يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بالشحر من اليمن. {وَقَدْ خَلَتِ النذر} الرسل. {مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} قبل هود وبعده والجملة حال أو اعتراض. {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} أي لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا فإن النهي عن الشيء إنذار من مضرته. {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هائل بسبب شرككم.
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} لتصرفنا. {عَنْ ءالِهَتِنَا} عن عبادتها. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب على الشرك. {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في وعدك. {قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله} لا علم لي بوقت عذابكم ولا مدخل لي فيه فأستعجل به، وإنما علمه عند الله فيأتيكم به في وقته المقدر له. {وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ} إليكم وما على الرسول إلا البلاغ. {ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} لا تعلمون أن الرسل بعثوا مبلغين منذرين لا معذبين مقترحين.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} سحاباً عرض في أفق السماء. {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} متوجه أوديتهم، والإضافة فيه لفظية وكذا في قوله: {قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} أي يأتينا بالمطر. {بَلْ هُوَ} أي قال هود عليه الصلاة والسلام {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} من العذاب، وقرئ: {قل} {بل}: {رِيحٌ} هي ريح، ويجوز أن يكون بدل ما. {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} صفتها وكذا قوله: {تُدَمّرُ} تهلك. {كُلَّ شَئ} من نفوسهم وأحوالهم. {بِأَمْرِ رَبّهَا} إذ لا توجد نابضة حركة ولا قابضة سكون إلا بمشيئته، وفي ذكر الأمر والرب وإضافة إلى الريح فوائد سبق ذكرها مراراً، وقرئ: {يدمر كل شيء} من دمر دماراً إذا هلك فيكون العائد محذوفاً أو الهاء في {رَبُّهَا}، ويحتمل أن يكون استئنافاً للدلالة على أن لكل ممكن فناء مقضياً لا يتقدم ولا يتأخر، وتكون الهاء لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء {فَأْصْبَحُواْ لاَ تُرَى إِلاَّ مساكنهم} أي فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا بحيث لو حضرت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم} بالياء المضمومة ورفع المساكن. {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين}. روي أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح اعتزل بالمؤمنين في الحظيرة وجاءت الريح فأمالت الأحقاف على الكفرة، وكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، ثم كشفت عنهم واحتملتهم تقذفتهم في البحر.
{وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} {إن} نافية وهي أحسن من ما هاهنا لأنها توجب التكرير لفظاً ولذلك قلبت ألفها هاء في مهما، أو شرطية محذوفة الجواب والتقدير، ولقد مكناهم في الذي أوفي شيء إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر، أو صلة كما في قوله:
يُرَجِّي المَرْءُ مَا إِنْ لاَ يَرَاه ** ويعرض دُونَ أدناهُ الخُطُوبُ

والأول أظهر وأوفق لقوله: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً} {كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً} {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً} ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على مانحها تعالى ويواظبوا على شكرها. {فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَئ} من الإِغناء وهو القليل. {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ} صلة {فَمَا أغنى} وهو ظرف جرى مجرى التعليل من حيث إن الحكم مرتب على ما أضيف إليه وكذلك حيث. {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} من العذاب.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ} يا أهل مكة. {مّنَ القرى} كحجر ثمود وقرى قوم لوط. {وَصَرَّفْنَا الايات} بتكريرها. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم.

.تفسير الآيات (28- 35):

{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}
{فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءالِهَةَ} فهلا منعتهم من الهلاك آلهتهم الذين يتقربون بهم إلى الله تعالى حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وأول مفعولي {اتخذوا} الراجع إلى الموصول محذوف، وثانيهما {قُرْبَاناً} و{ءالِهَةً} بدل أو عطف بيان، أو {ءالِهَةً} و{قُرْبَاناً} حال أو مفعول له على أنه بمعنى التقرب. وقرئ: {قُربَاناً} بضم الراء. {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} غابوا عن نصرهم وامتنع أن يستمدوا بهم امتناع الاستمداد بالضال. {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره صرفهم عن الحق، وقرئ: {إِفْكِهِمْ} بالتشديد للمبالغة، و{آفكهم} أي جعلهم آفكين و{آفكهم} أي قولهم الآفك أي ذو الإِفك. {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن} أملناهم إليك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار. {يَسْتَمِعُونَ القرءان} حَال محمولة على المعنى. {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي القرآن أو الرسول. {قَالُواْ أَنصِتُواْ} قالُوا بعضهم لبعض اسكتوا لنسمعه. {فَلَمَّا قُضِىَ} أتم وفرغ من قراءته، وقرئ على بناء الفاعل وهو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام. {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} أي منذرين إياهم بما سمعوا. روي أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده.
{قَالُواْ يَا قَوْمُنَا إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} قيل إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا أو ما سمعوا بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام. {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى الحق} من العقائد. {وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} من الشرائع.
{ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّنْ ذُنُوبِكُمْ} بعض ذنوبكم، وهو ما يكون في خالص حق الله فإن المظالم لا تغفر بالإِيمان. {وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} هو معد للكفار، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه باقتصارهم على المغفرة والإِجارة على أن لا ثواب لهم، والأظهر أنهم في توابع التكليف كبني آدم.
{وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الأرض} إذ لا ينجي منه مهرب. {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يمنعونه منه. {أُوْلَئِكَ في ضلال مُّبِينٍ} حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه.
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ} ولم يتعب ولم يعجز، والمعنى أن قدرته واجبة لا تنقص ولا تنقطع بالإِيجاد أبد الأباد. {بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِىِ الموتى} أي قادر، ويدل عليه قراءة يعقوب {يقدر}، والباء مزيدة لتأكيد النفي فإنه مشتمل على {أن} وما في حيزها ولذلك أجاب عنه بقوله: {بلى إِنَّهُ على كُلّ شَئ قَدِيرٍ} تقرير للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود، كأنه صَدَّرَ السورة بتحقيق المبدأ أراد ختمها بإثبات المعاد.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} منصوب بقول مضمر مقوله: {أَلَيْسَ هذا بالحق} والإِشارة إلى العذاب. {قَالُواْ بلى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} بكفركم في الدنيا، ومعنى الأمر هو الإِهانة بهم والتوبيخ لهم.
{فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُو العزم مِنَ الرسل} أولو الثبات والجد منهم فإنك من جملتهم، و{مِنْ} للتبيين، وقيل للتبعيض، و{أُوْلُو العزم} منهم أصحاب الشرائع اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها، ومشاهيرهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام. وقيل الصابرون على بلاء الله كنوح صبر على أذى قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم على النار وذبح ولده والذبيح على الذبح، ويعقوب على فقد الولد والبصر، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضر، وموسى قال له قومه {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ} وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة. {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} لكفار قريش بالعذاب فإنه نازل بهم في وقته لا محالة. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ} استقصروا من هوله مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة. {بَلاَغٌ} هذا الذي وعظتم به أو هذه السورة بلاغ أي كفاية، أو تبليغ من الرسول عليه الصلاة والسلام ويؤيده أنه قرئ: {بلغ}، وقيل: {بَلاَغٌ} مبتدأ خبره {لَهُمْ} و{مَا} بينهما اعتراض أي لهم وقت يبلغون إليه كأنهم إذا بلغوه ورأوا ما فيه استقصروا مدة عمرهم، وقرئ بالنصب أي بلغوا بلاغاً. {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة، وقرئ يهلك بفتح اللام وكسرها من هلك وهلك، ونهلك بالنون ونصب القوم. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا».
بسم الله الرحمن الرحيم

.سورة محمد:

وتسمى سورة القتال وهي مدنية وقيل مكية وآيها سبع أو ثمان وثلاثون أو أربعون آية.

.تفسير الآيات (1- 4):

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)}
{الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} امتنعوا عن الدخول في الإِسلام وسلوك طريقه، أو منعوا الناس عنه كالمطعمين يوم بدر، أو شياطين قريش أو المصريين من أهل الكتاب. أو عام في جميع من كفر وصد. {أَضَلَّ أعمالهم} جعل مكارمهم كصلة الرحم وفك الأسارى وحفظ الجوار ضالة أي ضائعة محيطة بالكفر، أو مغلوبة مغمورة فيه كما يضل الماء في اللبن، أو ضلال حيث لم يقصدوا به وجه الله، أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسوله والصد عن سبيله بنصر رسوله وإظهار دينه على الدين كله.
{والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} يعم المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من أهل الكتاب وغيرهم. {وَءَامَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} تخصيص للمنزل عليه مما يجب الإيمان به تعظيماً له وإشعاراً بأن الإيمان لا يتم دونه، وأنه الأصل فيه ولذلك أكده بقوله: {وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ} اعتراضاً على طريقة الحصر. وقيل حقيقته بكونه ناسخاً لا ينسخ، وقرئ: {نَزَّلَ} على البناء للفاعل و{أنزل} على البناءين و{نَزَلَ} بالتخفيف. {كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} سترها بالإِيمان وعملهم الصالح. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد.
{ذلك} إشارة إلى ما مر من الإِضلال والتكفير والإِصلاح وهو مبتدأ خبره. {بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِِّهِمْ} بسبب اتباع هؤلاء الباطل واتباع هؤلاء الحق، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبلها ولذلك سمي تفسيراً. {كذلك} مثل ذلك الضرب. {يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ} يبين لهم. {أمثالهم} أحوال الفريقين أو أحوال الناس، أو يضرب أمثالهم بأن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار والإِضلال مثلاً لخيبتهم واتباع الحق مثلاً للمؤمنين، وتكفير السيئات مثلاً لفوزهم.
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ} في المحاربة. {فَضَرْبَ الرقاب} أصله فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر، وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول ضماً إلى التأكيد والاختصار. والتعبير به عن القتل إشعاراً بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقاب حيث أمكن، وتصوير له بأشنع صورة. {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الثخين وهو الغليظ. {فَشُدُّواْ الوثاق} فأسروهم واحفظوهم، والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} أي فإما تمنون منا أو تفدون فداء، والمراد التخيير بعد الأسر بين المن والإِطلاق وبين أخذ الفداء، وهو ثابت عندنا فإن الذكر الحر المكلف إذا أسر تخير الإِمام بين القتل والمن والفداء، والاسترقاق منسوخ عند الحنفية أو مخصوص بحرب بدر فإنهم قالوا يتعين القتل أو الاسترقاق. وقرئ: {فدا} كعصا.
{حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع، أي تنقضي الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم. وقيل آثامها والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم، وهو غاية للضرب أو الشد أو للمن والفداء أو للمجموع بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم. وقيل بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام {ذلك} أي الأمر ذلك، أو افعلوا بهم ذلك. {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} لا نتقم منهم بالاستئصال. {ولكن لّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ولكن أمركم بالقتال ليبلوا المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر. {والذين قَاتِلُواْ في سَبِيلِ الله} أي جاهدوا، وقرأ البصريان وحفص {قَتِلُواْ} أي استشهدوا. {فَلَن يُضِلَّ أعمالهم} فلن يضيعها، وقرئ: {يُضِلَّ} من ضل ويضل على البناء للمفعول.