فصل: تفسير الآيات (31- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (31- 38):

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة. {حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} على مشاقه. {وَنَبْلُوَ أخباركم} ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها وقبحها، أو أخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم المؤمنين في صدقها وكذبها. وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها، وعن يعقوب {وَنَبْلُوَ} بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَاقُّواْ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} هم قريظة والنضير أو المطعمون يوم بدر. {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} بكفرهم وصدهم، أو لن يضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاقته وحذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته. {وَسَيُحْبِطُ أعمالهم} ثواب حسنات أعمالهم بذلك، أو مكايدهم التي نصبوها في مشاقته فلا يصلون بها إلى مقاصدهم ولا تثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم.
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم} بما أبطل به هؤلاء كالكفر والنفاق والعجب والرياء والمن والأذى ونحوها، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} عام في كل من مات على كفره وإن صح نزوله في أصحاب القليب، ويدل بمفهومه على أنه قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه.
{فَلاَ تَهِنُواْ} فلا تضعفوا. {وَتَدْعُواْ إِلَى السلم} ولا تدعوا إلى الصلح خوراً وتذللاً، ويجوز نصبه بإضمار إن وقرئ: {ولا تدعوا} من ادعى بمعنى دعا، وقرى أبو بكر وحمزة بكسر السين. {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} الأغلبون. {والله مَعَكُمْ} ناصركم. {وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم} ولن يضيع أعمالكم، من وترت الرجل إذا قتلت متعلقاً به من قريب أو حميم فأفردته منه من الوتر، شبه به تعطيل ثواب العمل وإفراده منه.
{إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} لإثبات لها. {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} ثواب إيمانكم وتقواكم. {وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أموالكم} جميع أموالكم بل يقتصر على جزء يسير كربع العشر والعشر.
{إِنْ يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} فيجهدكم بطلب الكل والإِحفاء والإِلحاف المبالغة وبلوغ الغاية يقال: أحفى شاربه إذ استأصله. {تَبْخَلُواْ} فلا تعطوا. {وَيُخْرِجْ أضغانكم} ويضغنكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والضمير في يخرج لله تعالى، ويؤيده القراءة بالنون أو البخل لأنه سبب الإِضغان، وقرئ: {وتخرج} بالتاء والياء ورفع {أضغانكم}.
{هَا أَنتُمْ هؤلاء} أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون وقوله: {تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ في سَبِيلِ الله} استئناف مقرر لذلك، أو صلة ل {هَؤُلاء} على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما. {فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ} ناس يبخلون وهو كالدليل على الآية المتقدمة.
{وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه، والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإِمساك والتعدي فإنه إمساك عن مستحق. {والله الغنى وَأَنتُمُ الفقراء} فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إليه فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم. {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} عطف على {إِن تُؤْمِنُواْ}. {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} يقم مقامكم قوماً آخرين. {ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم} في التولي والزهد في الإِيمان، وهم الفرس لأنه سئل عليه الصلاة والسلام عنه وكان سلمان إلى جنبه فضرب فخذه وقال: «هذا وقومه» أو الأنصار أو اليمن أو الملائكة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة محمد كان حقاً على الله أن يسقيه من أنهار الجنة».

.سورة الفتح:

مدنية نزلت في مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وآيها تسع وعشرون آية.

.تفسير الآيات (1- 10):

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} وعد بفتح مكة، والتعبير عنه بالماضي لتحققه أو بما اتفق له في تلك السنة كفتح خيبر وفدك، أو إخبار عن صلح الحديبية وإنما سماه فتحاً لأنه كان بعد ظهوره على المشركين حتى سألوا الصلح وتسبب لفتح مكة، وفرغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم لسائر العرب فغزاهم وفتح مواضع وأدخل في الإِسلام خلقاً عظيماً، وظهر له في الحديبية آية عظيمة وهي أنه نزح ماؤها بالكلية فتمضمض ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه، أو فتح الروم فإنهم غلبوا الفرس في تلك السنة. وقد عرفت كونه فتحاً للرسول عليه الصلاة والسلام في سورة {الروم}. وقيل الفتح بمعنى القضاء أي قضينا لك أن تدخل مكة من قابل.
{لّيَغْفِرَ لَكَ الله} علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إزاحة الشرك وإعلاء الدين وتكميل النفوس الناقصة قهراً ليصير ذلك بالتدريج اختياراً، وتخليص الضعفة عن أيدي الظلمة. {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة. {وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً} في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرئاسة.
{وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً} نصراً فيه عز ومنعة، أو يعز به المنصور فوصف بوصفه مبالغة.
{هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة} الثبات والطمأنينة. {فِى قُلُوبِ المؤمنين} حتى ثبتوا حيث تقلق النفوس وتدحض الأقدام. {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} يقيناً مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها، أو نزل فيها السكون إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليزدادوا إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالله واليوم الآخر. {لِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض} يدبر أمرها فيسلط بعضها على بعض تارة ويوقع فيما بينهم السلم أخرى كما تقتضيه حكمته. {وَكَانَ الله عَلِيماً} بالمصالح. {حَكِيماً} فيما يقدر ويدبر.
{لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} علة بما بعده لما دل عليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض} من معنى التدبير، أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله فيه ويشكروها فيدخلهم الجنة ويعذب الكفار والمنافقين لما غاظهم من ذلك، أو {فَتَحْنَا} أو {أَنَزلَ} أو جميع ما ذكر أو {لِيَزْدَادُواْ}، وقيل إنه بدل منه بدل الاشتمال. {وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ} يغطيها ولا يظهرها. {وَكَانَ ذلك} أي الإِدخال والتكفير. {عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضر، وعند حال من الفوز.
{وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} عطف على {يَدْخُلِ} إلا إذا جعلته بدلاً فيكون عطفاً على المبدل منه. {الظانين بالله ظَنَّ السوء} ظن الأمر السوء وهو أن لا ينصر رسوله والمؤمنين. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} دائرة ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين لا يتخطاهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {دَائِرَةُ السوء} بالضم وهما لغتان، غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جرى مجرى الشر وكلاهما في الأصل مصدر {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} عطف لما استحقوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا، والواو في الأخيرين والموضع موضع الفاء إذ اللعن سبب للاعداد، والغضب سبب له لاستقلال الكل في الوعيد بلا اعتبار النسبية. {وَسَاءتْ مَصِيراً} جهنم. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً}.
{إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} على أمتك. {وَمُبَشّراً وَنَذِيراً} على الطاعة والمعصية.
{لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة، أو لهم على أن خطابه منزل منزلة خطابهم. {وَتُعَزّرُوهُ} وتقووه بتقوية دينه ورسوله {وَتُوَقّرُوهُ} وتعظموه. {وَتُسَبّحُوهُ} وتنزهوه أو تصلوا له. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} غدوة وعشياً أو دائماً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الأربعة بالياء، وقرئ: {تعزروه} بسكون العين و{تعزروه} بفتح التاء وضم الزاي وكسرها و{تعززوه} بالزاءين {وَتُوَقّرُوهُ} من أوقره بمعنى وقره.
{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} لأنه المقصود ببيعته. {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} حال أو استئناف مؤكد له على سبيل التخييل. {فَمَن نَّكَثَ} نقض العهد. {فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه. {وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله} في مبايعته {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} هو الجنة، وقرئ: {عهد} وقرأ حفص {عَلَيْهِ} بضم الهاء وابن كثير ونافع وابن عامر وروح {فسنؤتيه} بالنون. والآية نزلت في بيعة الرضوان.

.تفسير الآيات (11- 19):

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)}
{سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} هم أسلم وجهينة ومزينة وغفار استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فتخلفوا واعتلوا بالشغل بأموالهم وأهاليهم، وإنما خلفهم الخذلان وضعف العقيدة والخوف من مقاتلة قريش إن صدوهم. {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا} إذ لم يكن لنا من يقوم بأشغالهم، وقرئ بالتشديد للتكثير. {فاستغفر لَنَا} من الله على التخلف. {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} تكذيب لهم في الاعتذار والاستغفار. {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً} فمن يمنعكم من مشيئته وقضائه. {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} ما يضركم كقتل أو هزيمة أو خلل في المال والأهل عقوبة على التخلف، وقرأ حمزة والكسائي بالضم. {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} ما يضاد ذلك، وهو تعريض بالرد. {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فيعلم تخلفكم وقصدكم فيه.
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} لظنكم أن المشركين يستأصلونهم، وأهلون جمع أهل وقد يجمع على أهلات كأرضات على أن أصله أهلة وأما أهال فاسم جمع كليال. {وَزُيّنَ ذَلِكَ في قُلُوبِكُمْ} فتمكن فيها، وقرئ على البناء للفاعل وهو الله أو الشيطان. {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} الظن المذكور، والمراد التسجيل عليه ب {السوء} أو هو وسائر ما يظنون بالله ورسوله من الأمور الزائغة. {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} هالكين عند الله لفساد عقيدتكم وسوء نيتكم.
{وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيراً} وضع الكافرين موضع الضمير إيذاناً بأن من لم يجمع بين الإِيمان بالله ورسوله فهو كافر وأنه مستوجب للسعير بكفره، وتنكير سعيراً للتهويل أو لأنها نار مخصوصة.
{وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} يدبره كيف يشاء. {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} إذ لا وجوب عليه. {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} فإن الغفران والرحمة من ذاته والتعذيب داخل تحت قضائه بالعرض، ولذلك جاء في الحديث الإلهي: «سبقت رحمتي غضبي» {سَيَقُولُ المخلفون} يعني المذكورين. {إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} يعني مغانم خيبر فإنه عليه الصلاة والسلام رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالاً كثيرة فخصها بهم. {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله} أن يغيروه وهو وعده لأهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر، وقيل قوله تعالى: {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا} والظاهر أنه في تبوك. والكلام اسم للتكليم غلب في الجملة المفيدة وقرأ حمزة والكسائي {كلم الله} وهو جمع كلمة. {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} نفي في معنى النهي. {كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ}.
من قبل تهيئهم للخروج إلى خيبر. {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أن يشارككم في الغنائم، وقرئ بالكسر. {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ} لا يفهمون. {إِلاَّ قَلِيلاً} إلا فهما قليلاً وهو فطنتهم لأمور الدنيا، ومعنى الإِضراب الأول رد منهم أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات للحسد، والثاني رد من الله لذلك وإثبات لجهلهم بأمور الدين.
{قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب} كرر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في الذم وإشعاراً بشناعة التخلف. {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} بني حنيفة أو غيرهم ممن ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المشركين فإنه قال: {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإِسلام لا غير كما دل عليه قراءة {أو يسلموا}، ومن عداهم يقاتل حتى يسلم أو يعطي الجزية. وهو يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه إذا لم تتفق هذه الدعوة لغيره إلا إذا صح أنهم ثقيف وهوازن فإن ذلك كان في عهد النبوة. وقيل فارس والروم ومعنى {يُسْلِمُونَ} ينقادون ليتناول تقبلهم الجزية. {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} هو الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة. {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ} عن الحديبية. {يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لتضاعف جرمكم.
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} لما أوعد على التخلف نفي الحرج عن هؤلاء المعذورين استثناء لهم عن الوعيد. {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهر} فصل الوعد وأجمل الوعيد مبالغة في الوعد لسبق رحمته، ثم جبر ذلك بالتكرير على سبيل التعميم فقال: {وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} إذ الترهيب هاهنا أنفع من الترغيب، وقرأ نافع وابن عامر {ندخله} و{نُعَذِّبُهُ} بالنون.
{لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} روي: أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة، فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه فحبسوه فأرجف بقتله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وكانوا ألفاً وثلثمائة أو وأربعمائة أو وخمسمائة، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشاً ولا يفروا عنهم وكان جالساً تحت سمرة أو سدرة. {فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ} من الإِخلاص. {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} الطمأنينة وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح. {وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً} فتح خيبر غب انصرافهم، وقيل مكة أو هجر.
{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} يعني مغانم خيبر. {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} غالباً مراعياً مقتضى الحكمة.