فصل: تفسير الآيات (20- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (20- 29):

{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}
{وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وهي ما يفيء على المؤمنين إلى يوم القيامة. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني مقام خيبر. {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} أي أيدي أهل خيبر وخلفائهم من بني أسد وغطفان، أو أيدي قريش بالصلح. {وَلِتَكُونَ} هذه الكفة أو الغنيمة. {آيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} أمارة يعرفون بها أنهم من الله بمكان، أو صدق الرسول في وعدهم فتح خيبر في حين رجوعه من الحديبية، أو وعد المغانم أو عنواناً لفتح مكة والعطف على محذوف هو علة ل {كَفَّ}، أو {عجل} مثل لتسلموا، أو لتأخذوا أو العلة لمحذوف مثل فعل ذلك. {وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً} هو الثقة بفضل الله والتوكل عليه.
{وأخرى} ومغانم أخرى معطوفة على هذه، أو منصوبة بفعل يفسره {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} مثل قضى، ويحتمل رفعها بالابتداء لأنها موصوفة وجرها بإضمار رب. {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} بعد لما كان فيها من الجولة. {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} استولى فأظفركم بها وهي مغانم هوازن أو فارس. {وَكَانَ الله على كُلّ شَئ قَدِيراً} لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء.
{وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ} من أهل مكة ولم يصالحوا. {لَوَلَّوُاْ الأدبار} لانهزموا. {ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يحرسهم. {وَلاَ نَصِيراً} ينصرهم.
{سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي سنَّ غُلَّبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال تعالى: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} تغييراً.
{وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} أي أيدي كفار مكة. {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} في داخل مكة. {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أظهركم عليهم، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد. وقيل كان ذلك يوم الفتح واستشهد به على أن مكة فتحت عنوة وهو ضعيف إذ السورة نزلت قبله. {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من مقاتلتهم أولاً طاعة لرسوله وكفهم ثانياً لتعظيم بيته، وقرأ أبو عمرو بالياء {بَصِيراً} فيجازيهم عليه.
{هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} يدل على أن ذلك كان عام الحديبية، والهدي ما يهدى إلى مكة. وقرئ: {الهدي} وهو فعيل بمعنى مفعول، ومحله مكانه الذي يحل فيه نحره والمراد مكانه المعهود وهو منى لا مكانه الذي لا يجوز أن ينحر في غيره، وإلا لما نحره الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أحصر فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر هو الحرم. {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين.
{أَن تطؤهم} أن توقعوا بهم وتبيدهم قال:
وَوَطَئْتْنَا وَطْأْ عَلَى حَنَق ** وَطْءَ المُقَيَّدِ ثَابِت الهَرَمِ

وقال عليه الصلاة والسلام: «إن آخر وطأة وطئها الله بوج» وهو وادٍ بالطائف كان آخر وقعة للنبي صلى الله عليه وسلم بها، وأصله الدوس وهو بدل الاشتمال من {رِجَالٌ} {وَنِسَاء} أو من ضميرهم في {تَعْلَمُوهُمْ}. {فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ} من جهتهم. {مَّعَرَّةٌ} مكروه كوجوب الدية والكفارة بقتلهم وللتأسف عليهم، وتعيير الكفار بذلك والإِثم بالتقصير في البحث عنهم مفعلة عن عره إذا أعراه ما يكرهه. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق ب {أَن تَطَؤُهُمْ} أي تطؤوهم غير عالمين بهم، وجواب {لَوْلاَ} محذوف لدلالة الكلام عليه، والمعنى {لَوْلاَ} كراهة أن تهلكوا أناساً مؤمنين بين أظهر الكافرين جاهلين بهم يصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم. {لّيُدْخِلَ الله في رَحْمَتِهِ} علة لما دل عليه كف الأيدي عن أهل مكة صوناً لمن فيها من المؤمنين، أي كان ذلك ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير أو للإِسلام. {مَن يَشَآء} من مؤمنيهم أو مشركيهم. {لَوْ تَزَيَّلُواْ} لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض، وقرئ: {تزايلوا}. {لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} بالقتل والسبي.
{إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ} مقدر باذكر أو ظرف {لَعَذَّبْنَا} أو {صَدُّوكُمْ}. {فِى قُلُوبِهِمُ الحمية} الأنفة. {حَمِيَّةَ الجاهلية} التي تمنع إذعان الحق. {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} فأنزل عليهم الثبات والوقار وذلك ما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما هم بقتالهم بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص ليسألوه أن يرجع من عامه على أن يخلي له قريش مكة من القابل ثلاثة أيام، فأجابهم وكتبوا بينهم كتاباً، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: اكتب ما يريدون» فَهَمَّ المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا عليهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وتحملوا. {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} كلمة الشهادة أو بسم الله الرحمن الرحيم محمد رسول الله اختارها لهم، أو الثبات والوفاء بالعهد وإضافة ال {كَلِمَةَ} إلى {التقوى} لأنها سببها أو كلمة أهلها. {وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا} من غيرهم. {وَأَهْلُهَا} والمستأهلين لها. {وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ عَلِيماً} فيعلم أهل كل شيء وييسره له.
{لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا} رأى عليه الصلاة والسلام أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا، فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا وحسبوا أن ذلك يكون في عامهم، فلما تأخر قال بعضهم والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا البيت فنزلت والمعنى صدقة في رؤياه.
{بالحق} ملتبساً به فإن ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدر له وهو العام القابل، ويجوز أن يكون {بالحق} صفة مصدر محذوف أي صدقاً ملتبساً {بالحق} وهو القصد إلى التمييز بين الثابت على الإِيمان والمتزلزل فيه، وأن يكون قسماً إما باسم الله تعالى أو بنقيض الباطل وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} جوابه وعلى الأولين جواب قسم محذوف. {إِن شَاءَ الله} تعليق للعدة. بالمشيئة تعليماً للعباد، أو إشعاراً بأن بعضهم لا يدخل لموت أو غيبة أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه. {ءامِنِينَ} حال من الواو والشرط معترض. {مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ} أي محلقاً بعضكم ومقصراً آخرون. {لاَ تخافون} حال مؤكدة أو استئناف أي لا تخافون بعد ذلك. {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} من الحكمة في تأخير ذلك. {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ} من دون دخولكم المسجد أو فتح مكة. {فَتْحاً قَرِيباً} هو فتح خيبر ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الموعود.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} ملتبساً به أو بسببه أو لأجله. {وَدِينِ الحق} وبدين الإِسلام. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} ليغلبه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقاً وإظهار فساد ما كان باطلاً، أو بتسليط المسلمين على أهله إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون، وفيه تأكيد لما وعده من الفتح. {وكفى بالله شَهِيداً} على أن ما وعده كائن أو على نبوته بإظهار المعجزات.
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} جملة مبينة للمشهود به، ويجوز أن يكون {رَسُولِ الله} صفة و{مُحَمَّدٌ} خبر محذوف أو مبتدأ: {والذين مَعَهُ} معطوف عليه وخبرهما. {أَشِدَّاءُ عَلَى الكفار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} و{أَشِدَّاء} جمع شديد و{رُحَمَاء} جمع رحيم، والمعنى أنهم يغلظون على من خالف دينهم ويتراحمون فيما بينهم كقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم. {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً} الثواب والرضا. {سيماهم في وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود، فعلى من سامه إذا أعلمه وقد قرئت ممدودة و{مّنْ أَثَرِ السجود} بيانها أو حال من المستكن في الجار. {ذلك} إشارة إلى الوصف المذكور. أو إشارة مبهمة يفسرها {كَزَرْعٍ}. {مَثَلُهُمْ في التوراة} صفتهم العجيبة الشأن المذكورة فيها. {وَمَثَلُهُمْ في الإنجيل} عطف عليه أن ذلك مثلهم في الكتابين وقوله: {كَزَرْعٍ} تمثيل مستأنف أو تفسير أو مبتدأ و{كَزَرْعٍ} خبره.
{أَخْرَجَ شَطْأَهُ} فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ، وقرأ ابن كثير وابن عامر برواية ابن ذكوان {شَطْأَهُ} بفتحات وهو لغة فيه، وقرئ: {شطاه} بتخفيف الهمزة و{شطاءه} بالمد و{شطه} بنقل حركة الهمزة وحذفها و{شطوه} بقلبها واواً. {فَآزَرَهُ} فقواه من المؤازرة وهي المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان {فَأزَرَهُ} كأجره في آجره. {فاستغلظ} فصار من الدقة إلى الغلظ. {فاستوى على سُوقِهِ} فاستقام على قصبه جمع ساق، وعن ابن كثير {سؤقه} بالهمزة. {يُعْجِبُ الزراع} بكثافته وقوته وغلظه وحسن منظره، وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة قلوا في بدء الإِسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس. {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} علة لتشبيههم بالزرع في زكاته واستحكامه أو لقوله: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} فإن الكفار لما سمعوه غاظهم ذلك ومنهم للبيان. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد عليه الصلاة والسلام فتح مكة».

.سورة الحجرات:

مدنية وآيها ثما ني عشرة آية.

.تفسير الآيات (1- 8):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}
{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ} أي لا تقدموا أمراً، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن، أو ترك لأن المقصود نفي التقديم رأساً أو لا تتقدموا ومنه مقدمة الجيش لمتقدميهم، ويؤيده قراءة يعقوب{لاَ تُقَدّمُواْ}. وقرئ: {لاَ تُقَدّمُواْ} من القدوم. {بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ} مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدي الإنسان تهجيناً لما نهوا عنه، والمعنى لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به. وقيل المراد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعظيم له وإشعار بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله. {واتقوا الله} في التقديم أو مخالفة الحكم. {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لأقوالكم. {عَلِيمٌ} بأفعالكم.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى} أي إذا كلمتموه فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته. {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته محاماة على الترحيب ومراعاة للأدب. وقيل معناه ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضاً وخاطبوه بالنبي والرسول، وتكرير النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار والمبالغة في الاتعاظ والدلالة على استقلال المنادى له وزيادة الاهتمام به. {أَن تَحْبَطَ أعمالكم} كراهة أن تحبط فيكون علة للنهي، أو لأن تحبط على أن النهي عن الفعل المعلل باعتبار التأدية لأن في الجهر والرفع استخفافاً قد يؤدي إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم إليه قصد الإِهانة وعدم المبالاة. وقد روي: أن ثابت بن قيس كان في أذنه وقر وكان جهورياً، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفقده ودعاه فقال: يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: «لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة» {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أنها محبطة.
{إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم} يخفضونها. {عِندَ رَسُولِ الله} مراعاة للأدب أو مخافة عن مخالفة النهي. قيل كان أبو بكر وعمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما. {أُوْلَئِكَ الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} جربها للتقوى ومرنها عليها، أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها، فإن الامتحان سبب المعرفة واللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها، أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم. {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} لغضهم وسائر طاعاتهم، والتنكير للتعظيم والجملة خبر ثان لأن أو استئناف لبيان ما هو جزاء الغاضين إحماداً لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين، والمبتدأ إسم الإِشارة المتضمن لما جعل عنواناً لهم، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضهم والارتضاء له، وتعريضاً بشناعة الرفع والجهر وأن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك.
{إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات} من خارجها خلفها أو قدامها، ومن ابتدائية فإن المناداة نشأت من جهة الوراء، وفائدتها الدلالة على أن المنادي داخل الحجرة إذ لابد وأن يختلف المبتدأ والمنتهى بالجهة، وقرئ: {الحجرات} بفتح الجيم، وسكونها وثلاثتها جمع حجرة وهي القطعة من الأرض المحجورة بحائط، ولذلك يقال لحظيرة الإِبل حجرة. وهي فعلة بمعنى مفعول كالغرفة والقبضة، والمراد حجرات نساء النبي عليه الصلاة والسلام وفيها كناية عن خلوته بالنساء ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من روائها، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فأسند فعل الأبعاض إلى الكل. وقيل إن الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد اخرج إلينا، وإنما أسند إلى جميعهم لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به، أو لأنه وجد فيما بينهم. {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة سيما لمن كان بهذا المنصب.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج إليهم، فإن أن وإن دلت بما في حيزها على المصدر دلت بنفسها على الثبوت، ولذلك وجب إضمار الفعل وحتى تفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مغنياً بخروجه، فإن حتى مختصة بغاية الشيء في نفسه ولذلك تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولا تقول حتى نصفها، بخلاف إلى فإنها عامة، وفي {إِلَيْهِمُ} إشعار بأنه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم. {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} لكان الصبر خيراً لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب، والإِسعاف بالمسؤول إذ روي أنهم وفدوا شافعين في أسارى بني العنبر فأطلق النصف وفادى النصف. {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} فتعرفوا وتصفحوا، روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث الوليد بن عقبة مصدقاً إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم إحنة، فلما سمعوا به استقبلوه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهم بقتالهم فنزلت. وقيل بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع، وتنكير الفاسق والنبأ للتعميم، وتعليق الأمر بالتبين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول خبر العدل من حيث إن المعلق على شيء بكلمة إن عدم عند عدمه، وأن خبر الواحد لو وجب تبينه من حيث هو كذلك لما رتب على الفسق، إذ الترتيب يفيد التعليل وما بالذات لا يعلل بالغير.
وقرأ حمزة والكسائي فتثبتوا أي فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال. {أَنْ تُصِيبُوا} كراهة إصابتكم. {قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ} جاهلين بحالهم. {فَتُصْبِحُواْ} فتصيروا. {على مَا فَعَلْتُمْ نادمين} مغتمين غما لازماً متمنين أنه لم يقع، وتركيب هذه الأحرف الثلاثة دائر مع الدوام.
{واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} أن بما في حيزه ساد مسد مفعولي اعلموا باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} فإنه حال من أحد ضميري فيكم، ولو جعل استئنافاً لم يظهر للأمر فائدة. والمعنى أن فيكم رسول الله على حال يجب تغييرها وهي أنكم تريدون أن يتبع رأيكم في الحوادث، ولو فعل ذلك {لَعَنِتُّمْ} أي لوقعتم في الجهد من العنت، وفيه إشعار بأن بعضهم أشار إليه بالإِيقاع ببني المصطلق وقوله: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} استدراك ببيان عذرهم، وهو أنه من فرط حبهم للإِيمان وكراهتهم للكفر حملهم على ذلك لما سمعوا قول الوليد، أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إحماداً لفعلهم وتعريضاً بذم من فعل ويؤيده قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون} أي أولئك المستثنون هم الذين أصابوا الطريق السوي، {وَكَرَّهَ} يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد فإذا شدد زاد له آخر، لكنه لما تضمن معنى التبعيض نزل كره منزلة بغض فعدي إلى آخر بإلى، أو نزل إليكم منزلة مفعول آخر. و{الكفر}: تغطية نعم الله بالجحود. {والفسوق}: الخروج عن القصد {والعصيان}: الامتناع عن الانقياد.
{فَضْلاً مّنَ الله وَنِعْمَةً} تعليل ل {كَرِهَ} أو {حَبَّبَ}، وما بينهما اعتراض لا ل {الرشدون} فإن الفضل فعل الله، والرشد وإن كان مسبباً عن فعله مسند إلى ضميرهم أو مصدر لغير فعله فإن التحبيب والرشد فضل من الله وإنعام. {والله عَلِيمٌ} بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل {حَكِيمٌ} حيث يفضل وينعم بالتوفيق عليهم.