فصل: تفسير الآيات (6- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (6- 11):

{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} لرسوخهم في الكفر. {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن مظنة الاستصلاح لانهماكهم في الكفر والنفاق.
{هُمُ الذين يَقُولُونَ} أي للأنصار. {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} يعنون فقراء المهاجرين.
{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السموات والأرض} بيده الأرزاق والقسم. {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} ذلك لجهلهم بالله.
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} روي أن أعرابياً نازع أنصارياً في بعض الغزوات على ماء، فضرب الأعرابي رأسه بخشبة، فشكى إلى ابن أُبيّ فقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا، وإذا رجعنا إلى المدينة فليخرجن الأعز منها الأذل، عنى بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ: {لَيُخْرِجَنَّ} بفتح الياء و{لَيُخْرِجَنَّ} على بناء المفعول و{لنخرجن} بالنون، ونصب {الأعز} و{الأذل} على هذه القراءات مصدر أو حال على تقدير مضاف كخروج أو إخراج أو مثل. {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ولله الغلبة والقوة ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين.
{ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ} من فرط جهلهم وغرورهم.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله} لا يشغلكم تدبيرها والاهتمام بها عن ذكره الصلوات وسائر العبادات المذكرة للمعبود، والمراد نهيهم عن اللهو بها. وتوجيه النهي إليها للمبالغة ولذا قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي اللهوا بها وهو الشغل. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} لأنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.
{وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم} بعض أموالكم إدخاراً للآخرة. {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت} أي يرى دلالته {فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى} هلا أمهلتني. {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أمد غير بعيد. {فَأَصَّدَّقَ} فأتصدق. {وَأَكُن مّنَ الصالحين} بالتدارك، وجزم {أَكُنْ} للعطف على موضع الفاء وما بعده، وقرأ أبو عمروا {وأكون} منصوباً عطفاً على {فأصادق}، وقرئ بالرفع على وأنا أكون فيكون عدة بالصلاح.
{وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً} ولن يمهلها. {إِذَا جَاء أَجَلُهَا} آخر عمرها. {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فمجاز عليه، وقرأ أبو بكر بالياء ليوافق ما قبله في الغيبة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المنافقين برئ من النفاق».

.سورة التغابن:

مختلف فيها وآيها ثماني عشرة آية.

.تفسير الآيات (1- 9):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}
{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} بدلالتها على كماله واستغنائه. {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد} قدم الظرفين للدلالة على اختصاص الأمرين به من حيث الحقيقة. {وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكل على سواء ثم شرع فيما ادعاه فقال: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ} مقدر كفره موجه إليه ما يحمله عليه. {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} مقدر إيمانه موفق لما يدعوه إليه. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيعاملكم بما يناسب أعمالكم.
{خَلقَ السموات والأرض بالحق} بالحكمة البالغة. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} فصوركم من جملة ما خلق فيهما بأحسن صورة، حيث زينكم بصفوة أوصاف الكائنات، وخصكم بخلاصة خصائص المبدعات، وجعلكم أنموذج جميع المخلوقات. {وَإِلَيْهِ المصير} فأحسنوا سرائركم حتى لا يمسخ بالعذاب ظواهركم.
{يَعْلَمُ مَا في السموات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ والله عَلِيمُ بِذَاتِ الصدور} فلا يخفى عليه ما يصح أن يعلم كلياً كان أو جزئياً، لأن نسبة المقتضى لعلمه إلى الكل واحدة، وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولاً وبالذات وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} يا أيها الكفار. {نَبَأْ الذين كَفَرُواْ مِنْ قَبْلُ} كقوم نوح وهود وصالح عليهم السلام. {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} ضرر كفرهم في الدنيا، وأصله الثقل ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل المطر الثقيل القطار. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة.
{ذلك} أي المذكور من الوبال والعذاب. {بِأَنَّهُ} بسبب أن الشأن. {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزات. {فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أنكروا وتعجبوا من أن يكون الرسل بشراً والبشر يطلق للواحد والجمع. {فَكَفَرُواْ} بالرسل {وَتَوَلَّواْ} عن التدبر في البينات. {واستغنى الله} عن كل شيء فضلاً عن طاعتهم. {والله غَنِىٌّ} عن عبادتهم وغيرها. {حَمِيدٌ} يدل على حمده كل مخلوق.
{زَعَمَ الذين كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ} الزعم ادعاء العلم ولذلك يتعدى إلى مفعولين وقد قام مقامهما أن بما في حيزه. {قُلْ بلى} أي بلى تبعثون. {وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ} قسم أكد به الجواب. {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} بالمحاسبة والمجازاة. {وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} لقبول المادة وحصول القدرة التامة.
{فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ} محمد عليه الصلاة والسلام. {والنور الذي أَنزَلْنَا} يعني القرآن فيه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر لغيره مما فيه شرحه وبيانه. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فمجاز عليه.
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} ظرف {لَتُنَبَّؤُنَّ} أو مقدر باذكر، وقرأ يعقوب {نجمعكم}.
{لِيَوْمِ الجمع} لأجل ما فيه من الحساب والجزاء والجمع جمع الملائكة والثقلين. {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} يغبن فيه بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس، مستعار من تغابن التجار واللام فيه للدلالة على أن التغابن الحقيقي هو التغابن في أمور الآخرة لعظمها ودوامها. {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} أي عملاً صالحاً. {يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً} وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما. {ذلك الفوز العظيم} الإِشارة إلى مجموع الأمرين، ولذلك جعله الفوز العظيم لأنه جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع.

.تفسير الآيات (10- 18):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير} كأنها والآية المتقدمة بيان ل {التغابن} وتفصيل له.
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} إلا بتقديره وإرادته. {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} للثبات والاسترجاع عند حلولها، وقرئ: {يَهْدِ قَلْبَهُ} بالرفع على إقامته مقام الفاعل وبالنصب على طريقة {سَفِهَ نَفْسَهُ} ويهدأ بالهمزة أي يسكن. {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} حتى القلوب وأحوالها.
{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} أي فإن توليتم فلا بأس عليه إذ وظيفته التبليغ وقد بلغ.
{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ} يشغلكم عن طاعة الله أو يخاصمكم في أمر الدين أو الدنيا. {فاحذروهم} ولا تأمنوا غوائلهم. {وَأَن تَعْفُواْ} عن ذنوبهم بترك المعاقبة. {وَتَصْفَحُواْ} بالإِعراض وترك التثريب عليها. {وَتَغْفِرُواْ} بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها. {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم.
{إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} اختبار لكم. {والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثر محبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي لهم.
{فاتقوا الله مَا استطعتم} أي ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. {واسمعوا} مواعظه. {وَأَطِيعُواْ} أوامره. {وَأَنْفِقُواْ} في وجوه الخير خالصاً لوجهه. {خَيْرًا لأَِنْفُسِكُمْ} أي افعلوا ما هو خير لها، وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر، ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره: انفاقاً خيراً أو خبراً لكان مقدراً جواباً للأوامر. {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} سبق تفسيره.
{إِن تُقْرِضُواْ الله} تصرفوا المال فيما أمره. {قَرْضًا حَسَنًا} مقروناً بإخلاص وطيب قلب. {يضاعفه لَكُمْ}. يجعل لكم بالواحد عشراً إلى سبعمائة وأكثر، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب {يضعفه لكم}. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ببركة الإنفاق. {والله شَكُورٌ} يعطي الجزيل بالقليل. {حَلِيمٌ} لا يعاجل بالعقوبة.
{عالم الغيب والشهادة} لا يخفي عليه شيء. {العزيز الحكيم} تام القدرة والعلم.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة» والله أعلم.

.سورة الطلاق:

مدنية وآيها اثنتا عشرة أو إحدى عشرة آية.

.تفسير الآيات (1- 6):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)}
{يا أيها النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} خص النداء وعم الخطاب بالحكم لأنه أمام أمته فنداؤه كندائهم، أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم. والمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف له منزلة الشارع فيه. {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي في وقتها وهو الطهر، فإن اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت، ومن عدة العدة بالحيض علق اللام بمحذوف مثل مستقبلات، وظاهره يدل على أن العدة بالأطهار وأن طلاق المعتدة بالأقراء ينبغي أن يكون في الطهر، وأنه يحرم في الحيض من حيث إن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ولا يدل على عدم وقوعه، إذ النهي لا يستلزم الفساد، كيف وقد صح أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما طلق امرأته حائضاً أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرجعة وهو سبب نزوله. {وَأَحْصُواْ العدة} واضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء. {واتقوا الله رَبَّكُمْ} في تطويل العدة والإِضرار بهن. {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} من مساكنهن وقت الفراق حتى تنقضي عدتهن. {وَلاَ يَخْرُجْنَ} باستبدادهن أما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما، وفي الجمع بين النهيين دلالة على استحقاقهما السكنى ولزومها ملازمة مسكن الفراق وقوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} مستثنى من الأول، والمعنى إلا أن تبذو على الزوج فإنه كالنشوز في إسقاط حقها، أو إلا أن تزني فتخرج لإِقامة الحد عليها، أو من الثاني للمبالغة في النهي والدلالة على أن خروجها فاحشة. {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} الإشارة إلى الأحكام المذكورة. {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بأن عرضها للعقاب. {لا تَدْرِى} أي النفس أو أنت أيها النبي أو المطلق. {لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} وهو الرغبة في المطلقة برجعة أو استئناف.
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} شارفن آخر عدتهن. {فَأَمْسِكُوهُنَّ} فراجعوهن. {بِمَعْرُوفٍ} بحسن عشرة وإنفاق مناسب، {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بإيفاء الحق واتقاء الضرار مثل أن يراجعها ثم يطلقها تطويلاً لعدتها. {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} على الرجعة أو الفرقة تبرياً عن الريبة وقطعاً للتنازع، وهو ندب كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وعن الشافعي وجوبه في الرجعة. {وَأَقِيمُواْ الشهادة} أيها الشهود عند الحاجة. {لِلَّهِ} خالِصاً لوجهه. {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} يريد الحث على الإِشهاد والإِقامة، أو على جميع ما في الآية. {مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} فإنه المنتفع به والمقصود بذكره. {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}.
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على الإِتقاء عما نهى عنه صريحاً أو ضمناً من الطلاق في الحيض، والإِضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكن، وتعدي حدود الله وكتمان الشهادة وتوقع جعل على إقامتها بأن يجعل الله له مخرجاً مما في شأن الأزواج من المضايق والغموم، ويرزقه فرجاً وخلفاً من وجه لم يخطر بباله.
أو بالوعد لعامة المتقين بالخلاص عن مضار الدارين والفوز بخيرهما من حيث لا يحتسبون. أو كلام جيء به للاستطراد عند ذكر المؤمنين. وعنه صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم {وَمَن يَتَّقِ الله} فما زال يقرؤها ويعيدها» وروي: «أن سالم بن عوف بن مالك الأشجعي أسره العدو، فشكا أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له اتق الله وأكثر قول: لا حول ولا قوة إلا بالله ففعل فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإِبل غفل عنها العدو فاستاقها» وفي رواية: «رجع ومعه غنيمات ومتاع» {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} كَافية. {إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ} يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد، وقرأ حفص بالإِضافة، وقرئ: {بالغ أَمْرِهِ} أي نافذ و{بالغا} على أنه حال والخبر: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَئ قَدْراً} تقديراً أو مقدراً، أو أجلاً لا يتأتى تغييره، وهو بيان لوجوب التوكل وتقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق بزمان العدة والأمر بإحصائها، وتمهيد لما سيأتي من مقاديرها.
{واللاتى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ} لكبرهن. {إِنِ ارتبتم} شككتم في عدتهن أي جهلتهم. {فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ} روي أنه لما نزل {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء} قيل فما عدة الَّلاتي لم يحضن فنزلت. {واللاتي لَمْ يَحِضْنَ} أي واللاتي لم يحضن بعد كذلك. {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ} منتهى عدتهن. {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وهو حكم يعم المطلقات والمتوفى عنهم أزواجهن، والمحافظة على عمومه أولى من محافظة عموم قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا} لأن عموم أولات الأحمال بالذات وعموم أزواجا بالعرض، والحكم معلل هاهنا بخلافه ثمة، ولأنه صح أن سبيعة بنت الحرث وضعت بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قد حللت فتزوجي» ولأنه متأخر النزول فتقديمه في العمل تخصيص وتقديم الآخر بناء للعام على الخاص والأول راجح للوفاق عليه. {وَمَن يَتَّقِ الله} في أحكامه فيراعي حقوقها. {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} يسهل عليه أمره ويوفقه للخير.
{ذَلِكَ أَمْرُ الله} إشارة إلى ما ذكر من الأحكام. {أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ الله} في أحكامه فيراعي حقوقها. {يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته} فإن الحسنات يذهبن السيئات {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} بالمضاعفة.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} أي مكان من مكان سكناكم. {مّن وُجْدِكُمْ} من وسعكم أي مما تطيقونه، أو عطف بيان لقوله من {حَيْثُ سَكَنتُم}. {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ} في السكنى. {لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ} فتلجئوهن إلى الخروج. {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فيخرجن من العدة، وهذا يدل على اختصاص استحقاق النفقة بالحامل من المعتدات والأحاديث تؤيده. {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} بعد انقطاع علقة النكاح. {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على الإِرْضَاع. {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} وليأمر بعضكم بعضاً بجميل في الإِرضاع والأجر. {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} تضايقتم. {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} امرأة أخرى، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة.