فصل: تفسير الآيات (10- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (10- 12):

{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)}
{فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} بالتوبة عن الكفر. {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} للتائبين وكأنهم لما أمرهم بالعبادة قالوا: إن كنا على حق فلا نتركه وإن كنا على باطل فكيف يقبلنا ويلطف بنا من عصيناه، فأمرهم بما يجب معاصيهم ويجلب إليهم المنح ولذلك وعدهم عليه ما هو أوقع في قلوبهم. وقيل لما طالت دعوتهم وتمادى إصرارهم حبس الله عنهم القطر أربعين سنة، وأعقم أرحام نسائهم فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه بقوله: {يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. و{السماء} تحتمل المظلة والسحاب، والمدرار كثير الدرور ويستوي في هذا البناء المذكر والمؤنث، والمراد بال {جنات} البساتين.

.تفسير الآيات (13- 20):

{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}
{مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} لا تأملون له توقيراً أي تعظيماً لمن عبده وأطاعه فتكونوا على حال تأملون فيها تعظيمها إياكم، و{لِلَّهِ} بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة ل {وَقَاراً}، أو لا تَعتقدون له عظمة فتخافوا عصيانه، وإنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة.
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} حال مقررة للإنكار من حيث إنها موجبة للرجاء فإنه خلقهم {أَطْوَاراً} أي تارات، إذ خلقهم أولاً عناصر، ثم مركبات تغذي الإِنسان، ثم أخلاطاً، ثم نطفاً، ثم علقاً، ثم مضغاً، ثم عظاماً ولحوماً، ثم أنشأهم خلقاً آخر، فإنه يدل على أنه يمكن أن يعيدهم تارة أخرى فيعظمهم بالثواب وعلى أنه تعالى عظيم القدرة تام الحكمة، ثم أتبع ذلك ما يؤيده من آيات الآفاق فقال: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سموات طِبَاقاً وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} أي في السموات وهو في السماء الدنيا وإنما نسب إليهن لما بينهن من الملابسة. {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} مثلها به لأنها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض كما يزيلها السراج عما حوله.
{والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} أنشأكم منها فاستعير الإِنبات للإنشاء لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض، وأصله {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض} إنباتاً فنبتم نباتاً، فاختصره اكتفاء بالدلالة الالتزامية.
{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} مقبورين. {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} بالحشر، وأكده بالمصدر كما أكد به الأول دلالة على أن الإعادة محققة كالابداء، وأنها تكون لا محالة.
{والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً}. تتقلبون عليها.
{لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} واسعة جمع فج ومن لتضمن الفعل معنى الاتخاذ.

.تفسير الآيات (21- 28):

{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}
{قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى} فيما أمرتهم به. {واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} واتبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم بحيث صار ذلك سبباً لزيادة خسارهم في الآخرة، وفيه أنهم إنما اتبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال والأولاد وأدت بهم إلى الخسار، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي والبصريان {وَوَلَدُهُ} بالضم والسكون على أنه لغة كالحزن والحزن أو جمع كالأسد.
{وَمَكَرُواْ} عطف على {لَّمْ يَزِدْهُ} والضمير لمن وجمعه للمعنى. {مَكْراً كُبَّاراً} كبيراً في الغاية فإنه أبلغ من كبار وهو من كبير، وذلك احتيالهم في الدين وتحريش الناس على أذى نوح عليه السلام.
{وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ} أي عبادتها. {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} {وَلاَ تَذَرُنَّ} هؤلاء خصوصاً، قيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا صوروا تبركاً بهم، فلما طال الزمان عبدوا. وقد انتقلت إلى العرب فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير. وقرأ نافع {وُدّاً} بالضم وقرئ: {يغوثاً} و{يعوقاً} للتناسب، ومنع صرفهما للعلمية والعجمة.
{وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً} الضمير للرؤساء أو للأصنام كقوله: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا} {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً} عطف على {رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى}، ولعل المطلوب هو الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم لا في أمر دينهم، أو الضياع والهلاك كقوله: {إِنَّ المجرمين في ضلال وَسُعُرٍ} {مّمَّا خطيئاتهم} من أجل خطيئاتهم، و{ما} مزيدة للتأكيد والتفخيم، وقرأ أبو عمرو {مما خطاياهم}. {أُغْرِقُواْ} بالطوفان. {فَأُدْخِلُواْ نَاراً} المراد عذاب القبر أو عذاب الآخرة، والتعقيب لعدم الاعتداد بما بين الإِغراق والإِدخال، أو لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع، وتنكير النار للتعظيم أو لأن المراد نوع من النيران. {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً} تعريض لهم باتخاذ آلهة من دون الله لا تقدر على نصرهم.
{وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} أي أحداً وهو مما يستعمل في النفي العام فيعال من الدار، أو الدور وأصله ديوار ففعل به ما بأصل سيد الأفعال وإلا لكان دواراً.
{إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} قال ذلك لما جربهم واستقرى أحوالهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فعرف شيمهم وطباعهم.
{رَّبّ اغفر لِى ولوالدى} لملك بن متوشلخ وشمخا بنت أنوش وكانا مؤمنين. {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ} منزلي أو مسجدي أو سفينتي. {مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} إلى يوم القيامة. {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} هلاكاً.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح».

.سورة الجن:

مكية، وآيها ثمان وعشرون آية.

.تفسير الآية رقم (1):

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1)}
{قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ} وقرئ: {أحي} وأصله وحى من وحى إليه فقلبت الواو همزة لضمتها ووحى على الأصل وفاعله: {أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، و{الجن} أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية. وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها، وفيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله به رسوله. {فَقَالُواْ} لما رجعوا إلى قومهم. {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً} كتاباً. {عَجَبًا} بديعاً مبايناً لكلام الناس في حسن نظمه ودقة معناه. وهو مصدر وصف به للمبالغة.

.تفسير الآية رقم (2):

{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)}
{يَهْدِى إِلَى الرشد} إلى الحق والصواب. {فَآمَنَّا بِهِ} بالقرآن. {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً} على ما نطقت به الدلائل القاطعة على التوحيد.

.تفسير الآية رقم (3):

{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)}
{وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} قرأه ابن كثير والبصريان بالكسر على أنه من جملة المحكي بعد القول، وكذا ما بعده إلا قوله: {وأن لو استقاموا} {وَأَنَّ المساجد}، {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ} فإنها من جملة الموحى به ووافقهم نافع وأبو بكر إلا في قوله: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ} على أنه استئناف أو مقول، وفتح الباقون الكل إلا ما صدر بالفاء على أن ما كان من قولهم فمعطوف على محل الجار والمجرور في {بِهِ} كأنه قيل: صدقنا {أَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} أي عظمته من جد فلان في عيني إذا عظم، أو سلطانه أو غناه مستعار من الجد الذي هو البخت، والمعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه وقوله: {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} بيان لذلك، وقرئ: {جداً} على التمييز {جِدُّ رَبّنَا} بالكسر أي صدق ربوبيته، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد.

.تفسير الآيات (4- 12):

{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)}
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} إبليس أو مردة الجن. {عَلَى الله شَطَطاً} قولاً ذا شطط وهو البعد ومجاوزة الحد، أو هو شطط لفرط ما أشط فيه، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله.
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك بظنهم أن أحداً لا يكذب على الله، و{كَذِبًا} نصب على المصدر لأنه نوع من القول أو الوصف المحذوف، أي قولاً مكذوباً فيه، ومن قرأ {ن لَّن تَقُولَ}أَ كيعقوب جعله مصدراً لأن التقول لا يكون إلا {كَذِبًا}.
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} فإن الرجل كان إذا أمسى بقفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. {فَزَادوهُمْ} فزادوا الجن باستعاذتهم بهم. {رَهَقاً} كبراً وعتواً، أو فزاد الجن والإِنس غياً بأن أصلوهم حتى استعاذوا بهم، والرهق في الأصل غشيان الشيء.
{وَأَنَّهُمْ} وأن الإِنس. {ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ} أيها الجن أو بالعكس، والآيتان من كلام الجن بعضهم أو استئناف كلام من الله تعالى، ومن فتح {أن} فيهما جعلهما من الموحى به. {أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} ساد مسد مفعولي {ظَنُّواْ}.
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} طَلَبنا بلوغ السماء أو خبرها، واللمس مستعار من المس للطلب كالجس يقال ألمسه والتمسه وتلمسه كطلبه واطلبه وتطلبه. {فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً} حراساً اسم جمع كالخدم. {شَدِيداً} قوياً وهم الملائكة الذين يمنعونهم عنها. {وَشُهُباً} جمع شهاب وهو المضيء المتولد من النار.
{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ} مقاعد خالية عن الحرس والشهب، أو صالحة للترصد والاستماع، و{لِلسَّمْعِ} صلة ل {نَقْعُدُ} أو صفة ل {مقاعد}. {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أي شهاباً راصداً له ولأجله يمنعه عن الاستماع بالرجم، أو ذوي شهاب راصدين على أنه اسم جمع للراصد، وقد مر بيان ذلك في (الصافات).
{وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرض} بحراسة السماء. {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} خيراً.
{وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} المؤمنون الأبرار. {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي قوم دون ذلك فحذف الموصوف وهم المقتصدون. {كُنَّا طَرَائِقَ} ذوي طرائق أي مذاهب، أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت طرائقنا طرائق. {قِدَداً} متفرقة مختلفة جمع قدة من قد إذا قطع.
{وَأَنَّا ظَنَنَّا} علمنا. {أَن لَّن نُّعْجِزَ الله في الأرض} كائنين في الأرض أينما كنا فيها. {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} هاربين منها إلى السماء، أو لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمراً ولن نعجزه هرباً إلى طلبنا.

.تفسير الآيات (13- 21):

{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)}
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} أي القرآن. {آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ} فهو لا يخاف، وقرئ: {فَلاَ يُخَفَّفُ} والأول أدل على تحقيق نجاة المؤمنين واختصاصها بهم. {بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} نقصاً في الجزاء ولا أن يرهقه ذلة، أو جزاء بخس لأنه لم يبخس لأحد حقاً ولم يرهق ظلماً، لأن من حق المؤمن بالقرآن أن يجتنب ذلك.
{وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} الجائرون عن طريق الحق وهو الإيمان والطاعة. {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً} توخوا رشداً عظيماً يبلغهم إلى دار الثواب.
{وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} توقد بهم كما توقد بكفار الإِنس.
{وَأَنْ لَوِ استقاموا} أي أن الشأن لو استقام الجن أو الإِنس أو كلاهما. {عَلَى الطريقة} أي على الطريقة المثلى. {لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً} لوسعنا عليهم الرزق، وتخصيص الماء الغدق وهو الكثير بالذكر لأنه أصل المعاش والسعة ولعزة وجوده بين العرب.
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرهم كيف يشكرونه، وقيل معناه أن لو استقام الجن على طريقتهم القديمة ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفرانهم. {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ} عن عبادته أو موعظته أو وحيه. {يَسْلُكْهُ} يدخله وقرأ غير الكوفيين بالنون. {عَذَاباً صَعَداً} شاقاً يعلو المعذب ويغلبه مصدر وصف به.
{وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} مختصة به. {فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} فلا تعبدوا فيها غيره، ومن جعل {أن} مقدرة باللام علة للنهي ألغى فائدة الفاء، وقيل المراد ب {المساجد} الأرض كلها لأنها جعلت للنبي عليه الصلاة والسلام مسجداً. وقيل المسجد الحرام لأنه قيل المساجد ومواضع السجود على أن المراد النهي عن السجود لغير الله، وآرابه السبعة أو السجدات على أنه جمع مسجد.
{وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} أي النبي عليه الصلاة والسلام وإنما ذكر بلفظ العبد للتواضع فإنه واقع موقع كلامه عن نفسه، والاشعار بما هو المقتضى لقيامه. {يَدْعُوهُ} يعبده {كَادُواْ} كاد الجن. {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} متراكمين من ازدحامهم عليه تعجباً مما رأوا من عبادته وسمعوا من قراءته، أو كاد الإنس والجن يكونون عليه مجتمعين لإِبطال أمره، وهو جمع لبدة وهي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد، وعن ابن عامر {لُبَداً} بضم اللام جمع لبدة وهي لغة. وقرئ: {لَبَداً} كسجداً جمع لابد و{لِبَداً} كصبر جمع لبود.
{قَالَ إِنَّمَا ادعوا رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي، وقرأ عاصم وحمزة {قل} على الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام ليوافق ما بعده.
{قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} ولا نفعاً أو غياً، عبر عن أحدهما باسمه وعن الآخر باسم سببه أو مسببه إشعاراً بالمعنيين.