فصل: تفسير الآية رقم (81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (81):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}
{وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءَاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} قيل إنه على ظاهره، وإذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم به أولى. وقيل معناه أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم. وقيل إضافة الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم. وقيل المراد أولاد النبيين على حذف المضاف، وهم بنو إسرائيل، أو سماهم نبيين تهكماً لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا، واللام في {لما} موطئه للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف، وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية. وقرأ حمزة: {لما} بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب، ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه، أو موصولة والمعنى أخذه للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له. وقرئ: {لما} بمعنى حين آتيتكم، أو لمن أجل ما آتيتكم على أن أصله لمن ما بالإِدغام فحذف إحدى الميمات الثلاث استثقالاً. وقرأ نافع: {آتيناكم} بالنون والألف جميعاً. {قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} أي عهدي، سمي به لأنه يؤصر أي يشد. وقرئ بالضم وهو إما لغة فيه كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به. {قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا} أي فليشهد بعضكم على بعض بالإِقرار. وقيل الخطاب فيه للملائكة. {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين} وأنا أيضاً على إقراركم وتشاهدكم شاهد، وهو توكيد وتحذير عظيم.

.تفسير الآية رقم (82):

{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}
{فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك} بعد الميثاق والتوكيد بالإِقرار والشهادة. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} المتمردون من الكفرة.

.تفسير الآية رقم (83):

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}
{أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} عطف على الجملة المتقدمة والهمزة متوسطة بينهما للإِنكار، أو محذوف تقديره أتتولون فغير دين الله تبغون، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإِنكار والفعل بلفظ الغيبة عند أبي عمرو وعاصم في رواية حفص ويعقوب، وبالتاء عند الباقين على تقدير وقل له. {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السموات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا} أي طائعين بالنظر واتباع الحجة، وكارهين بالسيف ومعاينة ما يلجئ إلى الإِسلام كنتق الجبل وإدراك الغرق، والإِشراف على الموت. أو مختارين كالملائكة والمؤمنين ومسخرين كالكفرة فإنهم لا يقدرون أن يمتنعوا عما قضى عليهم {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وقرئ بالياء على أن الضمير لمن.

.تفسير الآية رقم (84):

{قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}
{قُلْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبّهِمْ} أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه ومتابعيه بالإِيمان، والقرآن كما هو منزل عليه بتوسط تبليغه إليهم وأيضاً المنسوب إلى واحد من الجمع قد ينسب إليهم، أو بأن يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك إجلالاً له، والنزول كما يعدى بإلى لأنه ينتهي إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من فوق، وإنما قدم المنزل عليه السلام على المنزل على سائر الرسل لأنه المعرف له والعيار عليه {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} بالتصديق والتكذيب. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} منقادون أو مخلصون في عبادته.

.تفسير الآية رقم (85):

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا} أي غير التوحيد والإِنقياد لحكم الله. {فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الأخرة مِنَ الخاسرين} الواقعين في الخسران، والمعنى أن المعرض عن الإِسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، واستدل به على أن الإِيمان هُو الإِسلام إذ لو كان غيره لم يقبل. والجواب إنه ينفي قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره، ولعل الدين أيضاً للأعمال.

.تفسير الآية رقم (86):

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}
{كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البينات} استبعاد لأن يهديهم الله فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد. وقيل نفي وإنكار له وذلك يقتضي أن لا تقبل توبة المرتد، {وَشَهِدُواْ} عطف على ما في {أيمانهم} من معنى الفعل ونظيره فأصدق وأكن، أو حال بإضمار قد من كفروا وهو على الوجهين دليل على أن الإِقرار باللسان خارج عن حقيقة الإِيمان. {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بالإِخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإِيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه.

.تفسير الآيات (87- 93):

{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)}
{أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملئكة والناس أَجْمَعِينَ} يدل بمنطوقه على جواز لعنهم، وبمفهومه على نفي جواز لعن غيرهم. ولعل الفرق أنهم مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدى مؤيسون عن الرحمة رأساً بخلاف غيرهم، والمراد بالناس المؤمنون أو العموم فإن الكافر أيضاً يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه.
{خالدين فِيهَا} في اللعنة، أو العقوبة، أو النار وإن لم يجز ذكرهما لدلالة الكلام عليهما. {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}.
{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد الارتداد. {وَأَصْلَحُواْ} ما أفسدوا، ويجوز أن لا يقدر له مفعول بمعنى ودخلوا في الصلاح. {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} يقبل توبته. {رَّحِيمٌ} يتفضل عليه. قيل: إنها نزلت في الحارث بن سويد حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن سلوا هل لي من توبة، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية فرجع إلى المدينة فتاب.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا} كاليهود كفروا بعيسى والإِنجيل بعد الإِيمان بموسى والتوراة، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن، أو كفروا بمحمد بعدما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار والعناد والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق، أو كقوم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفراً بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون أو نرجع إليه وننافقه بإظهاره. {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأنهم لا يتوبون، أو لا يتوبون إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكني عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة، أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقاً لارتدادهم وزيادة كفرهم، ولذلك لم تدخل الفاء فيه. {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون} الثابتون على الضلال.
{إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرض ذَهَبًا} لما كان الموت على الكفر سبباً لامتناع قبول الفدية أدخل الفاء هاهنا للإِشعار به، وملء الشيء ما يملؤه. و{ذَهَبًا} نصب على التمييز. وقرئ بالرفع على البدل من {مّلْء} أو الخبر لمحذوف. {وَلَوِ افتدى بِهِ} محمول على المعنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً، أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تقرب به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة، أو المراد ولو افتدى بمثله كقوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ} والمثل يحذف ويراد كثيراً لأن المثلين في حكم شيء واحد {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مبالغة في التحذير وإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرماً {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} في دفع العذاب ومن مزيدة للاستغراق.
{لَن تَنَالُواْ البر} أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة. {حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} أي من المال، أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس، والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيله. روي أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء فضعها حيث أراك الله، فقال: «بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين». وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبها فقال: هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقال: زيد إنما أردت أن أتصدق بها فقال عليه السلام: «إن الله قد قبلها منك» وذلك يدل على أن إنفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل، وأن الآية تعم الإِنفاق الواجب والمستحب. وقرئ: {بعض ما تحبون} وهو يدل على أن من للتبعيض ويحتمل التبيين. {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ} أي من أي شيء محبوب أو غيره ومن لبيان ما. {فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} فيجازيكم بحسبه.
{كُلُّ الطعام} أي المطعومات والمراد أكلها. {كَانَ حِلاًّ لّبَنِي إسراءيل} حلالاً لهم، وهو مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل} يعقوب. {على نَفْسِهِ} كلحوم الإِبل وألبانها. وقيل كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه. وقيل: فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء. واحتج به من جوز للنبي أن يجتهد، وللمانع أن يقول ذلك بإذن من الله فيه فهو كتحريمه ابتداء. {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} أي من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديداً، وذلك رد على اليهود في دعوى البراءة مما نعى عليهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات} وقوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآيتين، بأن قالوا لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده حتى انتهى الأمر إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا، وفي منع النسخ والطعن في دعوى الرسول عليه السلام موافقة إبراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الإِبل وألبانها. {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين} أمر بمحاجتهم بكتابهم وتبكيتهم بما فيه من أنه قد حرم عليهم بسبب ظلمهم ما لم يكن محرماً. روي: أنه عليه السلام لما قاله لهم بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة. وفيه دليل على نبوته.

.تفسير الآية رقم (94):

{فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}
{فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} ابتدعه على الله بزعمه أنه حرم ذلك قبل نزول التوراة على بني إسرائيل ومن قبلهم. {مِن بَعْدِ ذلك} من بعد ما لزمتهم الحجة. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} الذين لا ينصفون من أنفسهم ويَكابرون الحق بعدما وضح لهم.

.تفسير الآيات (95- 96):

{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)}
{قُلْ صَدَقَ الله} تعريض بكذبهم، أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون. {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً} أي ملة الإِسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم، أو مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيوية، وألزمتكم تحريم طيبات أحلها الله لإِبراهيم ومن تبعه. {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} فيه إشارة إلى أن اتباعه واجب في التوحيد الصرف والاستقامة في الدين والتجنب عن الإِفراط والتفريط، وتعريض بشرك اليهود.
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} أي وضع للعبادة وجعل متعبداً لهم، والواضع هو الله تعالى. ويدل عليه أنه قرئ على البناء للفاعل. {لَلَّذِى بِبَكَّةَ} للبيت الذي {بِبَكَّةَ}، وهي لغة في مكة كالنبيط والنميط، وأمر راتب وراتم ولازب ولازم، وقيل هي موضع المسجد. ومكة البلد من بكة إذا زحمه، أو من بكه إذا دقه فإنها تبك أعناق الجبابرة روي أنه عليه السلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال: «المسجد الحرام، ثم بيت المقدس وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة» وقيل أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم، ثم العمالقة، ثم قريش. وقيل هو أول بيت بناه آدم فانطمس في الطوفان، ثم بناه إبراهيم. وقيل: كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح يطوف به الملائكة، فلما أهبط آدم أمر بأن يحجه ويطوف حوله ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات وهو لا يلائم ظاهر الآية. وقيل المراد إنه أول بيت بالشرف لا بالزمان. {مُبَارَكاً} كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله، حال من المستكن في الظرف {وَهُدًى للعالمين} لأنه قبلتهم ومتعبدهم، ولأن فيه آيات عجيبة كما قال: