فصل: تفسير الآية رقم (134):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (134):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)}
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا} كالمجاهد يجاهد للغنيمة. {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة} فما له يطلب أخسهما فليطلبهما كمن يقول: {رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} أو ليطلب الأشرف منهما، فإن من جاهد خالصاً لله سبحانه وتعالى لم تخطئه الغنيمة وله في الآخرة، ما هي في جنبه كلا شيء، أو فعند الله ثواب الدارين فيعطي كلاً ما يريده كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الآية {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} عالماً بالأغراض فيجازي كلا بحسب قصده.

.تفسير الآية رقم (135):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته. {شُهَدَاء للَّهِ} بالحق تقيمون شهاداتكم لوجه الله سبحانه وتعالى، وهو خبر ثان أو حال. {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تقروا عليها، لأن الشهادة بيان للحق سواء كان عليه أو على غيره. {أَوِ الوالدين والأقربين} ولو على والديكم وأقاربكم. {أَن يَكُنَّ} أي المشهود عليه أو كل واحد منه ومن المشهود له. {غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً} فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة، أو لا تجوروا فيها ميلاً أو ترحماً. {فالله أولى بِهِمَا} بالغني والفقير وبالنظر لهما فلو لم تكن الشهادة عليهما أو لهما صلاحاً لما شرعها، وهو علة الجواب أقيمت مقامه والضمير في بهما راجع لما دل عليه المذكور، وهو جنساً الغني والفقير لا إليه وإلا لوحدَّ، ويشهد عليه أنه قرئ: {فالله أولى بهم}. {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ} لأن تعدلوا عن الحق أو كراهة أن تعدلوا من العدل. {وَإِن تَلْوُواْ} ألسنتكم عن شهادة الحق، أو حكومة العدل. قرأه نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإسكان اللام وبعدها واوان الأولى مضمومة، والثانية ساكنة. وقرأ حمزة وابن عامر: {وإن تلوا} بمعنى وإن وليتم إقامة الشهادة فأديتموها. {أَوْ تُعْرِضُواْ} عن آدائها. {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فيجازيكم عليه.

.تفسير الآية رقم (136):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب للمسلمين، أو للمنافقين، أو لمؤمني أهل الكتاب إذ روي: أن ابن سلام وأصحابه قالوا يا رسول الله: إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه. فنزلت. {آمِنُوا بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} اثبتوا على الإِيمان بذلك وداوموا عليه، أو آمنوا به بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم، أو آمنوا إيماناً عاماً يعم الكتب والرسل، فإن الإِيمان بالبعض كلا إيمان والكتاب الأول القرآن والثاني الجنس. وقرأ نافع والكوفيون: {الذي نَزَّلَ} و{الذي أَنزَلَ} بفتح النون والهمزة والزاي، والباقون بضم النون والهمزة وكسر الزاي. {وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر} أي ومن يكفر بشيء من ذلك. {فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً} عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه.

.تفسير الآية رقم (137):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)}
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ} يعني اليهود آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام. {ثُمَّ كَفَرُواْ} حين عبدوا العجل. {ثُمَّ آمَنُوا} بعد عوده إليهم. {ثُمَّ كَفَرُواْ} بعيسى عليه الصلاة والسلام. {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو قوماً تكرر منهم الارتداد ثم أصروا على الكفر وازدادوا تمادياً في الغي. {لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} إذ يستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الإِيمان، فإن قلوبهم ضربت بالكفر وبصائرهم عميت عن الحق لا أنهم لو أخلصوا الإِيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم، وخبر كان في أمثال ذلك محذوف تعلق به اللام مثل: لم يكن الله مريداً ليغفر لهم.

.تفسير الآية رقم (138):

{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)}
{بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يدل على أن الآية في المنافقين وهم قد آمنوا في الظاهر وكفروا في السر مرة بعد أخرى ثم ازدادوا بالإِصرار على النفاق وإفساد الأمر على المؤمنين، ووضع {بّشِّرِ} مكان أنذر تهكم بهم.

.تفسير الآية رقم (139):

{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}
{الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين} في محل النصب، أو الرفع على الذم بمعنى أريد الذين أو هم الذين. {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} أيتعززون بموالاتهم. {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} لا يتعزز إلا من أعزه الله، وقد كتَبَ العزة لأوليائه فقال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ولا يُؤْبَهُ بعزة غيرهم بالإِضافة إليهم.

.تفسير الآية رقم (140):

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)}
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} يعني القرآن. وقرأ عاصم: {نَزَّلَ} وقرأ الباقونَّ: {نَزَّلَ} على البناء للمفعول والقائم مقام فاعله. {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ} وهي المخففة والمعنى أنه إذا سمعتم. {يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} حالان من الآيات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة في قوله: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ في حَدِيثٍ غَيْرِهِ} الذي هو جزاء الشرط بما إذا كان من يجالسه هازئاً معانداً غير مرجو، ويؤيده الغاية. وهذا تذكار لما نزل عليهم بمكة من قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية. والضمير في معهم للكفرة المدلول عليهم بقوله يكفر بها ويستهزأ بها. {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} في الاثم لأنكم قادرون على الاعراض عنهم والإِنكار عليهم، أو الكفر إِن رضيتم بذلك، أو لأن الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار كانوا منافقين، ويدل عليه: {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} يعني القاعدين والمقعود معهم، وإذا ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر، ولذلك لم يذكر بعدها الفعل وإفراد مثلهم، لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإِضافة إلى الجمع. وقرئ بالفتح على البناء لإِضافته إلى مبني كقوله تعالى: {مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}

.تفسير الآية رقم (141):

{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}
{الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} ينتظرون وقوع أمر بكم، وهو بدل من الذين يتخذون، أو صفة للمنافقين والكافرين أو ذم مرفوع أو منصوب أو مبتدأ خبره. {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} مظاهرين لكم فاسهموا لنا مما غنمتم. {وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ} من الحرب فإنها سجال {قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي قالوا للكفرة: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم، والاستحواذ الاستيلاء وكان القياس أن يقال استحاذ يستحيذ استحاذة فجاءت على الأصل. {وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين} بأن خذلناهم بتخييل ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم فأشركونا فيما أصبتم، وإنما سمي ظفر المسلمين فتحاً وظفر الكافرين نصيباً لخسة حظهم، فإنه مقصور على أمر دنيوي سريع الزوال. {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} حينئذ أو في الدنيا والمراد بالسبيل الحجة، واحتج به أصحابنا على فساد شراء الكافر المسلم. والحنفية على حصول البينونة بنفس الارتداد وهو ضعيف لأنه لا ينفي أن يكون إذا عاد إلى الإِيمان قبل مضي العدة.

.تفسير الآية رقم (142):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)}
{إِنَّ المنافقين يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} سبق الكلام فيه أول سورة البقرة. {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} متثاقلين كالمكرْه على الفعل وقرئ كسالى بالفتح وهما جمع كسلان. {يُرَاءونَ الناس} ليخالوهم مؤمنين المراءاة مفاعلة بمعنى التفعيل كنعم وناعم أو للمقابلة فإن المرائي يري من يرائيه عمله وهو يريه استحسانه. {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه، وهو أقل أحواله أو لأن ذكرهم باللسان قليل بالإِضافة إلى الذكر بالقلب. وقيل: المراد بالذكر الصلاة. وقيل الذكر فيها فإنهم لا يذكرون فيها غير التكبير والتسليم.

.تفسير الآية رقم (143):

{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)}
{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك} حال من واو {يراؤون} كقوله: {وَلاَ يَذْكُرُونَ} أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين أو واو يذكرون أو منصوب على الذم، والمعنى: مرددين بين الإِيمان والكفر من الذبذبة وهي جعل الشيء مضطرباً، وأصله الذي بمعنى الطرد. وقرئ بكسر الذال بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو يتذبذبون كقولهم: صلصل بمعنى تصلصل. وقرئ بالدال غير المعجمة بمعنى أخذوا تارة في دبة وتارة في دبة وهي الطريقة. {لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، أو لا صائرين إلى أحد الفريقين بالكلية. {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} إلى الحق والصواب، ونظيره قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ}

.تفسير الآية رقم (144):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)}
{يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين} فإنه صنيع المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم، {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} حجة بينة فإن موالاتهم دليل على النفاق أو سلطاناً يسلط عليكم عقابه.

.تفسير الآية رقم (145):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)}
{إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} وهو الطبقة التي في قعر جهنم، وإنما كان كذلك لأنهم أخبث الكفرة إذ ضموا إلى الكفر استهزاء بالإِسلام وخداعاً للمسلمين، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» ونحوه فمن باب التشبيه والتغليظ، وإنما سميت طبقاتها السبع دركات لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض. وقرأ الكوفيون بسكون الراء وهي لغة كالسطر والسطر والتحريك أوجه لأنه يجمع على إدراك. {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} يخرجهم منه.

.تفسير الآيات (146- 153):

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)}
{إِلاَّ الذين تَابُواْ} عن النفاق. {وَأَصْلَحُواْ} ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق. {واعتصموا بالله} وثقوا به أو تمسكوا بدينه. {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه سبحانه وتعالى. {فأولئك مَعَ المؤمنين} ومن عدادهم في الدارين. {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً} فيساهمونهم فيه.
{مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ} أيتشفى به غيظاً أو يدفع به ضرراً أو يستجلب به نفعاً وهو الغني المتعالي عن النفع والضر، وإنما يعاقب المصر بكفره لأن إصراره عليه كسوء مزاج يؤدي إلى مرض فإذا أزاله بالإِيمان والشكر ونفى نفسه عنه تخلص من تبعته، وإنما قدم الشكر لأن الناظر يدرك النعمة أولاً فيشكر شكراً مبهماً، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به. {وَكَانَ الله شاكرا} مثيباً يقبل اليسير ويعطي الجزيل. {عَلِيماً} بحق شكركم وإيمانكم.
{لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} إلا جهر من ظلم بالدعاء على الظالم والتظلم منه. وروي أن رجلاً ضاف قوماً فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه. فنزلت وقرئ من ظلم على البناء للفاعل فيكون الاستثناء منقطعاً أي ولكن الظالم يفعل ما لا يحبه الله. {وَكَانَ الله سَمِيعاً} لكلام المظلوم. {عَلِيماً} بالظالم.
{إِن تُبْدُواْ خَيْراً} طاعة وبراً. {أَوْ تُخْفُوهْ} أو تفعلوه سراً. {أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء} لكم المؤاخذة عليه، وهو المقصود وذكر إبداء الخير وإخفائه تشبيب له، ولذلك رتب عليه قوله. {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى بذلك، وهو حث للمظلوم على العفو بعدما رخص له في الانتظار حملاً على مكارم الأخلاق.
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله. {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم. {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} طريقاً وسطاً بين الإِيمان والكفر، لا واسطة: إذ الحق لا يختلف فإن الإِيمان بالله سبحانه وتعالى لا يتم إلا بالإِيمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلاً أو إجمالاً، فالكافر ببعض ذلك كالكافر بالكل في الضلال كما قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} {أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} هم الكاملون في الكفر لا عبرة بإيمانهم هذا. {حَقّاً} مصدر مؤكد لغيره أو صفة لمصدر الكافرين بمعنى: هم الذين كفروا كفراً حقاً أي يقيناً محققاً. {وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً}.
{والذين ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} أضدادهم ومقابلوهم، وإنما دخل بين على أحد وهو يقتضي متعدداً لعمومه من حيث إنه وقع في سياق النفي.
{أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} الموعودة لهم وتصديره بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر. وقرأ حفص عن عاصم وقالون عن يعقوب بالياء على تلوين الخطاب. {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما فرط منهم. {رَّحِيماً} عليهم بتضعيف حسناتهم.
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء} نزلت في أحبار اليهود قالوا: إن كنت صادقاً فائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام، وقيل: كتاباً محرراً بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة، أو كتاباً نعاينه حين ينزل، أو كتاباً إلينا بأعياننا بأنك رسول الله. {فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك} جواب شرط مقدر أي: إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى عليه السلام أكبر منه، وهذا السؤال وإن كان من آبائهم أسند إليهم لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم. والمعنى إن عرقهم راسخ في ذلك وأن ما اقترحوه عليك ليس بأول جهالاتهم وخيالاتهم. {فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً} عياناً أرناه نره جهرة، أو مجاهرين معاينين له. {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} نار جاءت من قبل السماء فأهلكتهم. {بِظُلْمِهِمْ} بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم، ما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقاً. {ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} هذه الجناية الثانية التي اقترفها أيضاً أوائلهم، والبينات، المعجزات، ولا يجوز حملها على التوراة إذ لم تأتهم بعد. {فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَءَاتَيْنَا موسى سلطانا مُّبِيناً} تسلطاً ظاهراً عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم.