فصل: تفسير الآية رقم (176):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (176):

{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}
{وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه} إلى منازل الأبرار من العلماء. {بِهَا} بسبب تلك الآيات وملازمتها. {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} مال إلى الدنيا أو إلى السفالة. {واتبع هَوَاهُ} في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ثم استدرك عنه بفعل العبد، تنبيهاً على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه أن يقول ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه {أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ}، مبالغة وتنبيهاً على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. {فَمَثَلُهُ} فصفته التي هي مثل في الخسة. {كَمَثَلِ الكلب} كصفته في أخس أحواله وهو {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} أي يلهث دائماً سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده. واللهث إدلاع اللسان من التنفس الشديد والشرطية في موضع الحال والمعنى. لاهثاً في الحالتين، والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الذي هو نفي الرفع ووضع المنزلة للمبالغة والبيان. وقيل لما دعا على موسى صلى الله عليه وسلم خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب. {ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا فاقصص القصص} القصة المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم. {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} تفكراً يؤدي بهم إلى الاتعاظ.

.تفسير الآية رقم (177):

{سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)}
{سَاء مَثَلاً القوم} أي مثل القوم، وقرئ: {سَاء مَثَل القوم} على حذف المخصوص بالذم. {الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم بها. {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} إما أن يكون داخلاً في الصلة معطوفاً على كذبوا بمعنى: الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم، أو منقطعاً عنها بمعنى: وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها، ولذلك قدم المفعول.

.تفسير الآية رقم (178):

{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)}
{مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} تصريح بأن الهدى والضلال من الله، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء والإِفراد في الأول والجمع في الثاني باعتبار اللفظ، والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين، والاقتصار في الإِخبار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها.

.تفسير الآية رقم (179):

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} خلقنا. {لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس} يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى. {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله. {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار. {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا} الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر. {أُوْلَئِكَ كالأنعام} في عدم الفقه والإِبصار للاعتبار والاستماع للتدبر، أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار، وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار. {أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون} الكاملون في الغفلة.

.تفسير الآية رقم (180):

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}
{وَللَّهِ الأسماء الحسنى} لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني، والمراد بها الألفاظ وقيل الصفات. {فادعوه بِهَا} فسموه بتلك الأسماء. {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أسمائه} واتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف فيه، إذ ربما يوهم معنى فاسداً كقولهم: يا أبا المكارم يا أبيض الوجه، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه كقولهم: ما نعرف إلا رحمان اليمامة، أو وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من (الله)، والعزى من (العزيز) ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقرأ حمزة هنا وفي (فصلت) {يُلْحِدُونَ} بالفتح يقال: لحد وألحد إذا مال عن القصد.

.تفسير الآية رقم (181):

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} ذكر ذلك بعد ما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضاً للجنة هادين بالحق عادلين في الأمر، واستدل به على صحة الإِجماع لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله» إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة فإنه معلوم.

.تفسير الآية رقم (182):

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)}
{والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم} سنستدنيهم إلى الهلاك قليلاً قليلاً، وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة. {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} ما نريد بهم وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم، فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب.

.تفسير الآية رقم (183):

{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}
{وأملي لهم} وأمهلهم عطف على {سنستدرجهم} {إن كيدي متين} إن أخذي شديد وإنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان.

.تفسير الآية رقم (184):

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}
{أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {مّن جِنَّةٍ} من جنون. روي: أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يحذرهم بأس الله تعالى فقال: قائلهم إن صاحبكم لمجنون بات يهوت إلى الصباح، فنزلت. {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} موضح انذاره بحيث لا يخفى على ناظر.

.تفسير الآية رقم (185):

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)}
{أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ} نظر استدلال. {فِى مَلَكُوتِ السموات والأرض وَمَا خَلَقَ الله مِن شَئ} مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدلهم على كمال قدرة صانعها، ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها، ومتولي أمرها ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه. {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى: أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم، قبل مغافصة الموت ونزول العذاب. {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} أي بعد القرآن. {يُؤْمِنُونَ} إذا لم يؤمنوا به، وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والارشاد إلى النظر. وقيل هو متعلق بقوله: عسى أن يكون، كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن، وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به وقوله:

.تفسير الآية رقم (186):

{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}
{مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} كالتقرير والتعليل له. {وَنَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ} بالرفع على الاستئناف، وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء لقوله: {مَن يُضْلِلِ الله}، وحمزة والكسائي به وبالجزم عطفاً على محل {فَلاَ هَادِيَ لَهُ}، كأنه قيل: لا يهده أحد غيره {وَنَذَرُهُمْ}. {يَعْمَهُونَ} حال من هم.

.تفسير الآية رقم (187):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)}
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة} أي عن القيامة، وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها إما لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو لأنها على طولها عند الله كساعة. {أَيَّانَ مرساها} متى إرساؤها أي إثباتها واستقرارها ورسو الشيء ثباته واستقراره، ومنه رسا الجبل وأرسى السفينة، واشتقاق {أَيَّانَ} من أي لأن معناه أي وقت، وهو من أويت إليه لأن البعض أوى إلى الكل. {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي} استأثر به لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً. {وَلاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا} لا يظهر أمرها في وقتها. {إِلاَّ هُوَ} والمعنى أن الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها، واللام للتأقيت كاللام في قوله: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} {ثَقُلَتْ في السموات والأرض} عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} إلا فجأة على غفلة، كما قال عليه الصلاة والسلام: {إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه} {يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا} عالم بها، فعيل من حفى عن الشيء إذا سأل عنه، فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه، ولذلك عدي بعن. وقيل هي صلة {يَسْأَلُونَكَ}. وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشاً قالوا له: إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة، والمعنى يسألونك عنها كأنك حفي تتحفى بهم فتحضهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها. وقيل معناه كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه، من حفى بالشيء إذا فرح أن تكثره لأنه من الغيب الذي استأثر الله بعلمه. {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} كرره لتكرير يسألونك لما نيط به من هذه الزيادة وللمبالغة. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن علمها عند الله لم يؤته أحداً من خلقه.

.تفسير الآيات (188- 193):

{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)}
{قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا} جلب نفع ولا دفع ضر، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب. {إِلاَّ مَا شَاء الله} من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له، {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِىَ السوء} ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع واجتناب المضار حتى لا يمسني سوء. {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة. {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فإنهم المنتفعون بهما، ويجوز أن يكون متعلقاً بال {بَشِيرٍ} ومتعلق ال {نَّذِيرٍ} محذوف.
{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} هو آدم. {وَجَعَلَ مِنْهَا} من جسدها من ضلع من أضلاعها، أو من جنسها كقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} {زَوْجَهَا} حواء. {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير ذهاباً إلى المعنى ليناسب. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي جامعها. {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا} خف عليها ولم تلق منه ما تلقى منه الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً وهو النطفة. {فَمَرَّتْ بِهِ} فاستمرت به أي قامت وقعدت، وقرئ: {فَمَرَّتْ} بالتخفيف وفاستمرت به وفمارت من المور وهو المجيء والذهاب، أو من المرية أي فظنت الحمل وارتابت منه. {فَلَمَّا أَثْقَلَت} صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها. وقرئ على البناء للمفعول أي أثقلها حملها. {دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ ءاتَيْنَا صالحا} ولداً سوياً قد صلح بدنه. {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لك على هذه النعمة المجددة.
{فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
{أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يعني الأصنام. وقيل: لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج، فخافت من ذلك وذكرته لآدم فهما منه ثم عاد إليها وقال: إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث، وكان اسمه حارثاً بين الملائكة فتقبلت، فلما ولدت سمياه عبد الحرث. وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء ويحتمل أن يكون الخطاب في {خَلَقَكُمْ} لآل قصي من قريش، فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من جنسه عربية قرشية وطلبا من الله الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم: عبد مناف، وعبد شمس، وعبد قصي، وعبد الدار. ويكون الضمير في {يُشْرِكُونَ} لهما ولأعقابهما المقتدين بهما. وقرأ نافع وأبو بكر: {شركاً} أي شركة بأن أشركا فيه غيره أو ذوي شرك وهم الشركاء، وهم ضمير الأصنام جيء به على تسميتهم إياها آلهة.
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} أي لعبدتهم. {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} فيدفعون عنها ما يعتريها.
{وَإِن تَدْعُوهُمْ} أي المشركين. {إِلَى الهدى} إلى الإسلام. {لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} وقرأ نافع بالتخفيف وفتح الباء، وقيل الخطاب للمشركين وهم ضمير الأصنام أي: إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} وإنما لم يقل أم صمتم للمبالغة في عدم إفادة الدعاء من حيث إنه مسوى بالثبات على الصمات، أو لأنهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكأنه قيل: سواء عليكم إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم.