فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (25):

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
{وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جنات} عطف على الجملة السابقة، والمقصود عطف حال من آمن بالقرآن العظيم ووصف ثوابه، على حال من كفر به، وكيفية عقابه على ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب، تنشيطاً لاكتساب ما ينجي، وتثبيطاً عن اقتراف ما يردي، لا عطف الفعل نفسه حتى يجب أن يطلب له ما يشاكله من أمر أو نهي فيعطف عليه أو على فاتقوا، لأنهم إذا لم يأتوا بما يعارضه بعد التحدي ظهر إعجازه، وإذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب، ومن آمن به استحق الثواب، وذلك يستدعي أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء، وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عالم كل عصر، أو كل أحد يقدر على البشارة بأن يبشرهم. ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة، تفخيماً لشأنهم وإيذاناً بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنأوا بما أعد لهم.
وقرئ: {وَبَشّرِ} على البناء للمفعول عطفاً على أعدت فيكون استئنافاً. والبشارة: الخبر السار فإنه يظهر أثر السرور في البَشْرة، ولذلك قال الفقهاء البشارة: هي الخبر الأول، حتى لو قال الرجل لعبيده: من بشرني بقدوم ولدي فهو حر، فأخبروه فرادى عتق أَوَلُهُم، ولو قال: من أخبرني، عتقوا جميعاً، وأما قوله تعالى: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فعلى التهكم أو على طريقة قوله: تحِيَّةُ بَيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجيْعُ.
و{الصالحات} جمع صالحة وهي من الصفات الغالبة التي تجري مجرى الأسماء كالحسنة، قال الحطيئة:
كَيْفَ الهِجَاءُ وما تَنْفَكُّ صالحة ** من آل لامٍ بظُهْرِ الغَيْبِ تَأْتِيني

وهي من الأعمال ما سوغه الشرع وحسنه، وتأنيثها على تأويل الخصلة، أو الخلة، واللام فيها للجنس، وعطف العمل على الإيمان مرتباً للحكم عليهما إشعاراً بأن السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين، فإن الإيمان الذي هو عبارة عن التحقيق والتصديق أَسٌّ، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا غناءَ بأْسٍ لا بناء عليه، ولذلك قلما ذكرا منفردين. وفيه دليل على أنها خارجة عن مسمى الإيمان، إذ الأصل أن الشيء لا يعطفُ على نفسه ولا على ما هو داخل فيه.
{أَنَّ لَهُمْ} منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه، أو مجرور بإضماره مثل: الله لأفعلن. والجنة: المرة من الجن وهو مصدر جنة إذا ستره، ومدار التركيب على الستر، سمي بها الشجر المظلل لالتفاف أغصانه للمبالغة كأنه يستر ما تحته سترة واحدة قال زهير:
كأنَّ عَيني في غَربي مقتلَة ** من النواضِحِ تَسْقي جَنَّةً سُحُقا

أي نخلاً طوالاً، ثم البستان، لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظللة، ثم دار الثواب لما فيها من الجنان، وقيل: سميت بذلك لأنه ستر في الدنيا ما أعد فيها للبشر من أفنان النعم كما قال سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وجمعها وتنكيرها لأن الجنان على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعِلِّيُون، وفي كل واحدة منها مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال. واللام في {لَهُمْ} تدل على استحقاقهم إياها، لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح، لا لذاته فإنه لا يكافئ النعم السابقة، فضلاً عن أن يقتضي ثواباً وجزاء فيما يستقبل بل بجعل الشارع، ومقتضى وعده تعالى لا على الإطلاق، بل بشرط أن يستمر عليه حتى يموت وهو مؤمن لقوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم} وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وأشباه ذلك، ولعله سبحانه وتعالى لم يقيد هاهنا استغناء بها.
{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي من تحت أشجارها، كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها. وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود: واللام في {الأنهار} للجنس، كما في قولك لفلان: بستان في الماء الجاري، أو للعهد، والمعهود: هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءَاسِنٍ} الآية. والنهر بالفتح والسكون: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، كالنيل والفرات، والتركيب للسعة، والمراد بها ماؤها على الإضمار، أو المجاز، أو المجاري أنفسها. وإسناد الجري إليها مجاز كما في قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} الآية.
{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا} صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة. كأنه لما قيل: إن لهم جنات، وقع في خلد السامع أثمارها مثل ثمار الدنيا، أو أجناس أخر فأزيح بذلك، و{كُلَّمَا} نصب على الظرف، و{رِزْقاً} مفعول به، ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال، وأصل الكلام ومعناه: كل حين رزقوا مرزوقاً مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، قيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنات، وابتداؤه منها بابتدائه من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقاً وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال، ويحتمل أن يكون من ثمره، بياناً تقدم كما في قولك: رأيت منك أسداً، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا كقولك مشيراً إلى نهر جار: هذا الماء لا ينقطع، فإنك لا تعني به العين المشاهدة منه، بل النوع المعلوم المستمر بتعاقب جريانه وإن كانت الإشارة إلى عينه، فالمعنى هذا مثل رزقنا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة.
{مِن قَبْلُ} أي: من قبل هذا في الدنيا، جعل ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أول ما يرى، فإنه الطباع مائلة إلى المألوف متنفرة عن غيره، ويتبين لها مزيته وكنه النعمة فيه، إذ لو كان جنساً لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك، أو في الجنة لأن طعامها متشابه في الصورة، كما حكى ابن كثير عن الحسن رضي الله عنهما: أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك، فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف.
أو كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «والذي نفس محمد بيده، إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه، حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها» فلعلهم إذ رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والأول أظهر لمحافظته على عموم {كُلَّمَا} فإنه يدل على ترديدهم هذا القول كل مرة رزقوا، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة.
{وَأُتُواْ بِهِ متشابها} اعتراض يقرر ذلك، والضمير على الأول راجع إلى ما رزقوا في الدارين فإنه مدلول عليه بقوله عز من قائل {هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} ونظيره قوله عز وجل: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} أي بجنسي الغني والفقير، وعلى الثاني إلى الرزق. فإن قيل: التشابه هو التماثل في الصفة، وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس في الجنة من أطعمة إلا الأسماء. قلت: التشابه بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم، وهو كاف في إطلاق التشابه. هذا: وإن للآية الكريمة محملاً آخر، وهو أن مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات، متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها، فيحتمل أن يكون المراد من {هذا الذي رُزِقْنَا} أنه ثوابه، ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والمزية وعلو الطبقة، فيكون هذا في الوعد نظير قوله: {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الوعيد.
{وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهن، كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق، فإن التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال. وقرئ: {مطهرات} وهما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلت وفعلن، وهن فاعلة وفواعل، قال:
وإذَا العَذَارى بالدّخَانِ تَقَنَّعَت ** واسْتَعَجلتْ نَصْبَ القُدورِ فملَّت

فالجمع على اللفظ، والإِفراد على تأويل الجماعة، ومطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة، ومطهرة أبلغ من طاهرة ومطهرة للإشعار بأن مطهراً طهرهن وليس هو إلا الله عز وجل. والزوج يقال للذكر والأنثى، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف، فإن قيل: فائدة المطعوم هو التغذي ودفع ضرر الجوع، وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع، وهي مستغنى عنها في الجنة. قلت: مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات، وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل، ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدها.
{وَهُمْ فِيهَا خالدون} دائمون. والخلد والخلود في الأصل الثبات المديد دام أم لم يدم، ولذلك قيل للأثافي والأحجار خوالد، وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حياً خلد، ولو كان وضعه للدوام كان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى: {خالدين فِيهَا أَبَداً} لغوا واستعماله حيث لا دوام، كقولهم: وقف مخلد، يوجب اشتراكاً، أو مجازاً. والأصل ينفيهما بخلاف ما لو وضع للأعم منه فاستعمل فيه بذلك الاعتبار، كإطلاق الجسم على الإنسان مثل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد} لكن المراد به هاهنا الدوام عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن.
فإن قيل: الأبدان مركبة من أجزاء متضادة الكيفية، معرضة للاستحلالات المؤدية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنان. قلت: إنه تعالى يعيدها بحيث لا يعتورها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلاً متقاومة في الكيفية، متساوية في القوة لا يقوي شيء منها على إحالة الآخر، متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن.
هذا وإن قياس ذلك العالم وأحواله على ما نجده ونشاهده من نقص العقل وضعف البصيرة. واعلم أنه لما كان معظم اللذات الحسية مقصوراً على: المساكن والمطاعم، والمناكح، على ما دل عليه الاستقراء كان ملاك ذلك كله الدوام والثبات، فإن كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم، بشر المؤمنين بها ومثل ما أعد لهم في الآخرة بأبهى ما يستلذ به منها، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور.

.تفسير الآية رقم (26):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}
{إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل، عقب ذلك ببيان حسنه، وما هو الحق له والشرط فيه، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم، وإن كان المثل أعظم من كل عظيم، كما مثل في الإنجيل غل الصدور، بالنخالة. والقلوب القاسية، بالحصاة. ومخاطبة السفهاء، بإثارة الزنابير. وجاء في كلام العرب: أسمع من قراد وأطيش من فراشه، وأعز من مخ البعوض. لا ما قالت الجهلة من الكفار: لِمَا مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين؟ وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت؟ وجعلها أقل من الذباب وأخس قدراً منه؟ الله سبحانه وتعالى أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال ويذكر الذباب والعنكبوت. وأيضاً، لِمَا أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل؟ ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره؟ شَرَعَ في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ} أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. والحياء: انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم، وهو الوسط بين الوقاحة: التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها، والخجل: الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً. واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل: حيي الرجل كما يقال نسي وحشي، إذا اعتلت نساه وحشاه. وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث: «إن الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه». «إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً» فالمراد به الترك اللازم للانقباض، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما، ونظيره قول من يصف إيلاً:
إذا ما اسْتَحينَ الماءَ يعْرضُ نَفْسَه ** كَرَعْنَ بسَبْتٍ في إناءٍ من الوَرْدِ

وإنما عدل به عن الترك، لما فيه من التمثيل والمبالغة، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة. وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم، وأصله وقع شيء على آخر، وأَنْ بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه.
وما إبهامية تزيد النكرة إبهاماً وشياعاً وتسد عنها طرق التقييد، كقولك أعطني كتاباً ما، أي: أي كتاب كان. أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع، فإن القرآن كله هدى وبيان، بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقةً وقوةً وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه. وبعوضة عطف بيان لمثلاً. أو مفعول ليضرب، ومثلاً حال تقدمت عليه لأنه نكرة. أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل. وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعلى هذا يحتمل {مَا} وجوهاً أخر: أن تكون موصولة حذف صدر صلتها، كما حذف في قوله: {تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ} وموصوفة بصفة كذلك، ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين. واستفهامية هي المبتدأ، كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال، قال بعده: ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب به المثل، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك. ونظيره فلان لا يبالي مما يهب ما دينار وديناران. والبعوض: فعول من البعض، وهو القطع كالبضع والعضب، غلب على هذا النوع كالخموش.
{فَمَا فَوْقَهَا} عطف على بعوضة، أو ما إن جعل اسماً، ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت، كأنه قصد به رد ما استنكروه. والمعنى: أنه لا يستحيي ضرب المثل بالبعوض فضلاً عما هو أكبر منه، أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلاً، وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضربه مثلاً للدنيا، ونظيره في الاحتمالين ما روي أن رجلاً بمنى خَرَّ على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة» فإنه يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور وما زاد عليها في القلة كنخبة النملة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة» {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق نظشتظء رَبِّهِم} أما حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط، ولذلك يجاب بالفاء. قال سيبويه: أما زيد فذاهب معناه، مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، أي هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها على الخبر، وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظاً، وفي تصديره الجملتين به إخماد لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم، وذم بليغ للكافرين على قولهم، والضمير في {أَنَّهُ} للمثل، أو لأن يضرب.
و{الحق} الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة، من قولهم حق الأمر، إذا ثبت ومنه: ثوب محقق أي: محكم النسج.
{وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ} كان من حقه: وأما الذين كفروا فلا يعلمون، ليطابق قرينه ويقابل قسيمه، لكن لما كان قولهم هذا دليلاً واضحاً على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه.
{مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} يحتمل وجهين: أن تكون (ما) استفهامية و(ذا) بمعنى الذي وما بعده صلته، والمجموع خبر ما. وأن تكون (ما) مع (ذا) اسماً واحداً بمعنى: أي شيء، منصوب المحل على المفعولية مثل ما أراد الله، والأحسن في جوابه الرفع على الأول، والنصب على الثاني، ليطَابق الجواب السؤال. والإرادة: نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه، وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع، والأول مع الفعل والثاني قبله، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به، ولذلك اختلف في معنى إرادته فقيل: إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره، ولأفعال غيره أمره بها. فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته، وقيل: علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل، والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله، والحق: أنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه، أو معنى يوجب هذا الترجيح، وهي أعم من الاختيار فإنه ميل مع تفضيل وفي هذا استحقار واسترذال. و{مَثَلاً} نصب على التمييز، أو الحال كقوله تعالى: {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً} {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جواب ماذا، أي: إضلال كثير وإهداء كثير، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد، أو بيان للجملتين المصدرتين بإما، وتسجيل بأن العلم بكونه حقاً هدى وبيان، وأن الجهل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده ضلال وفسوق، وكثرة كل واحد من القبيلتين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم، فإن المهديين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد، وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف كما قال:
قَليلُ إذا عُدُّوا كَثيرٌ إِذا شَدُّوا

وقال:
إنَّ الكِرامَ كثيرٌ في البلادِ وإِن ** قَلُّوا كما غيرَهُم قلٌّ وإنْ كَثُرُوا

{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} أي الخارجين عن حد الإيمان، كقوله تعالى: {إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون} من قولهم: فسقت الرُطَبة عن قشرها إذا خرجت. وأصل الفسق: الخروج عن القصد قال رؤبة:
فواسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوائراً

والفاسق في الشرع: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وله درجات ثلاث:
الأولى: التغابي وهو أن يرتكبها أحياناً مستقبحاً إياها.
الثانية: الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها.
الثالثة: الجحود وهو أن يرتكبها مستصوباً إياها، فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولابس الكفر. وما دام هو في درجة التغابي أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان، ولقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} والمعتزلة لما قالوا: الإيمان: عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل، والكفر تكذيب الحق وجحوده. جعلوه قسماً ثالثاً نازلاً بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما في بعض الأحكام، وتخصيص الإضلال بهم مرتباً على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال، وأدى بهم إلى الضلال. وذلك لأن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به، حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه واستهزؤوا به. وقرئ: {يضل} بالبناء للمفعول و{الفاسقون} بالرفع.