فصل: تفسير الآية رقم (41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (41):

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)}
{واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} أي الذي أخذتموه من الكفار قهراً.. {مِن شَئ} مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط. {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} مبتدأ خبره محذوف أي: فثابت أن لله خمسة. وقرئ فإن بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} فكأنه قال: فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به. وحكمه بعد، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما. وقيل إلى الإمام. وقيل إلى الأصناف الأربعة. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفاً إلى الثلاثة الباقية. وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي: «أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة». وقيل سهم الله لبيت المال. وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم. وذوو القربى: بنو هاشم، وبنو المطلب. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام وشبك بين أصابعه» وقيل بنو هاشم وحدهم. وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء. وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم بن السبيل. وقيل الخمس كله لهم والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص. والآية نزلت ببدر. وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة. {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ} متعلق بمحذوف دل عليه {واعلموا} أي: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل. {وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر. وقرئ: {عَبْدَنَا} بضمتين أي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. {يَوْمَ الفرقان} يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل. {يَوْمَ التقى الجمعان} المسلمون والكافرون. {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدر على نصر القليل على الكثير والإِمداد بالملائكة.

.تفسير الآية رقم (42):

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}
{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا} بدل من {يَوْمَ الفرقان}، والعدوة بالحركات الثلاث شط الوادي وقد قرئ بها، والمشهور الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب. {وَهُم بالعدوة القصوى} البعدى من المدينة، تأنيث الأقصى وكان قياسه قلب الواو ياء كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الأصل كالقود وهو أكثر استعمالاً من القصيا. {والركب} أي العير أو قوادها. {أَسْفَلَ مِنكُمْ} في مكان أسفل من مكانكم يعني الساحل، وهو منصوب على الظرف واقع موقع الخبر والجملة حال من الظرف قبله، وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة عنها وتوطين نفوسهم على أن لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم واستبعاد غلبتهم عادة، وكذا ذكر مراكز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ولم يكن بها ماء، بخلاف العدوة القصوى وكذا قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم، ويأساً من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعاً من الله تعالى خارقاً للعادة فيزدادوا إيماناً وشكراً. {ولكن} جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد. {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} حقيقاً بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه، وقوله: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} بدل منه أو متعلق بقوله مفعولاً والمعنى: ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة. أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإِسلام، والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة، أو من هذا حاله في علم الله وقضائه. وقرئ: {ليَهْلَكَ} بالفتح وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب من {حيي} بفك الإِدغام للحمل على المستقبل. {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} بكفر من كفر وعقابه، وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.

.تفسير الآية رقم (43):

{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)}
{إِذْ يُرِيكَهُمُ الله في مَنَامِكَ قَلِيلاً} مقدر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان، أو متعلق بعليم أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} لجبنتم. {ولتنازعتم في الأمر} في أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار. {ولكن الله سَلَّمَ} أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها.

.تفسير الآية رقم (44):

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} الضميران مفعولا يرى و{قَلِيلاً} حال من الثاني، وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة، تثبيتاً لهم وتصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم. {وَيُقَلّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} حتى قال أبو جهل: إن محمداً وأصحابه أكلة جزور، وقللهم في أعينهم قبل التحام القتال ليجترءوا عليهم ولا يستعدوا لهم، ثم كثرهم حتى يرونهم مثليهم لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم، وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشروط. {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} كرره لاختلاف الفعل المعلل به، أو لأن المراد بالأمر ثمة الاكتفاء على الوجه المحكي وها هنا إعزاز الإِسلام وأهله وإذلال الإشراك وحزبه. {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}.

.تفسير الآية رقم (45):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}
{يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} حاربتم جماعة ولم يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار، واللقاء مما غلب في القتال. {فاثبتوا} للقائهم. {واذكروا الله كَثِيراً} في مواطن الحرب داعين له مستظهرين بذكره مترقبين لنصره. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال.

.تفسير الآية رقم (46):

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}
{وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تنازعوا} باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر أو أحد. {فَتَفْشَلُواْ} جواب النهي. وقيل عطف عليه ولذلك قرئ: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} بالجزم، والريح مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها ونفوذها. وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله وفي الحديث: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} بالكلاءة والنصرة.

.تفسير الآية رقم (47):

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير. {بَطَراً} فخراً وأشراً. {وَرِئَاء الناس} ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فقال أبو جهل: لا والله حتى نقدم بدراً ونشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب، فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا وناحت عليهم النوائح، فنهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين، وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إن النهي عن الشيء أمر بضده. {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} معطوف على بطراً إن جعل مصدراً في موضع الحال وكذا إن جعل مفعولاً له لكن على تأويل المصدر. {والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيجازيكم عليه.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان} مقدر باذكر. {أعمالهم} في معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها بأن وسوس إليهم. {وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} مقالة نفسانية والمعنى: أنه ألقى في روعهم وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعدتهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين، ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لانتصب كقولك: لا ضارباً زيداً عندنا. {فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان} أي تلاقى الفريقان. {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} رجع القهقرى أي بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم. {وَقَالَ إِنّي بَرِئ مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ الله} أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة، وقيل: لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة من الإِحنة وكاد ذلك يثنيهم، فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وقال لا غالب لكم اليوم وإني مجيركم من بني كنانة، فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان يده في يد الحارث بن هشام فقال له: إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة فقال إني أرى ما لا ترون، ودفع في صدر الحارث وانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله: {إِنّى أَخَافُ الله} إني أخافه أن يصيبني بمكروه من الملائكة أو يهلكني ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله، والأول ما قاله الحسن واختاره ابن بحر. {والله شَدِيدُ العقاب} يجوز أن يكون من كلامه وأن يكون مستأنفاً.

.تفسير الآية رقم (49):

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}
{إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} والذين لم يطمئنوا إلى الإِيمان بعد وبقي في قلوبهم شبهة. وقيل هم المشركون. وقيل المنافقون والعطف لتغاير الوصفين. {غَرَّ هَؤُلاء} يعنون المؤمنين. {دِينَهُمُ} حتى تعرضوا لما لا يدي لهم به فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشرة إلى زهاء ألف. {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله} جواب لهم. {فَإِنَّ الله عَزِيزٌ} غالب لا يذل من استجار به وإن قل {حَكِيمٌ} يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه.

.تفسير الآيات (50- 56):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)}
{وَلَوْ تَرَى} ولو رأيت فإن لو تجعل المضارع ماضياً عكس إن. {إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملئكة} ببدر، وإذ ظرف ترى والمفعول محذوف أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ، والملائكة فاعل يتوفى ويدل عليه قراءة ابن عامر بالتاء ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله عز وجل وهو مبتدأ خبره {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ} والجملة حال من الذين كفروا، واستغني فيه بالضمير عن الواو وهو على الأول حال منهم أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على الضميرين. {وأدبارهم} ظهورهم أو أستاههم، ولعل المراد تعميم الضرب أي يضربون ما أقبل منهم وما أدبر. {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} عطف على يضربون بإضمار القول أي ويقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة. وقيل كانت معهم مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت النار منها، وجواب {لَوْ} محذوف لتفظيع الأمر وتهويله.
{ذلك} الضرب والعذاب. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} بسبب ما كسبت من الكفر والمعاصي وهو خبر لذلك. {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} عطف على {ما} للدلالة على أن سببيته بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم. فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعاً ولا عقلاً حتى ينتهض نفي الظلم سبباً للتعذيب وظلام التكثير لأجل العبيد.
{كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون وهو عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه أي داموا عليه. {والذين مِن قَبْلِهِمْ} من قبل آل فرعون. {كَفَرُواْ بئايات الله} تفسير لدأبهم. {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} كما أخذ هؤلاء. {إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب} لا يغلبه في دفعه شيء.
{ذلك} إشارة إلى ما حل بهم. {بِأَنَّ الله} بسبب أن الله. {لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ} مبدلاً إياها بالنقمة. {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} يبدلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ، كتغيير قريش حالهم في صلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل بمعادة الرسول عليه الصلاة والسلام ومن تبعه منهم، والسعي في إراقة دمائهم والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد المبعث، وليس السبب عدم تغيير الله ما أنعم عليهم حتى يغيروا حالهم بل ما هو المفهوم له وهو جري عادته على تغييره متى يغيروا حالهم، وأصل يك يكون فحذفت الحركة للجزم ثم الواو لالتقاء الساكنين ثم النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفاً. {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} لما يقولون. {عَلِيمٌ} بما يفعلون.
{كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَونَ} تكرير للتأكيد ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله: {بآيات رَبّهِمْ} وبيان ما أخذ به آل فرعون. وقيل الأول لتشبيه الكفر والأخذ به والثاني لتشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم.
{وَكُلٌّ} من الفرق المكذبة، أو من غرقى القبط وقتلى قريش. {كَانُواْ ظالمين} أنفسهم بالكفر والمعاصي.
{إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} أصروا على الكفر ورسخوا فيه. {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فلا يتوقع منهم إيمان، ولعله إخبار عن قوم مطبوعين على الكفر بأنهم لا يؤمنون، والفاء للعطف والتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف، وقوله: {الذين عاهدت مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ} بدل من الذين كفروا بدل البعض للبيان والتخصيص، وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح وقالوا: نسينا ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم. ومن لتضمين المعاهدة معنى الأخذ والمراد بالمرة مرة المعاهدة أو المحاربة. {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} سبة الغدر ومغبته، أو لا يتقون الله فيه أو نصره للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم.