فصل: تفسير الآية رقم (39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لأسعد حومد



.تفسير الآية رقم (39):

{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)}
(39)- فَمَنْ تَابَ مِنَ السَّارِقِينَ، بَعْدَ سَرِقَتِهِ، وَأنَابَ إلى اللهِ، فَإنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ... أمَّا أمْوَالُ النَّاسِ فَلا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا إلَيْهِمْ، أَوْ رَدِّ بَدَلِهَا.
وَيَقُولُ أبو حَنِيفَةَ: مَتَى قُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ، فَإنَّهُ لا يَرُدُّ بَدَلَ المَالِ المَسْرُوقِ إلى صَاحِبِهِ إذا هَلَكَ المَسْرُوقُ فِي يَدِهِ.
وَتَثْبُتُ السَّرِقَةِ بِالإِقْرَارِ أوِ البَيِّنَةِ، وَيَسْقُطُ الحَدَّ بِالعَفْوِ عَنِ السَّارِقِ قَبْلَ رَفْعِ أمْرِهِ إلَى الإِمَامِ.

.تفسير الآية رقم (40):

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}
{السماوات}
(40)- يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ المُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ مَا فِيهِما، وَلا مُعَقِبَ عَلَى حُكْمِهِ، وَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُعَذِبُ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَادِرٌ.

.تفسير الآية رقم (41):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}
{ياأيها} {يُسَارِعُونَ} {آمَنَّا} {بِأَفْوَاهِهِمْ} {سَمَّاعُونَ} {آخَرِينَ} {أولئك} {الآخرة}
(41)- نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَالتِي بَعْدَهَا فِي المُنَافِقِينَ، الذِينَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ، وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وَفِي أعْدَاءِ الإِسْلامِ مِنَ اليَهُودِ، الذِينَ كَانُوا كَثِيرِي الاسْتِمَاعِ إلى كَلامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَالإِخْبَارِ عَنْهُ، لأجْلِ الكَذِبِ عَلَيهِ بِالتَّحْرِيفِ وَاسْتِنْبَاطِ الشُّبُهَاتِ، فَهُمْ جَوَاسِيسُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ لأعْدَائِهِمْ، مَهَمَّتُهُمْ إبْلاغُ رُؤُوسِ الكُفْرِ أَعْدَاءِ الإِسْلامِ، كُلَّ مَا يَقِفُونَ عَلَيهِ لِيَكُونَ مَا يَفْتَرُونَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالمُسْلِمِينَ مِنْ كَذِبٍ مَقْبُولاً، لأنَّهُمْ يَرْوُونَ مَا يُقَالُ، وَيُحَرِّفُونَ فِيهِ، وَكَانَ هَؤُلاءِ يَأتُونَ إلى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَمِعُوا مِنْهُ، ثُمَّ يَنْقُلُونَ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْهُ إلى الرُّؤسَاءِ ذَوِي الكّيْدِ، الذِينَ لَمْ يَأْتُوا إلَى النَّبِيِّ لِيَسْتَمِعُوا مِنْهُ بِآذَانِهِمْ، إمّا كِبْراً وَإِمَّا تَمَرُّداً.
وَيَقُومُ الرُّؤسَاءُ الرُّوحِيُّونَ مِنَ اليَهُودِ بِتَحْرِيفِ كَلامِ التَّورَاةِ مِنْ بَعْدِ أنْ وَضَعَهُ اللهُ فِي مَوَاضِعِهِ، وَأَحْكَمَهُ، إمَّا تَحْريفاً لَفْظِيَاً، بِإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِكَلِمَةٍ، وَإِمّا بِإخْفَائِهِ وَكِتْمَانِهِ، وَإِما بِالزِّيَادَةِ فِيهِ، أوْ بِالنَّقْصِ مِنْهُ، وَإمَّا تَحْرِيفاً مَعْنَوسّاً، بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنى يَخْتَلِفُ عَنِ المَعْنَى الذِي قَصَدَهُ الشَّارِعُ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إنْ حَكَمَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ الحُكْمَ الذِي تُرِيدُونَ فَاقْبَلُوهُ، وَإنْ قَضَى بِغَيْرِهِ فلا تَسْتَمِعُوا إليهِ.
وَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي يَهُودَيَّين زَنَيا بَعْدَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إلَى المَدِينَةِ بِقَلِيلٍ، وَكَانَ اليَهُودُ قَدْ تَخَلَّوْا عَنْ تَنْفِيذِ مَا شَرَّعَهُ اللهُ لَهُمْ فِي التَّورَاةِ مِنْ رَجْمِ الزُّنَاةِ المُحْصِنِينَ، فَحَرَّفُوا حُكْمَ اللهِ، وَاصْطَلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى جَلْدِ الزَّانِي مِئَةَ جَلْدَةٍ مَعَ صَبْغِ الوَجْهِ بِالسَّوَادِ (وَيُسَمُّونَهُ التَّحْمِيمَ). فَلَمَّا وَقَعَتْ حَادِثَةُ الزِّنَى، قَالَ بَعْضُ اليَهُودِ لِبَعْضٍ تَعَالُوا نَتَحَاكَمُ إلى مُحَمَّدٍ فَإنْ حَكَمَ بِالجَلْدِ، وَصَبْغِ الوَجْهُ بِالسَّوَادِ، فَخُذُوا ذلِكَ عَنْهُ، وَاجْعَلُوهُ حُجَّةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ، وَيَكُونُ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ قَدْ حَكَمَ بَيْنَكُمْ بِذَلِكَ، وَإنْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ فَلا تَتَّبِعُوهُ. فَلَمَّا جَاؤُوا إلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم سَألَهُمْ عَمَّا فِي كِتَابِهِمْ فِي حُكْمِ الزُّنَاةِ، فَقَالُوا نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ- وَكَانَ حَبْراً مِنْ أحْبَارِهِمْ ثُمَّ أَسْلَمَ- كَذَيْتُمْ إنَّ فِيهِ الرَّجْمَ.
وَمَنْ أَرَادَ اللهُ أنْ يَخْتَبِرَهُ فِي دِينِهِ فَيُظْهِرَ الاخْتِبَارُ كُفْرَهُ وَضَلالَهُ، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ يا مُحَمَّدُ مِنَ اللهِ شَيْئاً، لأنَّ اللهَ لَمْ يُرِدْ أنْ يُطَهْرَ قَلْبَهُ، وَلا أنْ يَهْدِيَهُ؛ وَلِهَذا الضَّالِّ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا، وَلَهُ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فَلا تَحْزَنْ يا مُحَمَّدُ بَعْدَ هَذَا عَلَى مُسَارَعَتِهِمْ فِي الكُفْرِ، وَلا تَطْمَعُ فِي هِدَايَتِهِمْ إلى الإِيمَانِ، فَإِنَّكَ لا تَمْلِكُ لأَحَدٍ نَفْعاً، وَإِنَّمَا عَلَيكَ البَلاغُ.
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ- يَسْمَعُونَ كَلامَكَ فَيُحَرِّفُونَ فِيهِ لِيَكْذِبُوا عَلَيْكَ.
سَمَّاعُونَ لِقَومٍ آخَرِينَ- يَسْمَعُونَ كَلامَكَ لِلتَّجَسُّسِ عَلَيكَ.
يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ- يُبَدِّلُونَهُ أَوْ يُؤَوِّلُونَهُ بِالبَاطِلِ.
خِزْيٌ- ذُلٌّ وَفَضِيحَةٌ.
الفِتْنَةُ- هِيَ الاخْتِبَارُ وَالابْتِلاءُ.

.تفسير الآية رقم (42):

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}
{سَمَّاعُونَ} {أَكَّالُونَ}
(42)- وَأَعَادَ اللهُ تَعَالَى وَصْفَهُمْ بِكَثْرَةِ السَّمَاعِ لِلْكَذِبِ، فَقَالَ: وَهُمْ سَمَّاعُونَ لِلْبَاكِلِ، آكَّالُونَ لِلْمَالِ الحَرَامِ كَالرِّبَا وَالرَّشْوَةِ (السُّحْتِ)، فَإِذَا جَاؤُوكَ يَتَحَاكَمُونَ إلَيْكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، فَلا عَلَيكَ أنْ لا تَحْكُمَ بَيْنَهُم لأنَّهُمْ لا يَقْصِدُونَ، بِمَجِيئِهِمْ إليكَ لِلتَّحَاكُمِ، اتِّبَاعَ الحَقِّ، بَلْ يُرِيدُونَ أنْ تَحْكُمَ لَهُمْ بِمَا يُوافِقُ أَهْوَاءَهُمْ.
وَهَذا الحُكْمُ خَاصٌّ بِالمُعَاهِدِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَبِالنِّسْبَةِ لِلمُعَاهِدِينَ لا يَجِبُ عَلى المُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَهُم (كَالأَجَانِبِ المُوجُودِينَ فِي بِلادِ المُسْلِمِينَ)، وَإنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِمْ، بَلِ المُسْلِمُونَ مُخَيَّرُونَ فِي ذَلِكَ حَسْبَمَا يَرَوْنَ فِيهِ المَصْلَحَةَ.
وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَيَجِبُ الحُكْمُ بَيْنَهُمْ إذَا تَحَاكَمُوا إلَى المُسْلِمِينَ، لأنَّ مَنْ أُخِذَتْ مِنُهُ الجِزْيَةُ تَجْرِي عَلَيهِ أَحْكَامُ الإِسْلامِ، فِي البُيُوعِ وَالمَوَارِيثِ، وَالعُقُودِ، عَدَا بَيْعِ الخَمْرِ وَالخِنزِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس هَذا الحُكْمُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله}.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِّيهِ صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا أرَدْتَ أنْ تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَاحْكُمْ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ، لأنَّ اللهَ يُحِبُّ الذِينَ يَقْضُونَ بِالعَدْلِ (المُقْسِطِينَ).
السُّحْتُ- المَالُ الحَرَامُ- كالرَّشْوَةِ وِالفَائِدَةِ وَالقِمَارِ.
بِالقِسْطِ- بِالعَدْلِ.
المُقْسِطِينَ- العَادِلِينَ فِي الحُكْمِ.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}
{التوراة} {أولئك}
(43)- وَيُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاءِ مَقَاصِدَهُمُ الزَّائِفَةَ، وَنِيَّاتِهِمُ الفَاسِدَةَ، فِي تَرْكِهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ مِنَ الكِتَابِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ، وَالذِي يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ مَأمُورُونَ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ أَبَداً، ثُمَّ يَخْرُجُونَ عَنْ حُكْمِهِ إلى غَيْرِهِ (القُرْآنُ وَالإِسْلامُ)، مِمَّا يَعْتَقِدُونَ بُطْلانَهُ، وَعَدَمَ لُزُومِهِ لَهُمْ. فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ فِي أَمْرِ الزُّنَاةِ وَعِنْدَهُمُ التَّورَاةَ فِيهَا حُكْمُ اللهِ، وَإذَا أَرَدْتَ أَنْتَ أنْ تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَ شَرْعِهِمْ، لَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ (يَتَوَلَّوْنَ) لأنَّهُمْ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ إيمَاناً صَحِيحاً لا بِدِينِهِمْ، وَلا بِدِينِكَ.
يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ- يُعْرِضُونَ عَنْ حُكْمِكَ المُوَافِقِ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ تَحْكِيمِكَ.

.تفسير الآية رقم (44):

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
{التوراة} {والربانيون} {كِتَابِ} {بِآيَاتِي} {فأولئك} {الكافرون}
(44)- يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى التَّوْرَاةَ، فَيَقُولُ: إنَّهُ أَنْزَلَهَا وَفِيهَا هُدىً وَنُورٌ، يَحْكُمُ بِهَا الأَنْبِيَاءَ الذِينَ أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِرَبِّهِمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (وَهُمْ مُوسَى وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) بَيْنَ اليَهُودِ لا يَخْرُجُونَ عَنْ حُكْمِهَا، وَلا يُبَدِّلُونَها وَلا يُحَرِّفُونَها. وَيَحْكُمُ بِهَا العُلَمَاءُ العُبَّادُ (الرَّبَّانِيُّونَ)، وَالعُلَمَاءُ (الأَحْبَارُ) بِمَا اسْتَوْدَعُوا (اسْتُحْفِظُوا) مِنْ كِتَابِ اللهِ الذِي أُمِرُوا بِأنْ يَحْفَظُوهُ مِنَ التَّبْدِيلِ، وَبِأنْ يُظْهِرُوهُ، وَيَعْمَلُوا بِأَحْكَامِهِ، ثُمَّ خَاطَبَ اللهُ تَعَالَى رُؤَسَاءَ اليَهُودِ الذِينَ كَانُوا فِي زَمَنْ التَّنْزِيلِ فَقَالَ: كَيْفَ لا يَخَافُونَ اللهَ فِي الكِتْمَانِ وَالتَّبْدِيلِ، بَعْدَ أنْ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ سِيرَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ وَيَرْعَوُونَ عَنْ غَيِّهِمْ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: وَإِذَا كَانَ الحَالُ كَذَلِكَ أيُّهَا الأَحْبَارُ، وَلا شَكَّ فِي أنَّكُمْ لا تُنْكِرُونَهُ، فَلا تَخْشَوا النَّاسَ فَتَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الكِتَابِ، خَشْيَةَ النَّاسِ، أَوْ طَمَعاً فِي مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ مِنْهُ، وَأخْشَوْنِي أنَا وَاقْتَدُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ وَالأَحْبَارِ، وَاحْفَظُوا التَّوْرَاةَ، وَلا تَعْدِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَإنَّ النَّفْعَ وَالضَّرَرَ بِيَدِ اللهِ، وَلا تَتْرُكُوا بَيَانَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ لِلْنَّاسِ، وَالعَمَلِ بِهَا، لِقَاءَ مَنْفَعَةٍ دَنْيَوِيَّةٍ قَلِيلَةٍ تَأْخُذُونَها مِنَ النَّاسِ كَرَشْوَةٍ أوْ جَاهٍ.
وَكُلُّ مَنْ يَرْغَبُ عَنِ الحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ شَرْعٍ، وَيُخْفِيهِ وَيَحْكُمُ بِغَيْرِهِ (كَحُكْمِ اليَهُودِ فِي الزَّانِيَيْنِ المُحْصَنَيْنِ بِالتَّحْمِيمِ وَالجَلْدِ، وَكِتْمَانِ الرَّجْمِ، وَقَضَائِهِمْ فِي بَعْضِ قَتْلاهِمْ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ، وَفِي بَعْضِهِمْ بِنِصْفِ دِيَةٍ، مَعْ أنَّ اللهَ قَدْ سَوَّى بَيْنَ الجَمِيعِ فِي الحُكْمِ)، فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ الذِينَ سَتَرُوا الحَقَّ الذِي كَانَ عَلَيهِم كَشْفُهُ وَتَبْيِينُهُ لِلنَّاسِ.
أَسْلَمُوا- انْقَادُوا لِحُكْمِ رَبِّهِمْ فِي التَّورَاةِ.
الرَّبَّانِيُّونَ- العُلَمَاءُ الفُقَهَاءُ.
الأَحْبَارُ- عُلَمَاءُ اليَهُودِ.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}
{فأولئك} {الظالمون}
(45)- جَاءَتِ التَّوْرَاةُ بِشِرْعَةِ القِصَاصِ: فَالنَّفْسُ تُقْتَلُ بِالنَّفْسِ، وَلَكِنَّ اليَهُودَ يُخَالِفُونَ هَذا الحُكْمَ عَمْداً وَعِنَاداً: فَقَدْ كَانَتْ قَبِيلَتَا بَنِي النَّضِيرَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ تَتَحَارَبَانِ وَتَتَقَاتَلانِ، وَكَانَتْ قَبِيْلَةَ بَنِي النَّضِيرِ قَوِيَّةً عَزِيزَةَ الجَانِبِ، وَكَانَ بَنُو قُرَيْظَةَ ضُعَفَاءَ أَذِلاءَ، فَكَانَ النَّضِيرِيُّ إذَا قَتَلَ قُرَظِّياً، لَمْ يَكُنْ لِيَقْتُلَ بِهِ، بَلْ يُعْدِلُ فِيهِ إلى الدِّيَةِ. أمَّا إذَا قَتَلَ القُرَظِيُّ نَضيرِيّاً، فَكَانَ يُقْتَلُ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ.
كَمَا خَالَفُوا حُكْمَ التَّوْرَاةِ فِي تَرْكِ رَجْمِ الزَّانِي المُحْصَنِ، كَمَا أمَرَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ، وَعَدَلُوا عَنْهُ إلى الجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ. وَقَضَتِ التَّوْرَاةُ بِأنْ تُفْقَأ العَيْنُ بِالعَيْنِ، وَبِأنْ يُجْدَعَ الأَنْفُ بِالأَنْفِ، وَأنْ تُصْلَمَ الأذْنُ بِالأذْنِ، وَأنْ تُنزعَ السِّنُّ بِالسِّنِّ.
أمَّا الجِرَاحُ فَيَتِمُّ فِيهَا القِصَاصُ إذا كَانَتْ فِي مِفْصَلٍ، فَقُتْطَعُ اليَدُ وَالرِّجْلُ وَالكَفُّ وَالقَدَمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أمًّا إذَا كَانَ الجُرْحُ فِي عَظْمٍ وَلَيْسَ فِي مِفْصَلٍ، فَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ التَّطْبِيقِ.
فَمَنْ عَفَا وَتَصَدَّقَ بِحَقّهِ فِي القِصَاصِ عَلَى الجَانِي، كَانَ التَّصَدُّقُ كَفَّارَةً لَهُ يَمْحُو اللهُ بِهَا قَدْراً مِنْ ذُنُوبِهِ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِي كُتُبِهِ مِنْ شْرعٍ، فَأولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، لأنَّهُمْ لَمْ يُنْصِفُوا المَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ، فِي أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ بِالعَدْلِ وَالمُسَاوَاةِ فِيهِ بَيْنَ جَميعِ خَلْقِهِ.

.تفسير الآية رقم (46):

{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)}
{آثَارِهِم} {التوراة} {وَآتَيْنَاهُ}
(46)- وَأَرْسَلْنَا مِنْ بَعْدِ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَيسَى بْنَ مَرْيَمَ مُؤْمِناً بِالتَّوْرَاةِ، وَحَاكِماً بِمَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامٍ، وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى لِلْحَقِّ، وَبَيَانٌ لِلأَحْكَامِ، وَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي إِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ، وَحَلِّ المُشْكِلاتِ. وَجَاءَ الإِنْجِيلَ مُصَدِّقاً لِلْتَّورَاةِ، وَمُتَّبعاً لَهَا، غَيْرَ مُخَالِفٍ لِمَا فِيهَا إلاّ فِي القَلِيلِ مِمَّا بَيَّنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْضَ مَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. وَجَعَلْنَا الإِنْجِيلَ هُدًى يَهْتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ، وَوَاعِظاً وَزَاجِراً لَهُمْ عَنِ ارْتِكَابِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَعَنِ اقْتِرَافِ المَآثِمِ.
قَفَّاهُ بِهِ- جَعَلَهُ يَقْفُو أثَرَهُ.