فصل: سورة الأحزاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.سورة الأحزاب:

.تفسير الآيات (1- 3):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)}

.شرح الكلمات:

{اتق الله}: أي دم على تقواه بامتثالك أوامره واجتنابك نواهيه.
{ولا تطع الكافرين}: أي المشركين فيما يقترحون عليك.
{والمنافقين}: أي الذين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر بما يخوفونك به.
{إن الله كان عليما حكيما}: أي عليما بخلقه ظاهراً وباطناً حكيماً في تدبيره وصنعه.
{واتبع ما يوحى إليك من ربك}: أي تقيد بما يشرع لك من ربك ولا تلتفت غلى مايقوله خصومك لك من اقتراحات أو تهديدات.
{وتوكل على الله}: أي فوض أمرك إليه وامض في ما أمرك به غير مبالٍ بشيء.

.معنى الآيات:

لقد واصل المشركون اقتراحاتهم التي بدأوها بمكة حتى المدينة وهي عروض المصالحة بينه وبينهم بالتخلي عن بعض دينه أو بطرد بعض أصحابه، والمنافقون قاموا بدروهم في المدينة بتهديده صلى الله عليه وسلم بالقتل غيلة إن لم يكف عن ذكر آلهة المشركين في هذا الظرف بالذات نزل قوله تعالى: {يا أيها النبي} ناداه ربّه تعالى بعنوان النبوة تقريرا لها وتشريفا له ولم يناده باسمه العلم كما نادى موسى وعيسى وغيرهما بأسمائهم فقال: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما} أي اتق الله فخفه فلا تقبل اقتراح المشركين ولا ترهب تهديد المنافقين بقتلك إن الله كان وما يزال عليما بكل خلقه وما يحدثون من تصرفات ظاهرة أو باطنة حكيما في تدبيره وتصريفه أمور خلقه وعباده فهو تعالى لعلمه وحكمته لا يخذلك ولا يتركك، ولا يُمكن اعداءك وأعداءه منك بحال وقوله: {واتبع ما يوحى إليك من ربك} من تشريعات خاصة وعامة ولا تترك منها صغيرة ولا كبيرة إذ هي طريق فوزك وسُلم نجاحط أنت وامتك تابعة لك في كل ذلك، وقوله: {إن الله كان بما تعملون خبيرا} هذه الجملة تعليلية تحمل الوعد والوعيد إذ علم الله بأعمال العباد صالحها وفاسدها يستلزم الجزاء عليها فمتى كانت صالحة كان الجزاء حسناً وفي هذا وعده ومتى كانت فاسدة كان الجزاء سوءاً وفي هذا الوعيد. وقوله: {وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا} أمر تعالى رسوله وأُمته تابعة له أن يتوكل على الله في أمره ويمضي في طريقه منفذاً أحكام ربه غير مبال بالكافرين ولا بالمنافقين، وأعلمه ضمناً أنه كافيه متى توكل عليه وكفى بالله كافيا ووكيلا حافظاً.

.من هداية الآيات:

1- وجوب تقوى الله تعالى بفعل المأمور به وترك المنهي عنه.
2- حرمة طاعة الكافرين والمنافقين فيما يقترحون أو يهدون من أجله.
3- وجوب اتباع الكتاب والسنة والتوكل على الله والمضي في ذلك بلا خوف ولا وجل.

.تفسير الآيات (4- 5):

{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)}

.شرح الكلمات:

{ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}: أي لم يخلق الله رجلاً بقلبين كما ادعى بعض المشركين.
{تظاهرون منهن أمهاتكم}: يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي.
{وما جعل ادعياءكم أبناءكم}: أي ولم يجعل الدعيَّ إبناً لمن ادّعاه.
{ذلكم قولكم بأفواهكم}: أي مجرد قول باللسان لا حقيقة له في الخارج فلم تكن المرأة أماً ولا الدعي ابنا.
{هو أقسط عند الله}: أي أعدل.
{فإخوانكم في الدين ومواليكم}: أي أُخوة الإِسلام وبنو عمكم فمن لم يعرف أبوه فقولوا له: يا أخي أو ابن عمي.
{ليس عليكم جناح فيما أخطأتم}: أي لا حرج ولا إثم في الخطأ، فمن قال للدعي خطأ به يا ابن فلان فلا إثم عليه.
{ولكن ما تعمدت قلوبكم}: أي الاثم والحرج في التعمد بأن ينسب الدعي لمن ادعاه.
{وكان الله غفوراً رحيما}: ولذا لم يؤاخذكم بالخطأ ولكن بالتعمد.

.معنى الآيات:

لما كان القلب محط العقل والإِدراك كان وجود قلبين في جوف رجل واحد يحدث تعارضاً يؤدي إلى الفساد في حياة الإِنسان ذي القلبين لم يجعل الله تعالى لرجل قلبين في جوفه كما ادعى بعض أهل مكة أن أبا معمر جميل بن معمر الفهري كان له قلبان لما شاهدوا من ذكائه ولباقته وحذقه وغره ذلك فقال إن لي قلبين أعقل بهما أفضل من عقل محمد صلى الله عليه وسلم فكانت الآية رداً عليه قال تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} وفيه إشارة إلى أنه لا يجمع بين حب الله تعالى وحب أعدائه وطاعة الله وطاعة أعدائه، وقوله، {وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم} أي لم يجعل الله تعالى المرأة المظاهر ومنها أُماً لمن ظاهر منها كأن يقول لها أنت عليّ كظهر أُمي وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار محُرِّماً للزوجة كالأم فأبطل الله تعالى ذلك وبيّن حكمه في سورة المجادلة، وأن من ظاهر من امرأته يجب عليه كفارة: عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا.
وقوله تعالى: {وما جعل ادعياءكم ابناءكم} أي لم يجعل الله الدعيّ إبناً إذ كانوا في الجاهلية وفي صدر الإِسلام يطلقون على المتبنَّي إبناً فيترتب على ذلك كامل حقوق البنوة من حرمة التزوج بامرأته إن طلقها أو مات عنها، وقوله: {ذلكم قولكم بأفواهكم} أي ما هو إلا نطق بالفم ولا حقيقة في الخارج له إذ قول الرجل للدعيّ أنت ولدي لم بُصيِّرة ولده وقول الزوج لزوجته أنت كأمي لم تكن أماً له. وقوله تعالى: {والله يقول الحق} فلا يطلق على المظاهر منها لفظ أم، ولا على الدعي لفظ ابن، {وهو يهدي السبيل} أي الأقوام والأرشد سبحانه لا إله إلا هو.
وقوله تعالى في الآية (5) من هذا السياق {ادعوهم لآبائهم} أي ادعوا الأدعياء لآبائهم أي انسبوهم لهم يا فلان بن فلان. فإِن دعوتهم إلى آبائهم أقسط وأعدل في حكم الله وشرعه. {فإِن لم تعلموا آباءهم فإِخوانكم في الدين} فادعوهم باسم الإِخوة الإِسلامية فقولوا هذا أخي في الإِسلام. {ومواليكم} أي بنو عمكم فادعوهم بذلك فقولوا يا بن عمي وإن كان الدعي ممن حررتموه فقولوا له ملاي {وليس عليكم جناح} أي إثم أو حرج {فيما أخطأتم به} من قول أحدكم للدعي ليس ابن فلان لمن ادعاه خطأ لسان بدون قصد، أو ظناً منكم أنه إبنه وهو في الواقع ليس ابنه ولكن الاثم في التعمد والقصد المتعمد، وقوله: {وكان الله غفورا رحيما} أي غفوراً لمن تاب رحيما لم يعاجل بالعقوبة من عصى لعله يتوب ويرجع.

.من هداية الآيات:

1- إبطال التحريم بالظهار الذي كان في الجاهلية.
2- ابطال عادة التبنّي، وما يترتب عليها من حرمة نكاح امرأة المتبنّى.
3- وجوب دعاء الدعي المتبنَّى بأبيه إن عُرف ولو كان حماراً.
4- إن لم يعرف لمدعي اب دُعي بعنوان الإِخوة الإِسلامية، أو العمومية أو المولوية.
5- رفع الحرج والإِثم في الخطأ عموما وفيما نزلت في الآية الكريمة خصوصا وهو دعاء الدعي باسم مُدعيه سبق لسان بدون قصد، أو بقصد لأنه يرى أنه ابنه وهو ليس ابنه.

.تفسير الآيات (6- 8):

{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}

.شرح الكلمات:

{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}: أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلب منهم هو أحق به من أنفسهم.
{وأزواجه أمهاتهم}: في الحرمة وسواء من طلقت أو مات عنها منهن رضي الله عنهن.
{وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض}: أي في التوارث من المهاجرين والمتعاقدين المتحالفين.
{إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً}: بأن توصوا لهم وصيَّة جائزة وهي الثلث فأقل.
{كان ذلك في الكتاب مسطورا}: أي عدم التوارث بالإِيمان والهجرة والحلف مكتوب في اللوح المحفوظ.
{وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم}: أي أذكر لقومك أخذنا من النبيين ميثاقهم على أن يعبدوا الله وحده ويدعوا إلى عبادته.
{ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى}: أي وأخذنا بخاصة منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، وقدم محمد صلى الله عليه وسلم في الذكر تشريفا وتعظيما له.
{وأخذنا منهم ميثاقا غليظا}: أي شديداً والميثاق: العهد المؤكد باليمين.
{ليسال الصادقين عن صدقهم}: أي أخذ الميثاق من أجل أن يسأل الصادقين وهم الأنبياء عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتاً للكافرين بهم.
{وأعدّ للكافرين عذابا أليما}: أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين عذابا أليماً أي موجعا.

.معنى الآيات:

لما أبطل الله تعالى عادة التبنّي وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة الكلبي فكان يعرف بزيد بن محمد صلى الله عليه وسلم وأصبح بذلك يدعى بزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم تعالى كافة المؤمنين أن نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأن أزواجه أمهاتهم في الحرمة فلا تحل امرأة النبي لأحد بعده صلى الله عليه وسلم، ومعنى أن {النبي أولى بالمؤمنين من انفسهم} أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلبه منهم هو أحق به من أنفسهم، وبذلك أعطى الله تعالى رسوله من الرفعة وعلوّ الشأن ما لم يُعط أحداً غيره جزاء له على صبره على ما أُخذ منه من بنوَّة زيد رضي الله عنه الذي كان يُدعَى بزيد بن محمد فأصبح يعرف بزيد بن حارثة.
وقوله تعالى: {وأولوا الرحام بعضهم أولى ببعض} يريد في الإِرث فأبطل تعالى بهذه الآية التوارث بالإِيمان والهجرة والحلف الذي كان في صدر الإِسلام واصبح التوارث بالنسب والمصاهرة والولاء لا غير. وقوله: {كان ذلك في الكتاب مسطوراً} التوارث بالأرحام أي بالقرابات مكتوب في اللوح المحفوظ وقوله: {غلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً} أي إلا أن توصوا بوصيّة جائزة وهي الثلث لأحد من المؤمنين والمهاجرين ومن حالفتم فلا بأس فهي جائزة ولا حرمة فيها، وقوله: {كان ذلك} أي المذكور من التوارث بالقرابات لا غير وجواز الوصيّة بالثلث لمن أبطل ارثهم بالإِيمان والهجرة والمؤاخاة، في اللوح المحفوظ وهو كتاب المقادير مسطوراً أي مكتوباً مسطراً فلا يحل تبديله ولا تغييره.
وقوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} أي اذكر يا رسولنا لقومك أخذنا الميثاق وهو العهد المؤكد باليمين من النبيين عامة بأن يعبدوا الله وحده ويدعوا أُممهم إلى ذلك، ومن أُولى العزم من الرسل خاصة وهم أنت يا محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وقوله: {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظا} أُعيد اللفظ تكراراً لتقريره، وليرتب عليه قوله: {ليسأل} تعالى يوم القيامة {الصادقين} وهم الأنبياء {عن صدقهم} في تبليغ رسالتهم تقريعاً لأممهم الذين كفروا وكذبوا. فأثاب المؤمنين {وأعد للكافرين عذاباً اليما} أي موجعاً وهو عذاب النار.

.من هداية الآيات:

1- وجوب تقديم ما يريده الرسول من المؤمن على ما يريده المؤمن لنفسه.
2- حرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنهن أُمهات المؤمنين وهو صلى الله عليه وسلم كالأب لهم.
3- بطلان التوارث بالمؤاخاة والهجرة والتحالف الذي كان في صدر الإِسلام.
4- جواز الوصيّة لغير الوارث بالثلث فأقل.
5- وجوب توحيد الله تعالى في عبادته ودعوة الناس إلى ذلك.
6- تقرير التوحيد بأخذ الميثاق به على كافة الأنبياء والمرسلين.

.تفسير الآيات (9- 14):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)}

.شرح الكلمات:

{اذكروا نعمة الله عليكم}: أي اذكروانعمة الله أي دفاعنا عنكم لتشكروا ذلك.
{جنود}: أي جنود المشركين المتحزبين.
{ريحا وجنودا لم تروها}: هي جنود الملائكة والريح ريح الصبا وهي التي تهب من شرق.
{بما تعملون بصيرا}: أي بصيراً بأعمالكم من حفر الخندق والاستعدادات للمعركة.
{إذ جاءوكم من فوقكم}: أي بون أسد وغطفان أتوا من قبل نجد من شرق المدينة.
{ومن أسفل منكم}: أي من غرب وهم قريش وكنانة.
{وإذ زاغت الأبصار}: أي مالت عن كل شيء إلا عن العدو تنظر إليه من شدة الفزع.
{وبلغت القلوب الحناجر}: أي منتهى الحلقوم من شدة الخوف.
{وتظنون بالله الظنونا}: أي المختلفة من نصر وهزيمة، ونجاة وهلاك.
{هنالك ابتلى المؤمنون}: أي ثم في الخندق وساحة المعركة أُختبر المؤمنون.
{وزلزلوا زلزالا شديدا}: أي حركوا حراكا قويا من شدة الفزع.
{والذين في قلوبهم مرض}: أي شيء من النفاق لضعف عقيدتهم.
{ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}: أي ما وعدنا من النصر ما هو إلا غروراً وباطلاً {يا أهل يثرب لا مقام لكم}: أي يا أهل المدينة لا مقام لكم حول الخندق فارجعوا إلى دياركم.
{إن بيوتنا عورة}: أي غير حصينة.
{إن يريدون إلا فرارا}: أي من القتال إذ بيوتهم حصينة.
{ولو دخلت عليهم}: أي المدينة أي دخلها العدو الغازي.
{ثم سئلوا الفتنة}: أي ثم طلب إليهم الردة غلى الشرك لآتوها أي أعطوها وفعلوها.
{وما تلبثوا بها إلا يسيرا}: أي ما تريثوا ولا تمهلوا بل أسرعوا الإِجابة وارتدوا.

.معنى الآيات:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود} الآيات هذه قصة غزوة الخندق أو الأحزاب قصها تبارك وتعالى على المؤمنين في معرض التذكير بنعمه تعالى عليهم ليشكروا بالإِنقياد والطاعة لله ورسوله وقبول كل ما يشرع لهم لإِكمالهم وإسعادهم في الحياتين فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي يا من آمنتم بالله ربا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا وبالإِسلام دينا وشرعاً {اذكروا نعمة الله عليكم} المتمثلة في دفع أكبر خطر قد حاق بكم وهو اجتماع جيوش عدَّة على غزوكم في عقر داركم وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود الّبهم عليهم وحزّب أحزابهم حُيي بن أخطب النضري يريد الانتقام من الرسول والمؤمنين إذ أجلوهم عن المدينة وأخرجوهم منها فالتحقوا بيهود خيبر وتيما، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم أمر بحفر الخندق تحت سفح جبل سلع غربي المدينة، وذلك بإِشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه إذ كانت له خبرة حربيّة علمها من ديار قومه فارس.
وتم حفر الخندق في خلال شهر من الزمن وكان صلى الله عليه وسلم يعطي لكل عشرة أنفار أربعين ذراعاً أي عشرين متراً، وما إن فرغوا من حفره حتى نزلت جيوش المشركين وكانوا قرابة اثنى عشر ألفاً ولما رأوا الرسول والمسلمين وراء الخندق تحت جبل سلع قالوا هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها فتناوشوا بالنبال ورمى عمرو بن عبد ود القرشي بفرسه في الخندق فقتله علي رضي الله عنه ودام الحصار والمناوشة وكانت الأيام والليالي باردة والمجاعة ضاربة أطنابها قرابة الشهر.
وتفصيل الأحداث للقصة فيما ذكره تعالى فيما يلي:
فقوله تعالى: {إذ جاءتكم جنودٌ} هي جنود المشركين من قريش ومن بني أسد وغطفان {فأرسلنا عليهم ريحا وجنوداً لم تروها} لما جاءتكم جنود المشركين وحاصروكم في سفح سلع أرسلنا عليهم ريحاً وهي ريح الصبا المباركة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور وهي الريح الغربيّة. وفعلت بهم الصبا الأفاعيل حيث لم تبق لهم ناراً إلا أطفأتها ولا قدراً على الأثافي إلا أراقته، ولا خيمة ولا قسطاطاً إلا أسقطته وأزالته حتى اضطروا إلى الرحيل وقوله: {وجنوداً لم تروها} وهم الملائكة فأصابتهم بالفزع والرعب الأمر الذي أفقدهم كل رشدهم وصوابهم ورجعوا يجرون أذيال الخيبة والحمد لله وقوله تعالى: {وكان الله بما تعملون بصيراً} أي بكل أعمالكم من حفر الخندق والمشادات والمناورات وما قاله وعمله المنافقون لم يغب عليه تعالى شيء وسيجزيكم به المحسن بالإِحسان والمُسيئ بالإِساءة.
وقوله تعالى: {إذ جاءوكم} أي المشركون {من فوقكم} أي من الشرق وهم غطفان بقيادة عيينة بن حصن وأسد، {ومن أسفل منكم} وهم قريش وكنانة أي من الجنوب الغربي وهذا تحديد لساحة المعركة، وقوله: {وإذ زاغت الأبصار} أي مالت عن كل شيء فلم تبق تنظر إلا إلى القوات الغازية من شدة الخوف، {وبلغت القلوب الحناجر} أي ارتفعت بارتفاع الرئتين فبلغت منتهى الحلقوم. وقوله: {وتظنون بالله الظنونا} المختلفة من نصر وهزيمة وسلامة وعطب، وهذا تصوير أبدع تصوير وهو كما ذكر تعالى حرفيّاً.
وقوله تعالى: {هنالك} أي في ذلك المكان والزمان الذي حدّق العدو بكم {أُبتلي المؤمنون} أي اختبرهم ربهم ليرى الثابت على إيمانه الذي لا تزعزعه الشدائد والفتن من السريع الانهزام والتحول لضعف عقيدته وقلة عزمه وصبره. وقوله تعالى: {وزلزلوا زلزالاً شديدا} أي أُزعجوا وحرّكوا حراكاً شديداً لعوامل قوة العدو وكثرة جنوده، وضعف المؤمنين وقلة عددهم، وعامل المجاعة والحصار، والبرد الشديد وما أظهره المنافقون من تخاذل وما كشفت عنه الحال من نقض بني قريظة عهدهم وانضمامهم إلى الأحزاب.
وقوله تعالى: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض} أي النفاق لضعف إيمانهم {ما وعدنا الله ورسوله} أي من النصر {إلا غروراً} أي باطلا: وذلك أنهم لما كانوا يحفرون في الخندق استعصت عليهم صخرة فأبت أن تنكسر فدعي لها الرسول صلى الله عليه وسلم فضربها بالمعول ضربة تصدعت لها وبرق منها بريقٌ أضاء الساحة كلها فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون، ثم ضربها ثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير الفتح وكبر المسلمون وضرب ثالثة فكسرها وبرقت لها برقة كسابقتيها وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد سلمان فرقى من الخندق فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيته قط فالتفت رسول الله إلى القوم فقال هل رأيتم ما رأى سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله فأعلمهم أنه على ضوء ذلك البريق رأى قصور مدائن كسرى كأنياب الكلاب وإن جبريل أخبرني أن أُمتي ظاهرة عليها كما رأيت في الضربة الثانية القصور الحمراء من أرض الروم وأخبرني جبريل أن أُمتي ظاهرة عليها، ورأيت في الثالثة قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا أبشروا أبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعود صدق.
فلما طال الحصار واشتدت الأزمة واستبد الخوف بالرجال قال المنافقون وضعفاء الإِيمان {ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً} إذ قال معتب بن قشير يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرّز فرقاً وخوفاً ما هذا إلا وعد غرورا!!
وقوله: {وإذ قالت طائفة منهم} أي من المنافقين. وهو أُويس بن قيظى أحد رؤساء المنافقين {يا أهل يثرب} أي المدينة قبل أن يبطل الرسول هذا الإِسم لها ويسميها بالمدينة {لا مقام لكم} أي في سفح سلع عند الخندق {فارجعوا} إلى منازلكم داخل المدينة بحجة أنه لا فائدة في البقاء هُنا دون قتال، وما قال ذلك إلا فراراً من القتال وهروباً من المواجهة، وقوله تعالى: {ويستأذن فريقٌ منهم النبي} أي يطلبون الإِذن لهم بالعودة إلى منازلهم بالمدينة بدعوى أن بيوتهم عورة أي مكشوفة أمام العدو وهم لا يأمنون عليها وأكذبهم الله تعالى في قولهم فقال: {وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا} أي ما يريدون بهذا الاعتذار إلا الفرار من وجه العدو، وقال تعالى فيهم ومن أصدق من الله قيلا. {ولو دخلت عليهم} المدينة {من أقطارها} أي من جميع نواحيها من شرق وغرب وشمال وجنوب {ثم سئلوا الفتنة} أي ثم طلب منهم العدو الغازي الذي دخل عليهم المدينة الردة أي العودة إلى الشرك {لآتوها} أعطوها فوراً {وما تلبثوا بها إلا يسيراً} حتى يرتدوا عن الإِسلام ويصبحوا كما كانوا مشركين والعياذ بالله من النفاق والمنافقين.

.من هداية الآيات:

1- مشروعية التذكير بالنعم ليشكرها المذكَّرون بها فتزداد طاعتهم لله ورسوله.
2- عرض غزوة الأحزاب أو الخندق عرضا صادقاً لا أمثل منه في عرض الأحداث للعبرة.
3- بيان أن غزوة الخندق كانت من أشد الغزوات وأكثرها ألماً وتعباً على المسلمين.
4- بيان حُسْنَ الظن بالله ممدوح، وأن سوء الظن به تعالى كفر ونفاق.
5- بيان مواقف المنافقين الداعية إلى الهزيمة ليكون ذلك درساً للمؤمنين.
6- تقرير النبوة المحمدية بإِخبار الغيب التي أخبر بها رسول الله فكانت كما أخبر من فتح فارس والروم واليمن.