فصل: تفسير الآيات (32- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (32- 35):

{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}

.شرح الكلمات:

{ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام}: أي ومن علامات ربوبيته للخلق إيجاد السفن كالجبال في البحار وتسخير البحار للسير فيها لمنافع العباد.
{إن يشأ يسكن الريح}: أي يوقف هبوب الريح فلا نسيم ولا عواصف.
{فيظللن رواكد على ظهره}: أي تقف السفن وتظل راكدة حابسة على ظهر البحر.
{إن في ذلك لآيات}: أي في هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن وركودها عند سكون الرياح لدلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته.
{لكل صبار شكور}: أي إن هذه الآيات لا يراها ولا ينتفع بها إلا من كان صباراً عند الشدايد والمحن شكوراً عند آلالاء والنعم.
{أو يوبقهن بما كسبوا}: أي وان يشأ يجعل الرياح عواصف فيهلك تلك السفن ويغرقها بمن فيها بسبب ذنوب أصحابها، وهو على ذلك قدير.
{ويعفو عن كثير}: أي وإنه تعالى ليعفو عن كثير من الذنوب والخطايا فلا يؤاخذ بها إذ لو آخذ بكل ذنب ما بقي أحد على وجه الأرض لقلة من لا يذنب فيها.
{ويعلم الذين يجادلون في آياتنا}: أي ويعلم المكذبون بآيات الله من المشركين عندما تعصف العواصف وتضطرب السفن ويخاف الغرق.
{ما لهم من محيص}: أي ليس لهم من مهرب غلا إلى الله فيجأرون بدعائه وحده ناسين آلهتهم الباطلة.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في ذكر مظاهر الربوبية المستلزمة لألوهية الله تعالى ووجوب عبادته وحده دون سواه فقال تعالى: {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام} أي ومن حججه عليكم يا عباد الله الدالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته أيضا هذه السفن الجوار في البحر كأنها جبال عالية تسير من إقليم إلى إقليم بتسخير الله تعالى البحار وإرسال الرياح وهى تجرى بمنافعكم حيث تنقل الركاب والبضائع من إقليم إلى آخر. فهذا مظهر قدرة الله ورحمته، وإن يشأ تعالى إسكان الريح فإنها تسكن فلا تهب ولا تنسم بنسيم ألبته فتقف السفن وتركد على سطح الماء فلا تتحرك، وإن يشأ أيضا يرسل عليها عواصف من الريح فتضكرب وتغرق بما فيها ومن فيها وذلك بذنوب أصحابها إن القاعدة الثابتة المقررة أنه ما من مصيبة إلا بذنب. وهذا معنى قوله: {إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره}.
وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} أي إن في هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن عليها وركودها عند سكون الريح لحجج واضحة قوية على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته ةحكمته ولكن لا يراها ولا ينتفع بها أمثال البهائم، ولكن هي من نصيب كل عبد صبار على طاعة الله وبلائه شكور لآلائه ونعمه عليه.
وقوله: {أو يوبقهن بما كسبوا}. وقوله: {ويعف عن كثير} أي ولا يؤاخذ بكل ذنب فقد يعفو عن كثير من الذنوب.
إذ لو عاقب على ذنب وآخذ بكل خطئية لما بقى على الأرض أحد إذ ما من أحد إلا ويذنب اللهم إلا ما كان من المعصومين من الأنبياء والمرسلين فإنهم لا يذنبون، ولكن قد يذنب أصولهم وفروعهم فيهلكون ومن أين يوجدون!!
وقوله تعالى: {ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} أي وعندما تكون الريح عاصفة وتضطرب السفن وتشرف على الغرق هنا يعلم المشركون الذي يخاصمون رسول الله ويجادلونه في الوحي الإِلهي ويكذبون به يعلمون في هذه الحال مالهم من محيص أي من ملجأ ولا مهرب من الله إلا إليه فيجارون بدعاء الله وحده كما قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.

.من هداية الآيات:

1- مظاهر ربوبية الله وألوهيته على خلقه.
2- فضل الصبر والشكر وفضيلة الصابرين الشاكرين.
3- تقرير قاعدة ما من مصيبة إلا ذنب مع عفو الله عن كثير.
4- عند معاينة العذاب يعرف الإِنسان ربه ولا يعرف غيره.

.تفسير الآيات (36- 41):

{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)}

.شرح الكلمات:

{فما أوتيتم من شيء}: أي فما أعطيتم من شيء من متاع الدنيا كالمال والولد والمطعم والمشرب والملبس والمسكن والمنكح والمركب.
{فمتاع الحياة الدنيا}: أي يتمتع به زمناً ثم يزول ولا يبقى.
{وما عند الله خير وأبقى}: أي وما عند الله من ثواب الآخرة فهو خير في نوعه وأبقى في مدته.
{للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}: أي ما عند الله خير وأبقى لأصحاب الصفات التالية:
الإِيمان، والتوكل على الله، واجتناب كبائر الأثم والفواحش، والتجاوز عمن أساء إليهم، والاستجابة لربهم في كل ما دعاهم إليه فعلا أو تركاً، وإقام الصلاة والمشورة بينهم والإِنفاق مما رزقهم الله، والانتصار عند البغي عليهم هذه عشر صفات أصحابها ما أعده الله تعالى لهم يوم يلقونه خير من متاع الدنيا بكاملها.
{وجزاء سيئة سيئة مثلها}: أي جزاء سيئة المسئ عقوبته بما أوجبه الله عليه.
{فمن عفا واصلح فأجره على الله}: أي فمن عفا عمن اساء إليه وأصلح ما بينه وبينه فأجره على الله ثابت له.
{إنه لا يحب الظالمين}: أي لا يحب البادئين بالظلم، ومن لم يحبه الله أذن في عقوبته.
{ولمن انتصر بعد ظلمة}: أي ومن ظلمه ظالم فأخذ منه بحقه.
{فأولئك ما عليهم من سبيل}: أي لمؤاخذتهم، لأنهم ما بدأوا بالظلم.

.معنى الآيات:

قوله تعالى: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا} هذا شروع في بيان صفات الكمال في المسلم التي يستوجب بها نعيم الآخرة ضمن التعريض بزينة الحياة الدنيا الفانية فقال تعالى: {فما أوتيتم} أيها الناس من مؤمن وكافر من شيء في هذه الحياة الدنيا من لذيذ الطعام والشراب وجميل اللباس، وفاخر المساكن وأجمل المناكح وأفره المراكب كل ذلك متاع الحياة الدنيا يزول ويفنى. أما ما عند الله أي ما أعده الله لأوليائه في الدار الآخرة فهو خير وأبقى ولكن لمن أعده؟ والجواب للذين آمنوا أي بالله وآياته ولقائه ورسوله وبكل ما جاء به والذين على ربهم لا على سواه يتوكلون ثقة في كفايته واعتماداً عليه، والذين يجتنبون أي يتركون كبائر الإِثم كالشرك والقتل والظلم وشرب الخمر وأكل الحرام والفواحش كالزنى واللواط. والذين إذا غضبوا يتجاوزون عمن أغضبهم ويغفرون له زلته أو إساءته والذين استجابوا لربهم عندما ناداهم ودعاهم لكل ما طلبه منهم، والذين أقاموا الصلاة فأدوها على وجهها المطلوب لها من خشوع مراعين شرائطها وأركانها وواجباتها وسننها وآدابها، والذين أمرهم شورى بينهم أي أمرهم الذي يهمهم في حياتهم أفراداً وجماعات وأمما وشعوباً يجتمعون عليه ويتشاورون فيه ويأخذون بما يلهمهم ربهم بوجه الصواب فيه. والذين مما رزقهم الله من مال وعلم وجاه وصحة وبدن ينفقون شكراً لله على ما رزقهم واستزاده للثواب يوم الحساب.
والذين إذا أصابهم البغي أي إذا بغي عليهم البغاة الظلمة من الكافرين ينتصرون لأنفسهم إعذاراً لها وإكراماً لأنها أنفس الله وليها فالعزة واجبة لها. هذه عشر صفات متى اتصف بها العبد لا يضره شيء لو عاش الدهر كله فقيراً نقيَّاً محروماً من لذيذ الطعام والشراب ومن جميل اللباس، والسكن والمركب إذ ما عند الله تعالى. له خير وأبقى مع العلم أن أهل تلك الصفات سوف لا يحرمون من طيبات الحياة الدنيا هم أولى بها من غيرهم إلا أنها ليست شيئا يذكر إلى جانب ما عند الله يوم يلقونه ويعيشون في جواره.
وقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} هذا هو الحكم الشرعي جزاء المسيء العقوبة بما أوجب الله تعالى له في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {فمن عفا} عمن أساء إليه، وأصلح ما بينه وبينه فعادت المودة وعاد الإِخاء فأجره على الله وهو خير له وأبقى من شفاء صدره بعقوبة أخيه الذي أساء إليه. وقوله تعالى: {إنه لا يحب الظالمين} تعليل لعظم الأجر لمن عفا أي كونه تعالى لا يحب الظالمين ضاعف الأجر وأجزل المثوبة للمظلوم إذا عفا وأصلح. وقوله: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} أي وللذي ظلم فانتصر لنفسه وردَّ الظلم عنها فهؤلاء لا سبيل لكم إلى أذيتهم وعقوبتهم. هذا حكم الله وشرعه.

.من هداية الآيات:

1- متاع الحياة الدنيا إذا قوبل بما أعد الله للمؤمنين المتقين لا يعد شيئاً يذكر ابداً.
2- بيان أكمل الشخصيات الإِسلامية وهي الشخصية التي تتصف بالصفات العشر التي تضمنتها الآيات الأربع ذات الرقم، (36- 37- 38- 39).
3- مشروعية القصاص وعقوبة الظالم.
4- عدم مؤاخذة من ظلم فأخذ بحقه بلا زيادة عنه ما لم يكن حداً فإن الحدود يقيمها الإِمام.
5- فضيلة العفو على الإِخوة المسلمين والإِصلاح بينهم.

.تفسير الآيات (42- 46):

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)}

.شرح الكلمات:

{إنما السبيل}: أي بالعقوبة والأذية.
{على الذين يظلمون الناس}: أي يعتدون عليهم في أعراضهم أو أبدانهم وأموالهم.
{يوبغون في الأرض بغير الحق}: أي ويطلبون في الأرض الفساد فيها بالشرك والظلمم والإِجرام.
{ولمن صبر وغفر}: أي ولمن صبر فلم ينتصر لنفسه وغفر وتجاوز عمن أساء إليه.
{إن ذلك}: أي إن ذلك الصبر والتجاوز عن المسيء.
{لمن عزم الأمور}: أي لمن معزومات الأمور المطلوبة شرعا.
{ومن يضلل الله}: أي حسب سنته في الإِضلال.
{فما له من ولي من بعده}: أي فليس له من أحد يتولى هدايته ويقدر عليها.
{هل إلى مرد من سبيل}: أي هل غلى مرد إلى الحياة الدنيا من سبيل نسلكها لنعود إلى الدنيا.
{وتراهم يعرضون عليها}: أي على النار خاشعين خائفين متواضعين.
{ينظرون من طرف خفى}: أي من عين ضعيفة النظر كما ينظر المقتول إلى السيف لا يملأ عينه منه.
{يوم القيامة}: أي لخلودهم في النار، وعدم وصولهم إلى الحور العين في دار السلام.
{إلا إن الظالمين}: أي المشركين.
{في عذاب مقيم}: أي دائم لا يخرجون منه وهو عذاب الجحيم.
{ومن يضلل الله فما له من سبيل}: أي طريق إلى الهداية في الدنيا، وإلى الجنة يوم القيامة.

.معنى الآيات:

لقد تقدم قوله تعالى في الآية قبل هذه: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} فلما نفى عن المنتصرين السبيل إلى عقوبتهم اثبت هنا أن السبيل إلى العقوبة والمؤاخذة هو على الذين يظلمون الناس بالاعتداء عليهم في أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم ويبغون في الأرض بغير الحق أي ويطلبون الفساد فيها بالشرك والظلم والمعاصي، وليس في الشرك والظلم والمعاصي من حق يبيحها، وقوله: {أولئك لهم عذاب أليم} أي للذين يبغون في الأرض بغير الحق لهم عذاب اليم أي موجع وهو عذاب الدنيا بعقوبتهم الصارمة ويوم القيامة ان لم يتوبوا من الظلم والفساد في الأرض.
وقوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إنَّ ذلك لمن عزم الأمور} يخبر تعالى مؤكداً الخير بلام الابتداء ان من صبر فلم ينتصر لنفسه من أخيه المسلم وغفر لأخيه زلته فتجاوز له عنها فان ذلك المذكور من الصبر والتجاوز من معزومات الأمور المطلوبة شرعاً.
وقوله تعالى: {ومن يضلل الله فماله من ولي من بعده} أي ومن يضلله الله تعالى حسب سنته في الإِضلال فليس له من أحد من بعد الله يهديه. وقوله تعالى: {وترى الظالمين} أي المشركين لما رأوا العذاب أي عذاب النار يقولون: متمنيين الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويُوَحّدُوا حتى ينجوا من عذاب النار ويدخلوا الجنة مع الأبرار: هل إلى مرد من سبيل؟ أي هل غلى مرد غلى الدنيا من طريق؟ قال تعالى: {وتراهم يعرضون عليها} أي على النار خاشعين خاضعين متواضعين من الذّل ينظرون من طرف خفى يسترقون النظر لا يملأون أعينهم من النظر إلى النار لشدة خوفهم منها.
وهنا يقول الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وإهليهم يوم القيامة وذلك لخلودهم في النار وحرمانهم من الوصول إلى الحور العين في الجنة دار الأبرار، ويعلن معلن فيقول: ألا إن الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي في عذاب مقيم لا يبرح ولا يزول وقوله تعالى: {وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله} يخبر تعالى بأنه لم يكن لأولئك الظالمين من أهل النار من أولياء من دون الله ينصرونهم بتخليصهم من العذاب. وقوله: {ومن يضلل الله فما له من سبيل} أي فما له طريق إلى هدايته في الدنيا وإلى الجنة يوم القيامة.

.من هداية الآيات:

1- لا سبيل إلى معاقبة من انتصر لنفسه بعد ظلمه.
2- وجوب معاقبة الظالم والضرب على يديه.
3- فضيلة الصبر والتجاوز عن المسلم إذا أساء بقول أو عمل.
4- لا أعظم خسراناً ممن يخلد في النار ويحرم الجنة وما فيها من نعيم مقيم.

.تفسير الآيات (47- 50):

{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}

.شرح الكلمات:

{استجيبوا لربكم}: أي أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والعبادة.
{من قبل أن يأتي يوم}: أي يوم القيامة.
{لا مردّ له من الله}: أي إذا أتى لا يرد بحال.
{ما لكم من ملجأ يومئذ}: أي تلجأون إليه وتتحصنون فيه.
{وما لكم من نكير}: أي وليس لكم ما تنكرون به ذنوبكم لأنها في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
{فإن أعرضوا}: أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة.
{إن عليك إلا البلاغ}: وقد بلغت فلا مسئولية تخشاها بعد البلاغ.
{وإنا إذا اذقنا الإِنسان منا رحمة}: أي نعمة كالغنى والصحة والعافية.
{وإن تصبهم سيئة}: أي بلاء كالمرض والفقر وغير ذلك.
{بما قدمت أيديهم}: أي من الذنوب والخطايا.
{فإن الإنسان كفور}: أي للنعمة والنعم والإِنسان هو غير المؤمن التقى.
{لله ملك السموات والأرض}: أي خلقا وملكاً وتصرفا.
{يهب لمن يشاء إناثا}: أي يرزق من يشاء من الناس بنات.
{ويهب لمن يشاء الذكور}: أي ويعطي من يشاء الأولاد الذكور.
{أو يزوجهم ذكرانا وإناثا}: أي يجعلهم ذكوراً وإناثاً.
{ويجعل من يشاء عقيما}: أي لا يلد ولا يولد له.

.معنى الآيات:

بعد ذلك العرض الهائل لأهوال وأحوال الظالمين في عرصات القيامة طلب الرب تعالى من عباده أن يجيبوه لما طلبه منهم إنقاذاً لأنفسهم من النار فقال: {استجيبوا لربكم} بمعنى أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والطاعات قبل فوات الفرصة وذلك قبل الموت وقبل يوم القيامة اليوم الذي إذا جاء لا مردّ له من الله، إذ لا يقجر على رده إلا الله والله أخبر أنه لا يرده فمن يرده إذاً؟ فبادروا بالتوبة إلى ربكم قبل مجيئه حيث لا يكون لكم يومئذ ملجأ تلجأون إليه هاربين من العذاب ولا يكون لكم نكير بمكنكم أن تنكروا به ذنوبكم إذ قد جمعت لكم في كتناب واحد لم يترك صغيرة من الذنوب ولا كبيرة إلا أحصاها عداً. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (47) وهي قوله تعالى: {استجيبوا لربكم منقبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير}. وقوله تعالى في الآية الثانية (48): {فإن أعرضوا} أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والطاعة فما أرسلناك عليهم حفيظاً رقيبا تحصي أعمالهم وتحفظها لهم وتجازيهم بها. إن عليك إلا البلاغ أي ما عليم إلا البلاغ وقد بلغت وبرئت ذمكتك فلا يهمك أمرهم ولا تحزن على إعراضهم. وقوله تعالى: {وإنا إذا أذقنا الإِنسان منا رحمة} أي نعمة كسعة رزق وصحة وكثرة مال وولد فرح بها فرح البطر والأشر، وهذا الإِنسان هو الكافر أو الجاهل الضعيف الإِيمان. وإن تصبهم سيئة أي ضيق عيش ومرض وفقر بما قدمت ايديهم من الذنوب فإِن الإِنسان كفور سرعان ما ينسى النعمة والمنعم ويقع في اليأس والقنوط هذا الإِنسان قبل أن يؤمن ويسلم ويحس فإذا آمن وأسلم وأحسن تغير طبعه وطهر نبعه وأصبح يشكر عند النعمة ويصبر عند النقمة.
وقوله تعالى: {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء} إنه بِحُكم سلطانه على الأرض والسماء فانه يتصرف كيف يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمنيشاء الذكور أو يزوجهم له ذكوراً وإناثاً، ويجعل من يشاء من الناس عقيما لا يلد ولا يولد له، وهذا ناتج عن علم أحاط بكل شيء، وقدرة أخضعت لها كل شيء وهذا معنى قوله: {إنه عليم قدير} فالواجب أن يُسلم العبد لربه فيما وهبه وأعطاه إذ الله يعطى لحكمة ويمنع لحكمة، ومن السفه الاعتراض على حكم الله.

.من هداية الآيات:

1- وجوب الاستجابة لله تعالى في كل ما دعا العبد إليه، وذلك قبل أن يطلب الاستجابة ولا يمكن منها.
2- على الدعاة إلى الله تعالى إبلاغ مطلوب الله تعالى من عباده، ولا يضرهم بعد ذلك شيء.
3- بيان طبع الإنسان وحاله قبل أن يهذب بالإِيمان واليقين والطاعات.
4- لله مطلق التصرف في الملكوت كله فلا يصح الاعتراض عليه في شيء فهو يهب ويمنع لحكم عالية لا تدركها عقول العباد.
5- وجود عقم في الرجال وعقم في النساء، ولا بأس بالعلاج الجائز المشروع عند الشعور بالعقم أو العقر. اما ما ظهر الآن من بنوك المني، والإِنجاب بطريق صبّ ماء فحل في فرج امرأة عاقر وما إلى ذلك فهذه من أعمال الملاحدة الذين لا يدينون لله بالطاعة له والتسليم لقضائه، وإن صاموا وصلوا وادعوا أنهم مؤمنون إذ لا حياء لهم ولا إيمان لمن لا حياء له، وحسبهم قبحا في سلوكهم هذا الكشف عن السوءات بدون انقاذ حياة ولا طلب رضا الله رب الأرض والسموات.

.تفسير الآيات (51- 53):

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}

.شرح الكلمات:

{إلا وحياً أو من وراء حجاب}: أي إعلاما خفيا سريعا في يقظة أو منام، أو يكلمه من وراء حجاب فيسمع الكلام ولا يرى الذات.
{أو يرسلوا رسولا}: أي أو يرسل ملكاً في صورة إنسان فيكلمه مبلغا عنالله تعالى.
{إنه علي حكيم}: أي الله تعالى ذو علو على سائر خلقه حكيم في تدبير خلقه.
{وكذلك أوحينا إليك}: أي كما كنا نوحي غلى سائر رسلنا أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن.
{روحاً من أمرنا}: أي وحيا ورحمة من أمرنا الذي نوحيه إليك.
{ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإِيمان}: أي لم تكن قبل تدري أي شيء هو الكتاب، ولا الإِيمان الذي هو قول وعمل واعتقاد.
{ولكن جعلناه نوراً نهدي به}: أي جعلنا القرآن نورا نهدي به من نشاء من عبادنا إلى صراطنا.
{وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}: أي الإِسلام.
{ألا إلى الله تصير الأمور}: أي ترجع أمور جميع العباد في يوم القيامة إلى الله تعالى.

.معنى الآيات:

قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} يخبر تعالى أنه ليس من شأن البشر كائنا من كان أن يكلمه الله تعالى إلا وحيا بأن يعلمه بطريق سريع خفي إلهاماً أو مناماً فيفهم عن الله تعالى ما ألقاه في روعه جازماً أنه كلام الله ألقاه إليه، هذه طريقة وثانية أن يكلمه الله تعالى فيسمعه كلامه بدون أن يرى ذاته كما كلم موسى عليه السلام غير مرة. وثالثة أن يرسل إليه رسولاً كجبريل عليه السلام فيبلغه كلام ربه تعالى هذا معنى قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء إنه عليّ} أي ذو علو على خلقه {حكيم} في تدبيره لخلقه.
وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} كما كنا نوحي إلى سائر رسلنا أوحينا إليك يا محمد روحاً وهو القرآن وسمى روحاً لأن القلوب تحيا به كما تحيا الأجسام بالأرواح، وقوله: {من أمرنا} أي الذي نوحيه إليك الشامل للأمر والنهى والوعد والوعيد وقوله تعالى: {وما كنت تدرى ما الكتاب} أي القرآن {ولا الإِيمان} الذي هو عقيدة وقول وعمل. وقوله: {ولكن جعلناه نوراً} أي جعلنا القرآن نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا إلى الإِيمان بنا وتوحيدنا وطلب مرضاتنا بفعل محابّنا وترك مساخطنا.
وقوله: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} أي وأنك يا رسولنا لتهدي إلى صراط مستقيم الذي هو الدين الإِسلامي وقوله: {صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} أي خلقا وملكا وعبيداً {وإلى الله تصير الأمور} أي وإليه تعالى مصير كل شيء، ومرد كل شيء إذ هو الملك الحق والمدبر لأمر المخلوقات كلها، ولذا وجب تفويض الأمر إليه والرضا بحكمه وقضائه ثقة فيه وفي كفايته.

.من هداية الآيات:

1- بيان طرق الوحي وهي ثلاثة الأولى الإِلقاء في الروع يقظة أو مناماً والثانية أن يكلم الله النبي بدون أن يرى ذاته عز وجل كما كلم موسى في الطور وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في الملكوت الأعلى والثالث أن يرسل إليه الملك إما في صورته الملائكية أو في صورة رجل من بني آدم فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه من أمره.
2- القرآن الكريم روح تحيا به القلوب الميتة كما تحيا الأجسام بالأرواح.
3- القرآن نور يستضاء به في الحياة فتعرف به طرق السعادة وسبل النجاة.