فصل: باب سجود السهو:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام



.باب سجود السهو:

1- عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي- قال ابن سيرين: وسماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا- قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة- وفي القوم أبو بكر وعمر- فهابا أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: «لم أنس ولم تقصر», فقال: «أكما يقول ذو اليدين؟» فقالوا: نعم, «فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر فربما سألوه: ثم سلم؟ قال: فنبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم».
الكلام على هذا الحديث يتعلق بمباحث:
بحث يتعلق بأصول الدين وبحث يتعلق بأصول الفقه وبحث يتعلق بالفقه.
فأما البحث الأول: ففي موضعين:
أحدهما: أنه يدل على جواز السهو في الأفعال على الأنبياء عليهم السلام وهو مذهب عامة العلماء والنظار وهذا الحديث مما يدل عليه وقد صرح صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود بأنه: «ينسى كما تنسون» وشذت طائفة من المتوغلين فقالت: لا يجوز السهو عليه وإنما ينسى عمدا ويتعمد صورة النسيان ليسن وهذا قطعا باطل لإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه ينسى ولأن الأفعال العمدية تبطل الصلاة ولأن صورة الفعل النسياني كصورة الفعل العمدي وإنما يتميزان للغير بالإخبار.
والذين أجازا السهو قالوا: لا يقر عليه فيما طريقه البلاغ الفعلي واختلفوا: هل من شرط التنبيه الاتصال بالحادثة أو ليس من شرطه ذلك؟ بل يجوز التراخي إلى أن تنقطع مدة التبليغ وهو العمر وهذه الواقعة قد وقع البيان فيها على الاتصال.
وقد قسم القاضي عياض الأفعال إلى ما هو على طريقة البلاغ وإلى ما ليس على طريقة البلاغ ولا بيان للأحكام من أفعاله البشرية وما يختص به من عاداته وأذكار قلبه وأبي ذلك بعض من تأخر عن زمن وقال: إن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم أفعاله وإقراره: كله بلاغ واستنتج بذلك العصمة في الكل بناء على أن المعجزة تدل على العصمة فيما طريقه البلاغ وهذه كلها بلاغ فهذه كلها تتعلق بها العصمة- أعني القول والفعل والتقرير- ولم يصرح في ذلك بالفرق بين عمد وسهو وأخذ البلاغ في الأفعال: من حيث التأسي به صلى الله عليه وسلم فإن كان يقول بأن السهو والعمد سواء في الأفعال فهذا الحديث يرد عليه.
الموضوع الثاني: الأقوال وهي تنقسم إلى ما طريقه البلاغ والسهو فيه ممتنع ونقل فيه الإجماع كما يمتنع التعمد قطعا وإجماعا.
وأما طريق السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الأخبار التي تستند الأحكام إليها ولا أخبار المعاد ولا ما يضاف إلى وحي فقد حكى القاضي عياض عن قوم: أنهم جوزوا السهو والغفلة في هذا الباب عليه إذ ليس من باب التبليغ الذي يتطرق به إلى القدح في الشريعة قال: والحق الذي لا مرية فيه: ترجيح قول من لم يجز ذلك على الأنبياء في خبر من الأخبار كما لم يجيزوا عليهم فيها العمد فإنه لا يجوز عليهم خلف من خبر لا عن قصد ولا سهو ولا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب.
والذي يتعلق بهذا من هذا الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «لم أنس ولم تقصر» وفي رواية أخرى: «كل ذلك لم يكن» واعتذر عن ذلك بوجوه:
أحدها: أن المراد لم يكن القصر والنسيان معا وكان الأمر كذلك.
وثانيهما: أن المراد الإخبار عن اعتقاد قلبه وظنه وكأنه مقدر النطق به ن وإن كان محذوفا لأنه لو صرح به- وقيل: لم يكن في ظنين ثم تبين أنه كان خلافه في نفس الأمر- لم يقتض ذلك أن يكون خلافه في ظن فإذا كان لو صرح به- كما ذكرناه- فكذلك إذا كان مقدرا مرادا.
وهذان الوجهان يختص أولهما برواية من روى: «كل ذلك لم يكن» وأما من روى: «لم أنس ولم تقصر» فلا يصح فيه هذا التأويل.
وأما الوجه الثاني: فهو مستمر على مذهب من يرى أن مدلول اللفظ الخبري هو الأمور الذهنية فإنه- وإن لم يذكر ذلك- فهو الثابت في نفس الأمر عند هؤلاء فيصير كالملفوظ به.
وثالثها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لم أنس» يجمل على السلام أي إنه كان مقصودا لأنه بناء على ظن التمام ولم يقطع سهوا في نفسه وإنما وقع السهو في عدد الركعات وهذا بعيد.
ورابعها: الفرق بين السهو والنسيان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسهو ولا ينسى ولذلك نفى عن نفسه النسيان لأنه غفلة ولم يغفل عنها وكان شغله عن حركات الصلاة وما في الصلاة: شغلا بها لا غفلة عنها ذكره القاضي عياض.
وليس في هذا تخليص للعبارة عن حقيقة السهو والنسيان مع بعد الفرق بينهما في استعمال اللغة وكأنه متلوح في اللفظ: أن النسيان عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة والسهو عدم الذكر لأمر يتعلق بها ويكون النسيان الإعراض عن تفقد أمورها حتى يحصل عدم الذكر لا لأجل الإعراض وليس في هذا- بعد ما ذكرناه- تفريق كلي بين السهو والنسيان.
وخامسها: ما ذكره القاضي عياض: أنه ظهر له ما هو أقرب وجها وأحسن تأويلا وهو أنه إنما أنكر صلى الله عليه وسلم نسبة النسيان المضاف إليه وهو الذي نهى عنه بقوله: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا ولكنه نُسِّيَ» وقد روي: «إني لا أنسى» على النفي: «ولكني أُنَسَّي» على النفي وقد شك الراوي- على رأي بعضهم- في الرواية الأخرى: هل قال أنسي أو أنسى وأن أو هناك للشك وقيل: بل للتقسيم وأن هذا يكون منه مرة من قبل شغله وسهوه ومرة يغلب على ذلك ويجبر عليه ليسن فلما سأله السائل بذلك اللفظ أنكره وقال له: «كل ذلك لم يكن» وفي الرواية الأخرى: «لم أنس ولا تقصر» أما القصر: فبين وكذلك «لم أنس» حقيقة من قبل نفسي وغفلتي عن الصلاة ولكن الله نساني لأسن.
واعلم أنه قد ورد في الصحيح من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: «إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني».
وهذا يعترض ما ذكره القاضي من أنه صلى الله عليه وسلم أنكر نسبة النسيان إليه فإنه صلى الله عليه وسلم قد نسب النسيان إليه في حديث ابن مسعود مرتين وما ذكره القاضي عياض من أنه صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يقال: نسيت كذا» الذي أعرفه فيه «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت آية» كذا وهذا نهي عن إضافة نسيت إلى الآية وليس يلزم من النهي عن إضافة النسيان إلى الآية: النهي عن إضافته إلى كل شيء فإن الآية من كلام الله تعالى المعظم يقبح بالمرء المسلم أن يضيف إلى نفسه نسيان كلام الله تعالى وليس هذا المعنى موجودا في كل ما يناسب إليه النسيان فلا يلزم مساواة غير الآية لها.
وعلى كل تقدير: لو لم يظهر مناسبة لم يلزم من النهي عن الخاص النهي عن العام وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم أن يكون قول القائل نسيت- الذي أضافه إلى عدد الركعات- داخلا تحت النهي فينكر والله أعلم.
ولما تكلم بعض المتأخرين على هذا الوضع ذكر: أن التحقيق في الجواب عن ذلك: أن العصمة إنما تثبت في الإخبار عن الله في الأحكام وغيرها لأنه الذي قامت عليه المعجزة وأما إخباره عن الأمور الوجودية: فيجوز عليه النسيان هذا أو معناه.
وأما البحث المتعلق بأصول الفقه: فإن بعض من صنف في ذلك احتج به على جواز الترجيح بكثرة الرواة من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم طلب إخبار القوم بعد إخبار ذي اليدين وفي هذا بحث.
وأما البحث المتعلق بالفقه: فمن وجوه.
أحدها: أن نية الخرج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام لا يوجب بطلانها.
الثاني: أن السلام سهوا لا يبطل الصلاة.
الثالث: استدل به بعضهم على أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة وأبو حنيفة يخالف فيه.
الرابع: الكلام العمد لإصلاح الصلاة لا يبطل وجمهور الفقهاء على أنه يبطل.
وروى ابن القاسم عن مالك: أن الإمام لو تكلم بما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفسار والسؤال عند الشك وإجابة المأموم: أن صلاتهم تامة على مقتضى الحديث.
والذين منعوا من هذا اختلفوا في الاعتذار عن هذا الحديث والذي يذكر فيه وجوه.
منها: أنه منسوخ لجواز أن يكون في الزمن الذي كان يجوز فيه الكلام في الصلاة وهذا لا يصح لأن هذا الحديث رواه أبو هريرة وذكر أنه شاهد القصة وإسلامه عام خيبر وتحريم الكلام في الصلاة كان قبل ذلك بسنين- ولا ينسخ المتأخر بالمتقدم.
ومنها: التأويل لكلام الصحابة بأن المراد بجوابهم: جوابهم بالإشارة والإيماء لا بالنطق وفيه بعد لأنه خلاف الظاهر من حكاية الراوي لقولهم وإن كان قد ورد من حديث حماد بن زيد: «فأومؤا إليه» فيمكن الجمع بأن يكون بعضهم فعل ذلك إيماء وبعضهم كلاما أو اجتمع الأمران في حق بعضهم.
ومنها: أن كلامهم إجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته واجبة واعترض عليه بعض المالكية بأن قال: إن الإجابة لا تتعين بالقول فيكفي فيها الإيماء وعلى تقدير أيجب القوم لا يلزم منه الحكم بصحة الصلاة لجواز أن تجب الإجابة ويلزمهم الاستئناف.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم معتقدا لتمام الصلاة والصحابة تكلموا مجاوزين للنسخ فلم يكن كلام واحد منهم مبطلا وهذا يضعفه ما في كتاب مسلم: أن ذا اليدين قال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن», فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: «أصدق ذو اليدين؟», فقالوا: نعم, يا رسول الله بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن» وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن» يدل على عدم النسخ فقد تكلموا بعد العلم بعدم النسخ.
ولينتنبه هاهنا لنكتة لطيفة في قول ذي اليدين: (قد كان بعض ذلك) بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن» فإنه قوله: «كل ذلك لم يكن» تضمن أمرين:
أحدهما: الإخبار عن حكم شرعي وهو عدم القصر.
والثاني: الإخبار عن أمر وجودي وهو النسيان وأحد هذين الأمرين لا يجوز فيه النسخ وهو الإخبار عن الأمر الشرعي والآخر متحقق عند ذي اليدين فلزم أن يكون الواقع بعض ذلك كما ذكرنا.
الخامس: الأفعال التي ليست من جنس أفعال الصلاة إذا وقعت سهوا فإما أن تكون قليلة أو كثيرة فإن كانت قليلة: لم تبطل الصلاة وإن كانت كثيرة ففيها خلاف في مذهب الشافعي واستدل لعدم البطلان بهذا الحديث فإن الواقع فيه أفعال كثيرة ألا ترى إلى قوله: «خرج سرعان الناس» وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم: «خرج إلى منزله ومشى» قال في كتاب مسلم: «ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليه» ثم قد حصل البناء بعد ذلك فدل على عدم بطلان الصلاة بالأفعال الكثيرة سهوا.
السادس: فيه دليل جواز البناء على الصلاة بعد السلام سهوا والجمهور عليه.
وذهب سحنون- من المالكية- إلى أن ذلك إنما يكون إذا سلم من ركعتين على ما ورد في الحديث ولعله رأى أن البناء بعد قطع الصلاة ونية الخروج منه على خلاف القياس وإنما ورد النص على خلاف القياس في هذه الصورة المعينة وهو السلام من اثنتين فيقصر على ما ورد النص: (ويبقى فيما عداه على القياس).
والجواب عنه: أنه إذا كان الفرع مساويا للأصل ألحق به وإن خالف القياس عند بعض أهل الأصول: وقد علمنا أن المانع لصحة الصلاة إنما كان هو الخروج منها بالنية والسلام وهذا المعنى قد ألغي عند ظن التمام بالنص ولا فرق بالنسبة إلى هذا المعنى بين كونه بعد ركعتين أو كونه بعد ثلاثة أو بعد واحدة.