فصل: باب التمتع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام



قيل: إن هذا القدوم لم يكن في الحجة وإنما كان في عمرة القضاء فأخذ من هذا: أنه نسخ منه عدم الرمل فيما بين الركنين فإنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: «رمل من الحجر إلى الحجر» وذكر: أنه كان في الحج فيكون متأخرا فيقدم على المتقدم.
وفيه دليل على استحباب الرمل والأكثرون على استحبابه مطلقا في طواف القدوم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وإن كانت العلة التي ذكرها ابن عباس قد زالت فيكون استحبابه في ذلك الوقت لتلك العلة وفيما بعد ذلك تأسيا واقتداء بما فعل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من الحكمة: تذكر الوقائع الماضية للسلف الكرام وفي طي تذكرها ك مصالح دينية إذ يتبين في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله تعالى والمبادرة إليه وبذل الأنفس في ذلك وبهذه النكتة يظهر لك أن كثيرا من الأعمال التي وقعت في الحج ويقال فيها إنها تعبد ليست كما قيل ألا ترى أنا إذا فعلناها وتذكرنا أسبابها: حصل لنا من ذلك تعظيم الأولين وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله فكان هذا التذكر باعثا لنا على مثل ذلك ومقررا في أنفسنا تعظيم الأولين وذلك معنى معقول.
مثاله: السعي بين الصفا والمروة إذا فعناه وتذكرنا أن سببه: قصة هاجر مع ابنها وترك الخليل لهما في ذلك المكان الموحش منفردين منقطعي أسباب الحياة بالكلية مع ما أظهره الله تعالى لهما من الكرامة والآية في إخراج الماء لهما- كان في ذلك مصالح عظيمة أي في التذكر لتلك الحال وكذلك رمي الجمار إذا فعلناه وتذكرنا أن سببه: رمي إبليس بالجمار في هذه المواضع عند إرادة الخليل ذبح ولده: حصل من ذلك مصالح عظيمة النفع في الدين.
وفي الحديث: جواز تسمية الطوافات بالأشواط لقوله: «فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة» ونقل عن بعض المتقدمين وعن الشافعي: أنهما كرها هذه التسمية والحديث على خلافه.
وإنما ذكر في هذا الحديث: «أنهم لم يرملوا بين الركنين اليمانيين» لأن المشركين لم يكونوا يرون المسلمين إذا كانوا في هذا المكان.
6- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود- أول ما يطوف- يخب ثلاثة أشواط).
فيه دليل على الاستلام للركن وذكر بعض مصنفي الشافعية المتأخرين أن استلام الركن يستحب مع استلام الحجر أيضا وله متمسك بهذا الحديث وإن كان يحتمل أن يكون معنى قوله: (استلم الركن) استلم الحجر وعبر بقوله: (استلم الركن) عن كونه استلم الحجر فإن الحجر بعض الركن كما أنه إذا قال: (استلم الركن) إنما يريد بعضه وفيه دليل على الخبب في جميع الأشواط الثلاث وفيه دليل على تقديم الطواف في ابتداء قدوم مكة.
7- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن).
المحجن: عصا محنية الرأس.
فيه دليل على جواز الطواف راكبا وقيل: إن الأفضل: المشي وإنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا لتظهر أفعاله فيقتدى بها وهذا يؤخذ منه أصل كبير وهو أن الشيء قد يكون راجحا بالنظر إلى محله من حيث هو فإذا عارضه أمر آخر أرجح منه: قدم على الأول من غير أن تزول الفضيلة الأولى حتى إذا زال ذلك المعارض الراجح: عاد الحكم الأول من حيث هو هو وهذا إنما يقوى إذا قام الدليل على أن ترك الأول إنما هو لأجل المعارض الراجح وقد يؤخذ ذلك بقرائن ومناسبات وقد يضعف وقد يقوى بحسب اختلاف المواضع وهاهنا يصطدم الظاهر مع المتعبين للمعاني.
واستدل بالحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه من حيث إنه لا يؤمن بول البعير في أثناء الطواف في المسجد ولو كان نجسا لم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم المسجد للنجاسة وقد منع لتعظيم المساجد ما هو أخف من هذا.
وفي الحديث دليل على الاستلام بالمحجن إذا تعذر الوصول إلى الاستلام باليد وليس فيه تعرض لتقبيله.
8- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين).
اختلف الناس: هل تعم الأركان كلها بالاستلام أم لا؟ والمشهور بين علماء الأمصار: ما دل عليه هذا الحديث وهو اختصاص الإسلام بالركنين اليمانيين وعلته: أنهما على قواعد إبراهيم عليه السام وأما الركنان الآخران فاستقصرا عن قواعد إبراهيم كذا ظن ابن عمر وهو تعليل مناسب وعن بعض الصحابة: أنه كان يستلم الأركان كلها ويقول: (ليس شيء من البيت مهجورا) واتباع ما دل عليه الحديث أولى فإن الغالب على العبادات: الاتباع لاسيما إذا وقع التخصيص مع توهم الاشتراك في العلة وهنا أمر زائد وهو إظهار معنى للتخصيص غير موجود فيما ترك فيه الاستلام.

.باب التمتع:

1- عن أبي جمرة- نصر بن عمران الضبعي- قال: (سألت ابن عباس عن المتعة؟ فأمرني بها وسألته عن الهدي؟ فقال: فيه جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم قال: وكان ناس كرهوها فنمت فرأيت في المنام كأن إنسانا ينادي: حج مبرور ومتعة متقبلة فأتيت ابن عباس فحدثته فقال: الله أكبر سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم).
أبو حمزة بالجيم والراء المهملة نصر بالصاد المهملة الضبعي: بضم الضاد المعجمة وفتح الباء ثاني الحروف وبالعين المهملة متفق عليه.
وقوله: (سألت ابن عباس عن المتعة) الظاهر: أنه يريد بها الإحرام بالعمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه.
وقوله: (أمرني بها) يدل على جوازها عنده من غير كراهة وسيأتي في الحديث.
قوله وكان ناس كرهوها وذلك منقول عن عمر رضي الله عنه وعن غيره على أن الناس اختلفوا فيما كرهه عمر من ذلك: هل هي المتعة التي ذكرناها أو فسخ الحج إلى العمرة؟ والأقرب: أنها هذه فقيل: إن هذه الكراهة والنهي من باب الحمل على الأولى والمشورة به على وجه المبالغة.
وقوله: (رأيت في المنام كأن إنسانا ينادي) الخ فيه: استئناس بالرؤيا فيم يقوم عليه الدليل الشرعي لما دل الشرع عليه من عظم قدرها وأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وهذا الاستئناس والترجيح لا ينافي الأصول.
وقول ابن عباس: (الله أكبر سنة أبي القاسم) يدل على أنه تأيد بالرؤيا واستبشر بها وذلك دليل على ما قلناه.
2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي من الحليفة ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله», فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم انصرف فأتى الصفا وطاف بالصفا بالبيت عند المقام ركعتين ثم انصرف فأتى الصفا وطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهدى وساق الهدي من الناس.
قوله: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم) قيل: هو محمول على التمتع اللغوي وهو الانتفاع ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قارنا عند قوم والقران فيه تمتع وزيادة- إذ فيه إسقاط أحد العملين وأحد الميقاتين- سمي تمتعا على هذا باعتبار الوضع اللغوي وقد يحمل قوله تمتع على الأمر بذلك كما قيل بمثل هذا في حجة النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلفت الأحاديث وأريد بينها ويدل على هذا التأويل المحتمل: ما ذكرناه وأن ابن عمر- راوي هذا الحديث- هو الذي روى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد).
وقوله: (وساق الهدي) فيه دليل على استحباب سوق الهدي من الأماكن البعيدة وقوله: (فبدأ فأهل بالعمرة ثم بالحج) نص في الإهلال بهما.
ولما ذهب بعض الناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قارن- بمعنى أنه أحرم بهما معا- احتاج إلى تأويل قوله: «أهل بالعمرة ثم بالحج» فإنه على خلاف اختياره فيجعل الإهلال في قوله: «أهل بالعمرة ثم بالحج» على رفع الصوت بالتلبية ويكون قد قدم فيها لفظ الإحرام بالعمرة على لفظه بالحج ولا يراد به تقديم الإحرام بالعمرة على الإحرام بالحج لأنه خلاف ما رواه واعلم أنه لا نحتاج الجمع بين الأحاديث إلى ارتكاب كون القران بمعنى: تقديم الإحرام بالحج على الإحرام بالعمرة فإنه يمكن الجمع وإن كان قد وقع الإحرام بالعمرة أو لا فالتأويل الذي ذكره على الوجه الذي ذكره: غير محتاج إليه في طريق الجمع.
وقوله: «فتمتع الناس إلى آخره» حمل على التمتع اللغوي فإنهم لم يكونوا متمتعين بمعنى التمتع المشهور فإنهم لم يحرموا بالعمرة ابتداء وإنما تمتعوا بفسخ الحج إلى العمرة على ما جاء في الأحاديث فقد استعمل التمتع في معناه اللغوي أو يكونون تمتعوا بفسخ الحج إلى العمرة كمن أحرم بالعمرة ابتداء في نظرا إلى المآل ثم إنهم أحرموا بالحج بعد ذلك فكانوا متمتعين ن.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان منكم قد أهدى»- إلى آخره موافق لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقوله: «فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة» دليل على طلب هذا الطواف في الابتداء.
وقوله: «فليقصر» أي من شعره وهو التقصير في العمرة عند التحلل منها قيل: وإنما لم يأمره بالحلق حتى يبقى على الرأس ما يحلقه في الحج فإن الحلاق في الحج أفض من الحلاق في العمرة كما ذكر بعضهم واستدل بالأمر في قوله: «فليحلق» على أن الحلاق نسك وقيل: في قوله: «فليحلل» إن المراد به: يصير حلالا إذ لا يحتاج بعد فعل أفعال العمرة والحلاق فيها: إلى تجديد فعل آخر ويحتمل عندي أن يكون المراد بالأمر بالإحلال: هو فعل ما كان حراما عليه في حال الإحرام من جهة الإحرام ويكون الأمر للإباحة.
وقوله: «فمن لم يجد الهدي» يقتضي تعلق الرجوع إلى الصوم عن الهدي بعدم وجدانه حينئذ وإن كان قادرا عليه في بلده لأن صيامه ثلاثة أيام في الحج إذا عدم الهدي يقتضي الاكتفاء بهذا البدل في الحال لقوله: «ثلاثة أيام في الحج» وأيام الحج محصورة فلا يمكن أن يصوم في الحج إلا إذا كان قادرا على الصوم في الحال عاجزا عن الهدي في الحال وذلك ما أردناه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «في الحج» هو نص كتاب الله تعالى فيستدل به على أنه لا يجوز للمتمتع الصيام قبل دخوله في الحج لا من حيث المفهوم فقط بل من حيث تعلق الأمر بالصوم الموصوف بكونه في الحج وأما الهدي قبل الدخول في الحج: فقيل: لا يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي والمشهور من مذهبه: جواز الهدي بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وأبعد من هذا: من أجاز الهدي قبل التحلل من العمرة من العلماء وقد يستدل به من يجيز للمتمتع صوم أيام التشريق بعد إثبات مقدمة وهي أن تلك الأيام من الحج أو تلك الأفعال الباقية ينطلق عليها: أنها من الحج أو وقتها من وقت الحج.
وقوله: «إذا رجع إلى أهله» دليل لأحد القولين للعلماء في أن المراد بالرجوع من قوله تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] هو الرجوع إلى الأهل لا الرجوع من منى إلى مكة.
وقوله: «واستلم الركن أول شيء» دليل استحباب ابتداء الطواف بذلك: «ثم خب ثلاثة أطواف» دليل على استحباب الخبب وهو الرمل في طواف القدوم.
وقوله: «ثلاثة أطواف» يدل على تعميم هذه الثلاثة بالخبب على خلاف ما تقدم من حديث ابن عباس وقد ذكرنا ما فيه.
وقوله: «عند المقام ركعتين» دليل على استحباب أن تكون ركعتا الطواف عند المقام و«طوافه بين الصفا والمروة» عقيب طواف القدوم: دليل على مشروعية ذلك على هذا الوجه واستحباب أن يكون السعي عقيب طواف القدوم وقد قال بعض الفقهاء: إنه يشترط في السعي: أن يكون عقيب طواف كيف كان وقال بعضهم: لابد أن يكون عقيب طواف واجب وهذا القائل يرى أن طواف القدوم واجب وإن لم يكن ركنا.
وقوله: «ثم لم يحلل» الخ امتثالا لقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ودليل على أن ذلك حكم القارن.