فصل: باب ما نهى عنه في البيوع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام



وثانيهما: منع المقدمة الثانية وهو أن إجماع أهل المدينة وعملهم مقدم على خبر الواحد مطلقا فإن الحق الذي لا شك فيه: أن عملهم وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم ولا مستند للعصمة سواه وكيف يمكن أن يقال: بأن من كان بالمدينة من الصحابة رضوان الله عليهم يقبل خلافه باعتبار صفات قائمة به حيث حل فتفرض المسألة فيما اختلف فيه أهل المدينة مع بعض من خرج منها من الصحابة بعد استقرار الوحي وموت الرسول صلى الله عليه وسلم فكل ما قيل من ترجيح لأقوال علماء أهل المدينة وما اجتمع لهم من الأوصاف قد كان حاصلا لهذا الصحابي ولم يزل عنه بخروجه وقد خرج من المدينة أفضل أهل زمانه في ذلك الوقت بالإجماع من أهل السنة وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال أقوالا بالعراق فكيف يمكن إهدارها إذا خالفها أهل المدينة؟ وهو كان رأسهم وكذلك ابن مسعود رضي الله عنه ومحله من العلم معلوم وغيرهما قد خرجوا وقالوا أقوالا على أن بعض الناس يقول: إن المسائل المختلف فيها خارج المدينة مختلف فيها بالمدينة وادعى العموم في ذلك.
الوجه الخامس: ورد في بعض الروايات للحديث: «ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله» فاستدل بهذه الزيادة على عدم ثبوت خيار المجلس من حيث إنه لولا أن العقد لازم لما احتاج إلى الاستقالة ولا طلب الفرار من الاستقالة.
وأجيب عنه: بأن المراد بالاستقالة: فسخ البيع بحكم الخيار وغاية ما في الباب: استعمال المجاز في لفظ الاستقالة لكن جاز المصير إليه إذا دل الدليل عليه وقد دل من وجهين.
أحدهما: أنه علق ذلك على التفرق فإذا حملناه على خيار الفسخ صح تعليقه على التفرق لأن الخيار يرتفع بالتفرق وإذا حملناه على الاستقالة فالاستقالة لا تتوقف على التفرق ولا اختصاص لها بالمجلس.
الثاني: أنا إذا حملناه على خيار الفسخ فالتفرق مبطل له قهرا فيناسب المنع من التفرق المبطل للخيار على صاحبه أما إذا حملناه على الإقالة الحقيقة: فمعلوم أنه لا يحرم على الرجل أن يفارق صاحبه خوف الاستقالة ولا يبقى بعد ذلك إلى النظر فيما دل عليه الحديث من التحريم.
الوجه السادس: تأويل الحديث بحمل المتبايعين على المتساومين لمصير حالهما إلى البيع وحمل الحمار على خيار القبول.
وأجيب عنه: بأن تسمية المتساومين متبايعين مجاز.
واعترض على هذا الجواب: بأن تسميتهما متبايعين بعد الفراغ من البيع مجاز أيضا فلم فلتم: إن الحمل على هذا المجاز أولى؟ فقيل عليه: إنه إذا صدر البيع فقد وجدت الحقيقة فهذا المجاز أقرب إلى الحقيقة من مجاز لم توجد حقيقته أصلا عند إطلاقه وهو الحمل على المتساومين.
الوجه السابع: حمل التفرق على التفرق بالأقوال وقد عهد ذلك شرعا قال الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَ} [النساء: 130] أي عن النكاح.
وأجيب عنه: بأنه خلاف الظاهر فإن السابق إلى الفهم: التفرق عن المكان وأيضا فقد ورد في بعض الروايات: «ما لم يتفرقا عن مكانهما» وذلك صريح في المقصود.
وربما اعترض على الأول بأن حقيقة التفرق: لا تختص بالمكان بل هي عائدة إلى ما كان الاجتماع فيه وإذا كان الاجتماع في الأقوال: كان التفرق فيها وإن كان في غيرها: كان التفرق عنه.
وأجيب عنه: بأن حمله على غير المكان بقرينة: يكون مجازا.
الوجه الثامن: قال بعضهم: تعذر المكان بظاهر الحديث فإنه أثبت الخيار لكل واحد من المتبايعين على صاحبه فالحال لا تخلوا: إما أن يتفقا في الاختيار أو يختلفا فإن اتفقا لم يثبت لواحد منهما على صاحبه خيار وإن اختلفا- بأن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإمضاء- فقد استحال أن يثبت على كل واحد منهما لصاحبه الخيار إذ الجمع بين الفسخ والإمضاء مستحيل فيلزم تأويل الحديث ولا نحتاج إليه ويكفينا صدكم عن الاستدلال بالظاهر.
وأجيب عنه بأن قيل: لم يثبت صلى الله عليه وسلم مطلق الخيار بل أثبت الخيار وسكت عما فيه الخيار فنحن نحمله على خيار الفسخ فيثبت لكل واحد منهما خيار الفسخ على صاحبه وإن أبي صاحبه ذلك.
الوجه التاسع: ادعاء أنه حديث منسوخ إما لأن علماء المدينة أجمعوا على عدم ثبوت خيار المجلس وذلك يدل على النسخ وإما لحديث اختلاف المتبايعين فإنه يقتضي الحاجة إلى اليمينين وذلك يستلزم لزوم العقد فإنه لو ثبت الخيار لكان كافيا في رفع العقد عند الاختلاف وهو ضعيف جدا.
أما النسخ لأجل عمل أهل المدينة: فقد تكلمنا عليه والنسخ لا يثبت بالاحتمال ومجرد المخالفة لا يلزم منه أن يكون للنسخ لجواز أيكون التقديم لدليل آخر راجح في ظنهم عند تعارض الأدلة عندهم.
وأما حديث اختلاف المتبايعين فالاستدلال به ضعيف جدا لأنه مطلق أو عام بالنسبة إلى زمن التفرق وزمن المجلس فيحمل على ما بعد التفرق ولا حاجة إلى النسخ والنسخ ولا يصار إليه إلا عند الضرورة.
الوجه العاشر: حمل الخيار على خيار الشراء أو خيار إلحاق الزيادة بالثمن أو المثمن وإذا تردد لم يتعين حمله على ما ذكرتموه.
وأجيب عنه: بأن حمله على خيار الفسخ أولى لوجهين:
أحدهما: أن لفظة الخيار قد عهد استعمالها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيار الفسخ كما في حديث حبان بن منقذ: «ولك الخيار» بالمراد منه خيار الفسخ وحديث المصراة: «فهو بالخيار ثلاثا» والمراد خيار الفسخ فيحمل الخيار المذكور هاهنا عليه لأنه لما كان معهودا من النبي صلى الله عليه وسلم كان أظهر في الإرادة.
الثاني: قيام المانع من إرادة كل واحد من الخيارين أما خيار الشراء: لأن المراد من اسم المتبايعين المتعاقدان والمتعاقدان: من صدر منهما العقد وبعد صدور العقد منهما لا يكون لهما خيار الشراء فضلا عن أن يكون لهما ذلك إلى أوان التفرق.
وأما خيار إلحاق الزيادة بالثمن أو بالمثمن: فلا يمكن الحمل عليه عند من يرى ثبوته مطلقا أو عدمه مطلقا لأن ذلك الخيار: إن لم يكن لهما فلا يكون لهما إلى أوان التفرق وإن كان: فيبقى بعد التفرق عن المجلس فكيفما كان لا يكون ذلك الخيار لهما ثابتا مغيا إلى غاية التفرق والخيار المثبت بالنص ههنا: هو خيار مغيا إلى غاية التفرق ثم الدليل على أن المراد من الخيار هذا ومن المتبايعين ما ذكر: أن مالكا نسب إلى مخالفة الحديث وذلك لايصح إلا إذا حمل الخيار والمتبايعان والافتراق على ما ذكر هكذا قال بعض النظار إلا إنه ضعيف فإن نسبة مالك إلى ذلك ليست من كل الأمة ولا أكثرهم.

.باب ما نهى عنه في البيوع:

1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن المنابذة- وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه- ونهى عن الملامسة والملامسة: لمس الثوب ولا ينظر إليه».
اتفق الناس على منع هذين البيعين واختلفوا في تفسير الملامسة فقيل: هي أن يجعل اللمس بيعا بأن يقول: إذا لمست ثوبي فهو مبيع منك بكذا وكذا وهذا باطل للتعليق في الصيغة وعدوله عن الصيغة الموضوعة للبيع شرعا وقد قيل: هذا من صور المعاطاة وقيل: تفسيرها أن يبيعه على أنه إذا لمس الثوب فقد وجب البيع وانقطع الخيار وهو أيضا فاسد بالشرط الفاسد وفسره الشافعي رحمه الله: بأن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه الراغب ويقول صاحب الثوب: بعتك هذا بشرط أن يقوم لمسك مقام النظر وهذا فاسد إن أبطلنا بيع الغائب وكذا إن صححناه لإقامة اللمس مقام النظر وقيل يتخرج على نفي شرط الخيار.
وأما لفظ الحديث الذي ذكره المصنف فإنه يقتضي أن جهة الفساد: عدم النظر والتقليب وقد يستدل به من يمنع بيع الأعيان الغائبة عملا بالعلة ومن يشترط الوصف في بيع الأعيان الغائبة لا يكون الحديث دليلا عليه لأنه هاهنا لم يذكر وصفا.
وأما المنابذة فقد ذكر في الحديث: «أنها طرح الرجل ثوبه لا ينظر إليه» والكلام في هذا التعليل كما تقدم.
واعلم أن في كلا الموضعين يحتاج إلى الفرق بين المعاطاة وبين هاتين الصورتين فإذا علل بعدم الرؤية المشروطة: فالفرق ظاهر وإذا فسر بأمر لا يعود إلى ذلك: احتيج حينئذ إلى الفرق بينه وبين مسألة المعاطاة عند من يجيزها.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولاتصروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر» وفي لفظ: «هو بالخيار ثلاثا».
تلقي الركبان من البيوع المنهي عنها لما يتعلق به من الضرر وهو أن يتلقى طائفة يحملون متاعا فيشتريه منهم قبل أن يقدموا البلد فيعرفوا الأسعار.
والكلام فيه في ثلاثة مواضع:
أحدها: التحريم فإن كان عالما بالنهي قاصدا للتلقي: فهو حرام وإن خرج لشغل آخر فرآهم مقبلين فاشتري: ففي إثمه وجهان للشافعية أظهرهما: التأثيم.
الموضوع الثاني: صحة البيع أو فساده وهو عند الشافعي: صحيح وإن كان آثما وعند غيره من العلماء: يبطل ومستنده: أن النهي للفساد ومستند الشافعي: أن النهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان وذلك لا يقدح في نفس البيع.
الموضع: الثالث: إثبات الخيار فحيث لا غرور للركبان بحيث يكونون عالمين بالسعر فلا خيار وإن لم يكونوا كذلك فان اشترى منهم بأرخص من السعر فلهم الخيار وما في لفظ بعض المصنفين من: «أنه يخبرهم بالسعر كاذبا» ليس بشرط في إثبات الخيار وإن اشترى منهم بمثل سعر البلد أو أكثر ففي ثبوت الخيار لهم وجهان للشافعية منهم من نظر إلى لفظ حديث ورد بإثبات الخيار لهم فجرى على ظاهره ولم يلتفت إلى المعنى وإذا أثبتنا الخيار: فهل يكون على الفور أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعي والأظهر: الأول.
وأما قوله: «ولا يبع بعضكم على بيع بعض» فقد فسر في مذهب الشافعي بأن يشتري شيئا فيدعوه غيره إلى الفسخ ليبيعه خيرا منه بأرخص وفي معناه: الشراء على الشراء وهو أن يدعوا البائع إلى الفسخ ليشتريه منه بأكثر وهاتان الصورتان إنما تتصوران فيما إذا كان البيع في حالة الجواز وقبل اللزوم وتصرف بعض الفقهاء في هذا النهي وخصصه بما إذا لم يكن في الصورة غبن فاحش فإن كان المشتري مغبونا فيدعوه إلى الفسخ ويشتريه منه أكثر.
ومن الفقهاء من فسر البيع على البائع بالسوم على السوم وهو أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول له إنسان رده لأبيع منك خيرا منه وأرخص أو يقول لصاحبه: استرده لأشتريه منك بأكثر وللتحريم في ذلك عند أصحاب الشافعي شرطان:
أحدهما: استقرار الثمن فأما من يباع فيمن يزيد: فللطالب أن يزيد على الطالب ويدخل عليه.
والثاني: أن يحصل التراضي بين المتساومين صريحا فإن وجد ما يدل على الرضا من غير تصريح: فوجهان وليس السكوت بمجرده من دلائل الرضا عند الأكثرين منهم.
وأما قوله: «ولا تناجشوا» فهو من المنهيات لأجل الضرر وهو أن يزيد في سلعة تباع ليغر غيره وهو راغب فيها واختلف في اشتقاق اللفظة فقيل: إنها مأخوذة من معنى الإثارة كأن الناجش يثير همة من يسمعه للزيادة وكأنه مأخوذ من إثارة الوحش من مكان إلى مكان وقيل: أصل اللفظة: مدح الشيء وإطراؤه ولا شك أن هذا الفعل حرام لما فيه من الخديعة وقال بعض الفقهاء: بأن البيع باطل ومذهب الشافعي: أن البيع صحيح وأما إثبات الخيار للمشتري الذي غر بالنجش: فإن لم يكن النجش عن مواطاة من البائع فلا خيار عند أصحاب الشافعي.
وأما: «بيع الحاضر للبادي» فمن البيوع المنهي عنها لأجل الضرر أيضا وصورته: أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه ويرجع فيأتيه البلدي فيقول: ضع عندي لأبيعه على التدريج بزيادة سعر وذلك إضرار بأهل البلد وحرام إن علم بالنهي وتصرف بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي في ذلك فقالوا: شرطه أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد فإن لم يظهر- لكثرته في البلد أو لقلة الطعام المجلوب-: ففي التحريم وجهان ينظر في أحدهما: إلى ظاهر اللفظ وفي الآخر: إلى المعنى وعدم الإضرار وتفويت الربح أو الرزق على الناس وهذا المعنى منتف وقالوا أيضا: يشترط أن يكون المتاع مما تعم الحاجة إليه دون ما لا يحتاج إليه إلا نادرا وأن يدعوا البلدي البدوي إلى ذلك فإن التمسه البدوي منه فلا بأس ولو استشاره البدوي فهل يرشده إلى الادخار والبيع على التدريج؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي.