فصل: تفسير الآيات (158- 159):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (158- 159):

{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}
{بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} ردٌّ وإنكارٌ لزعمهم قتلَه وإثباتٌ لرفعه {وَكَانَ الله عَزِيزاً} لا يغالَب فيما يريده {حَكِيماً} في جميع أفعالِه فيدخُل فيها تدبيراتُه تعالى في أمر عيسى عليه السلام دخولاً أولياً {وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب} أي من اليهود والنصارى، وقوله تعالى: {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} جملةٌ قَسَمية وقعت صفةً لموصوف محذوفٍ إليه يرجع الضميرُ الثاني والأول لعيسى عليه السلام، أي وما من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤمِنَنّ بعيسى عليه السلام قبل أن تَزهَقَ روحُه بأنه عبدُ الله ورسولُه ولاتَ حينَ إيمانٍ لاتقطاع وقتِ التكليفِ، ويعضُده أنه قرئ ليؤمِنُنّ به قبل موتهم بضم النون لِما أن أحداً في معنى الجمعِ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسّره كذلك فقال له عِكرِمة: فإن أتاه رجلٌ فضَرَبَ عُنقَه؟ قال: لا تخرُجُ نفسُه حتى يُحرِّك بها شفتيه. قال: فإن خرَّ من فوق بيت أو احترق أو أكله سبُعٌ؟ قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرُجُ روحُه حتى يؤمِنَ به. وعن شهرِ بنِ حَوْشبَ قال لي الحجاج: آيةٌ ما قرأتُها إلا تَخالَج في نفسي شيءٌ منها يعني هذه الآيةَ، وقال: إني أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضربُ عُنقَه فلا أسمعُ منه ذلك، فقلت: إن اليهوديَّ إذا حضره الموتُ ضربت الملائكةُ دُبُرَه ووجهَه وقالوا: يا عدوَّ الله أتاك عيسى عليه السلام نبياً فكذبتَ به، فيقول: آمنتُ أنه عبدٌ نبيٌّ، وتقول للنصراني: أتاك عيسى عليه السلام نبياً فزعمتَ أنه الله أو ابنُ الله فيؤمنُ أنه عبدُ الله ورسولُه حيث لا ينفعه إيمانُه، قال: وكان متكئاً فاستوى جالساً فنظر إليَّ وقال: ممن سمعتَ هذا؟ قلت: حدثني محمدُ بنُ عليَ بنِ الحنفيةِ فأخذ ينكُث الأرضَ بقضيبه ثم قال: لقد أخذتُها من عين صافية، والإخبارُ بحالهم هذه وعيدٌ لهم وتحريضٌ على المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يُضْطروا إليه مع انتفاء جدواه، وقيل: كلا الضميرين لعيسى، والمعنى وما من أهل الكتابِ الموجودين عند نزولِ عيسى عليه السلام أحدٌ إلا ليؤمِنَنّ به قبل موته. رُوي أنه عليه السلام ينزِلُ من السماء في آخر الزمانِ فلا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب إلا يؤمنُ به حتى تكونَ الملةُ واحدةً وهي ملةُ الإسلام، ويُهلك الله في زمانه الدجالَ وتقعُ الأمنة حتى ترتعَ الأسودُ مع الإبلِ والنمورُ مع البقر، والذئابُ مع الغنمِ ويلعب الصبيانُ بالحيّاتِ ويلبث في الأرض أربعين سنةً ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفِنونه، وقيل: الضميرُ الأولُ يرجِعُ إلى الله تعالى، وقيل: إلى محمد صلى الله عليه وسلم {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ} أي عيسى عليه السلام {عَلَيْهِمْ} على أهل الكتاب {شَهِيداً} فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعَوْه ابنَ الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

.تفسير الآيات (160- 162):

{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)}
{فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ} لعل ذكرَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ عِظَمِ ظلمهم بتذكير وقوعِه بعد ما هادُوا أي تابوا من عبادة العجلِ مثلَ تلك التوبةِ الهائلةِ المشروطةِ ببخْع النفوسِ إثرَ بيانِ عِظَمِه في حد ذاتِه بالتنوين التفخيميِّ، أي بسبب ظلمٍ عظيمٍ خارجٍ عن حدود الأشباهِ والأشكالِ صادرٍ عنهم {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} ولِمن قبلَهم لا بشيء غيرِه كما زعموا فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصيةً من المعاصي التي اقترفوها يُحرَّم عليهم نوعٌ من الطيبات التي كانت محلَّلةً لهم ولمن تقدّمهم من أسلافهم عُقوبةً لهم، وكانوا مع ذلك يفترون على الله سبحانه الكذب ويقولون: لسنا بأولِ مَنْ حُرّمت عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيمَ ومَنْ بعدهم حتى انتهى الأمرُ إلينا فكذبهم الله عز وجل في مواقعَ كثيرةٍ وبكّتهم بقوله تعالى: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين} أي في ادعائكم أنه تحريم قديم. روي أنه عليه السلام لما كلفهم إخراجَ التوراةِ لم يجسُرْ أحدٌ على إخراجها لِما أن كونَ التحريمِ بظلمهم كان مسطوراً فيها فبُهتوا وانقلبوا صاغرين {وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً} أي ناساً كثيراً أو صداً كثيراً {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} فإن الربا كان محرَّماً عليهم كما هو محرَّمٌ علينا، وفيه دليلٌ على أن النهيَ يدل على حرمة المنهيِّ عنه {وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل} بالرّشوة وسائرِ الوجوهِ المحرَّمةِ {وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ} أي للمُصِرِّين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم {عَذَاباً أَلِيماً} سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبةَ التحريم.
{لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ} استدراكٌ من قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا} الخ، وبيانٌ لكون بعضِهم على خلاف حالِهم عاجلاً وآجلاً أي لكن الثابتون في العلم منهم المُتقِنون المستبصِرون فيه غيرُ التابعين للظن كأولئك الجَهَلة والمرادُ بهم عبدُ اللَّهِ بنُ سلام وأصحابُه {والمؤمنون} أي منهم وُصفوا بالإيمان بعدما وُصِفوا بما يوجبُه من الرسوخ في العلم بطريق العطفِ المنبىءِ عن المغايرة بين المعطوفَين تنزيلاً للاختلاف العنواني منزلةَ الاختلافِ الذاتي، وقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} حالٌ من المؤمنين مبيِّنةٌ لكيفية إيمانِهم، وقيل: اعتراضٌ مؤكدٌ لما قبله، وقوله عز وجل: {والمقيمين الصلاة} قيل: نُصب بإضمار فعلٍ تقديرُه وأعني المقيمين الصلاةَ على أن الجملةَ معترضةٌ بين المبتدأ والخبر، وقيل: هو عطفٌ على ما أُنزل إليك على أن المرادَ بهم الأنبياءُ عليهم السلام أي يؤمنون بالكتب وبالأنبياء أو الملائكة. قال مكي: أي ويؤمنون بالملائكة الذين صِفتُهم إقامةُ الصلاةِ لقوله تعالى: {يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} وقيل: عطفٌ على الكاف في إليك أي يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياءُ، وقيل: على الضمير المجرورِ في منهم أي لكنِ الراسخون في العلم منهم ومِن المقيمين الصلاةَ، وقرئ بالرفع على أنه معطوفٌ على المؤمنون بناءً على ما مر من تنزيل التغايُرِ العنوانيِّ منزلة التغايُر الذاتيِّ وكذا الحالُ فيما سيأتي من المعطوفَين فإن قوله تعالى: {والمؤتون الزكواة} عطفٌ على المؤمنون مع اتحاد الكلِّ ذاتاً، وكذا الكلامُ في قوله تعالى: {والمؤمنون بالله واليوم الاخر} فإن المرادَ بالكل مؤمنوا أهلِ الكتابِ قد وُصِفوا أولاً بكونهم راسِخين في علم الكتابِ إيذاناً بأن ذلك موجبٌ للإيمان حتماً وأن مَنْ عداهم إنما بقُوا مُصرِّين على الكفر لعدم رسوخِهم فيه ثم بكونهم مؤمنين بجميع الكتبِ المنزلةِ على الأنبياء ثم بكونهم عاملين بما فيها من الشرائع والأحكامِ، واكتُفي من بينها بذكر إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ المستتبعين لسائر العباداتِ البدنيةِ والماليةِ ثم بكونهم مؤمنين بالمبدأ والمعادِ تحقيقاً لحيازتهم الإيمانَ بفطرته وإحاطتِهم به من طرفيه وتعريضاً بأن مَنْ عداهم من أهل الكتابِ ليسوا بمؤمنين بواحد منهما حقيقةً فإنهم مشركون بالله سبحانه بقولهم: عزيرٌ ابنُ الله، وبقولهم: لن تمسنا النارُ إلا أياماً معدودةً كافرون باليوم الآخِرِ، وقولُه تعالى: {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبار اتصافِهم بما عُدِّد من الصفات الجميلةِ، وما فيه من معنى البُعدِ للإشعار بعلو درجتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضل، وهو مبتدأ وقوله تعالى: {سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} خبرُه، والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو الراسخون وما عطف عليه، والسينُ لتأكيد الوعدِ، وتنكيرُ الأجرِ للتفخيم وهذا أنسبُ بتجاوُبِ طرَفي الاستدراكِ حيث أُوعِد الأولون بالعذاب الأليم ووُعِد الآخَرون بالأجر العظيم، كأنه قيل إثر قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لكنِ المؤمنون منهم سنؤتهم أجراً عظيماً. وأما ما جنَح إليه الجمهورُ من جعل قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} الخ، خبراً للمبتدأ ففي كمالِ السَّداد أنه غيرُ متعرِّض لتقابُلِ الطرفين وقرئ {سيؤتيهم} بالياء مراعاةً لظاهر قولِه تعالى: {والمؤمنون بالله}.

.تفسير الآية رقم (163):

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)}
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} جوابٌ لأهل الكتابِ عن سؤالهم رسولَ الله عليه الصلاة والسلام أن ينزلَ عليهم كتاباً من السماء، واحتجاجٌ عليهم بأنه ليس بِدْعاً من الرسل وإنما شأنُه في حقيقة الإرسالِ وأصلِ الوحي كشأن سائرِ مشاهيرِ الأنبياءِ الذين لا ريب لأحد في نبوَّتهم، والكافُ في محل نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي إيحاءً مثلَ إيحائِنا إلى نوح، أو على أنه حالٌ من ذلك المصدرِ المقدر معرّفاً كما هو رأيُ سيبويهِ أي أوحينا الايحاءَ حال كونِه مشبهاً لإيحائنا الخ، ومن بعدِه متعلقٌ بأوحينا وإنما بُدىء بذكر نوحٍ لأنه أبو البشر وأولُ نبيَ شرَع الله تعالى على لسانه الشرائعَ والأحكامَ وأولُ نبيَ عُذّبت أمتُه لردهم دعوتَه وقد أهلك الله بدعائه أهلَ الأرضِ {وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم} عطفٌ على أوحينا إلى نوح داخلٌ معه في حكم التشبيهِ أي وكما أوحينا إلى إبراهيم {وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ} وهم أولادُ يعقوبَ عليهم السلام {وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان} خُصوا بالذكر مع ظهور انتظامِهم في سلك النبيين تشريفاً لهم وإظهاراً لفضلهم كما في قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّا الله وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} وتصريحاً بمن ينتمي إليهم اليهودُ من الأنبياء، وتكريرُ الفعلِ لمزيد تقريرِ الإيحاء والتنبيهِ على أنهم طائفةٌ خاصةٌ مستقلةٌ بنوع مخصوصٍ من الوحي.
{وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً} قال القرطبي: كان فيه مائةٌ وخمسون سورةً ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هي حِكَمٌ ومواعظُ وتحميدٌ وتمجيدٌ وثناءٌ على الله تعالى، وقرئ بضم الزاءِ وهو جمعُ زِبْرٍ بمعنى مزبور، والجملةُ عطف على أوحينا داخلٌ في حكمه لأن إيتاءَ الزبورِ من باب الإيحاءِ أي وكما آتينا داودَ زبوراً، وإيثارُه على {أَوْحَيْنَا إلى دَاوُودُ} لتحقيق المماثلة في أمر خاصَ هو إيتاءُ الكتابِ بعد تحقيقِها في مطلق الإيحاءِ ثم أشير إلى تحقيقها في أمر لازمٍ لهما لزوماً كلياً وهو الإرسالُ فإن قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (164):

{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}
{وَرُسُلاً} نُصب بمضمر يدل عليه أوحينا معطوفٍ عليه داخلٍ معه في حُكم التشبيهِ كما قبله أي وكما أرسلنا رسلاً لا بما يفسِّره قولُه تعالى: {قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ} أي وقصصنا رسلاً كما قالوا وفرّعوا عليه أن قولَه تعالى: {قَدْ قصصناهم} على الوجه الأول منصوبٌ على أنه صفةٌ لرسلاً وعلى الوجه الثاني لا محل له من الإعراب فإنه مما لا سبيلَ إليه كما ستقف عليه، وقرئ برفع رسلٌ وقولُه تعالى: {مِن قَبْلُ} متعلقٌ بقصصنا أي قصصنا من قبلِ هذه السورةِ أو اليوم.
{وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} عطفٌ على رسلاً منصوبٌ بناصبه، وقيل: كلاهما منصوبٌ بنزع الخافضِ والتقديرُ كما أوحينا إلى نوحٍ وإلى رسل الخ، والحقُّ أن يكون انتصابُهما بأرسلنا فإن فيه تحقيقاً للمماثلة بين شأنِه عليه الصلاةُ والسلام وبين شؤونِ من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم السلام في مطلق الإيحاءِ ثم إيتاءِ الكتابِ ثم في الإرسال، فإن قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} منتظِمٌ لمعنى آتيناك وأرسلناك حتماً، كأنه قيل: إنا أوحينا إليك إيحاءً مثلَ ما أوحينا إلى نوح ومثلَ ما أوحينا إلى إبراهيمَ ومَنْ بعده، وآتيناك الفرقانَ إيتاءً مثلَ ما آتينا داودَ زبوراً وأرسلناك إرسالاً مثلَ ما أرسلنا رسلاً قد قصصناهم عليك من قبلُ ورسلاً آخَرين لم نقصُصْهم عليك من غير تفاوتٍ بينك وبينهم في حقيقة الإيحاءِ، وأصلِ الإرسالِ، فما للكفرة يسألونك شيئاً لم يُعطَه أحدٌ من هؤلاء الرسلِ عليهم السلام؟ ومن هاهنا اتضح أن رسلاً لا يمكن نصبُه بقصصنا فإن ناصبَه يجب أن يكون معطوفاً على أوحينا داخلاً معه في حُكم التشبيهِ الذي يدور فلَكُ الاحتجاجِ على الكفرة ولا ريب في أن قصصنا لا تعلُّقَ له بشيء من الإيحاء والإيتاءِ حتى يمكنَ اعتبارُه في ضمن قولِه تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ثم يعتبرُ بينه وبين المذكورِ مماثلةٌ مصحِّحةٌ للتشبيه على أن تقديرَه في رسلاً الأوّلِ يقتضي تقديرَ نفيِه في الثاني وذلك أشدُّ استحالةً وأظهرُ بطلاناً.
{وَكَلَّمَ الله موسى} برفع الجلالةِ ونصبِ موسى، وقرئ على القلب، وقوله تعالى: {تَكْلِيماً} مصدرٌ مؤكدٌ رافعٌ لاحتمال المجازِ. قال الفراء: العربُ تسمِّي ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريقٍ وصل ما لم يؤكَّدْ بالمصدر فإذا أُكّد به لم يكنْ إلا حقيقةُ الكلامِ، والجملةُ إما معطوفةٌ على قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} عطفَ القصةِ على القصة لا على آتينا وما عطف عليه، وإما حالٌ بتقدير قد كما ينبىء عنه تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات، والمعنى أن التكليمَ بغير واسطةٍ منتهى مراتبِ الوحي خُصَّ به موسى من بينهم فلم يكن ذلك قادحاً في نبوة سائرِ الأنبياءِ عليهم السلام فكيف يُتوَّهم كونُ نزولِ التوراةه عليه عليه السلام جملةً قادحاً في صحة نبوةِ من أنزل عليه الكتابُ مفصلاً مع ظهور أن نزولَها كذلك لحِكَمٍ مقتضيةٍ لذلك من جملتها أن بني إسرائيلَ كانوا في العِناد وشدةِ الشكيمة بحيث لو لم يكن نزولُها كذلك لما آمنوا بها، ومع ذلك ما آمنوا بها إلا بعد اللّتيا والتي وقد فضل الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بأن أعطاه مثلَ ما أعطى كلَّ واحدٍ منهم صلى الله عليهم وسلم تسليماً كثيراً.

.تفسير الآية رقم (165):

{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)}
{رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} نُصب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال بأن يكون رسلاً موطئاً لما بعده أو على البدلية من رُسلاً الأولِ أي مبشرين لأهل الطاعةِ بالجنة ونذرين للعُصاة بالنار، {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ} أي مَعذرةٌ يعتذرون بها قائلين: لولا أرسلتَ إلينا رسولاً فيبينَ لنا شرائعَك ويُعلّمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك، لقصور القوةِ البشريةِ عن إدراك جزئياتِ المصالحِ وعجْزِ أكثرِ الناسِ عن إدراك كلياتِها كما في قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك} الآية، وإنما سُمِّيت حجةً مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجةٌ في فعل من أفعاله بل له أن يفعلَ ما يشاء كما يشاء للتنبيه على أن المعذرةَ في القَبول عنده تعالى بمقتضى كرمِه ورحمتِه لعباده بمنزلة الحجةِ القاطعةِ التي لا مرد لها ولذلك قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أحدٌ أغيرُ مِنَ الله تعالى، ولذلك حرَّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن، وما أحدٌ أحبُّ إليه المدحُ من الله تعالى ولذلك مدح نفسَه، وما أحدٌ أحبُّ إليه الإعذارُ من الله تعالى ولذلك أرسلَ الرسلَ وأنزلَ الكتُب» فاللامُ متعلقةٌ بأرسلنا، وقيل: بقوله تعالى: {مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وحجةٌ اسمُ كان وللناس خبرُها وعلى الله متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من حجةٌ أي كائنةً على الله أو هو الخبرُ وللناس حالٌ على الوجه المذكور، ويجوز أن يتعلق كلٌّ منهما بما تعلق به الآخرُ الذي هو الخبرُ ولا يجوز التعلقُ بحجة لأن معمولَ المصدرِ لا يتقدم عليه، وقوله تعالى: {بَعْدَ الرسل} أي بعد إرسالِهم وتبليغِ الشرائعِ إلى الأمم على ألسنتهم، متعلقٌ بحجة أو بمحذوف وقع صفةً لها لأن الظلاروفَ يوصف بها الأحداثُ كما يُخبر بها عنها نحو القتالُ يومُ الجمعة {وَكَانَ الله عَزِيزاً} لا يغالَب في أمر من أموره ومن قضيته الامتناعُ عن الإجابة إلى مسألة المتعنّتين {حَكِيماً} في جميع أفعالِه التي من جملتها إرسالُ الرسلِ وإنزالُ الكتبِ فإن تعددَ الرسلِ والكتبِ واختلالَها في كيفية النزولِ وتغايُرَها في بعض الشرائعِ والأحكامِ إنما هو لتفاوت طبقاتِ الأممِ في الأحوال التي عليها يدور فلكُ التكليفِ، فكما أنه سبحانه وتعالى برَأَهم على أنحاءَ شتى وأطوارٍ متباينةٍ حسبما تقتضيه الحِكمةُ التكوينيةُ كذلك تعبّدهم بما يليق بشأنهم وتقتضيه أحوالُهم المتخالفةُ واستعداداتُهم المتغايرةُ من الشرائع والأحكامِ حسبما تستدعيه الحِكمةُ التشريعيةُ، وراعى في إرسال الرسلِ وإنزالِ الكتبِ وغيرِ ذلك من الأمور المتعلقةِ بمعاشهم ومعادِهم ما فيه مصلحتُهم، فسؤالُ تنزيلِ الكتابِ جملةً اقتراحٌ فاسدٌ إذ حينئذ تتفاقم التكاليفُ فيثقُل على المكلَّف قَبولُها والخروجُ عن عُهدتها، وأما التنزيلُ المُنَجَّم الواقعُ حسب الأمورِ الداعيةِ إليه فهو أيسرُ قَبولاً وأسهلُ امتثالاً.