فصل: تفسير الآية رقم (15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (15):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)}
{يَا أَهْلِ الكتاب} التفاتٌ إلى خطاب الفريقين على أن الكتاب جنسٌ شاملٌ للتوراة والإنجيل إثرَ بيانِ أحوالهما من الخيانة وغيرها من فنون القبائح ودعوةٌ لهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، وإيرادُهم بعنوان أهلية الكتاب لانطواء الكلامِ المصدَّر به على ما يتعلق بالكتاب وللمبالغة في التشنيع، فإن أهلية الكتاب من موجباتِ مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا من الكَتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} الإضافة للتشريف، والإيذانِ بوجوب اتباعه وقوله تعالى: {ُبَيّنُ لَكُمْ} حال من رسولنا، وإيثارُ الجملة الفعلية على غيرها للدَلالة على تجدّد البيان، أي قد جاءكم رسولُنا حال كونه مبيناً لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة {كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} أي التوراةِ والإنجيل كبِعثةِ محمد عليه الصلاة والسلام، وآيةِ الرجم في التوراة وبشارةِ عيسى بأحمدَ عليهما السلام في الإنجيل، وتأخيرُ {كثيراً} عن الجار والمجرور لما مر مراراً من إظهار العناية بالمُقدَّم، لما فيه من تعجيل المَسَرَّة والتشويق إلى المؤخر لأن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لاسيما مع الإشعار بكونه من منافع المخاطَب تبقَى النفسُ مترقبة إلى وروده، فيتمكن عندها إذا ورد فضلُ تمكنٍ، ولأن في المؤخَّر ضربَ تفصيل رمبا يُخِلُّ تقديمُه بتجاذب أطرافِ النظم الكريم، فإن {مما} متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لكثيراً، و{ما} موصولة اسمية وما بعدها صلتُها، والعائدُ إليها محذوف، و{من الكتاب} متعلق بمحذوف هو حال من العائد المحذوف، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، أي يبين لكم كثيراً من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والمتمسكون به {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي ولا يُظهر كثيراً مما تخفونه، إذا لم تدعُ إليه داعيةٌ دينية صيانةً لكم عن زيادة الافتضاح كما يُفصحُ عنه التعبير عن عدم الإظهار بالعفو، وفيه حثّ لهم على عدم الإخفاء ترغيباً وترهيباً، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلةٌ في حكمها، وقيل: يعفو عن كثيرٍ منكم ولا يؤاخذه، وقوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} جملة مستأنفةٌ مسوقةٌ لبيان أن فائدةَ مجيءِ الرسول ليست منحصرةً فيما ذُكر من بيانِ ما كانوا يُخفونه، بل له منافعُ لا تحصى، و{من الله} متعلقٌ بجاء، و{من} لابتداء الغاية مجازاً، أو بمحذوفٍ وقع حالاً من نور، وأياً ما كان فهو تصريحٌ بما يشعر به إضافةُ الرسول من مجيئه من جنابه عز وجل، وتقديمُ الجار والمجرور على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء من جهته العالية، والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوعَ تطويلٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم، كما في قوله تعالى: {وَجَاءكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} وتنوين {نور} للتفخيم، والمراد به وبقوله تعالى: {وكتاب مُّبِينٌ} القرآن، لما فيه من كشف ظلمات الشرْك والشك وإبانة ما خفِيَ على الناس من الحق والإعجاز البيِّن، والعطف لتنزيل المغايَرَة بالعنوان منزلة المُغايرة بالذات، وقيل: المرادُ بالأول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وبالثاني القرآن.

.تفسير الآية رقم (16):

{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}
{يَهْدِى بِهِ الله} توحيد الضمير المجرور لاتحاد المرجِع بالذات أو لكونهما في حكم الواحد أو أريد يهدي بما ذُكر، وتقديم الجار والمجرور للاهتمام، وإظهارُ الجلالة لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب، أو النصبُ على الحالية منه لتخصصه بالصفة {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي رضاه بالإيمان به، و{مَنْ} موصولةٌ أو موصوفة {سُبُلَ السلام} أي طرق السلامة من العذاب والنجاة من العقاب، أو سبل الله تعالى وهي شريعتُه التي شرعها للناس، قيل: هو مفعول ثان {ليهدي}، والحقُّ أن انتصابه بنزع الخافض على طريقة قوله تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ} وإنما يُعدَّى إلى الثاني بإلى أو باللام كما في قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هي أَقْوَمُ} {وَيُخْرِجُهُمْ} الضمير لمن، والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في {اتبع} باعتبار اللفظ {مِنَ الظلمات} أي ظلمات فنون الكفر والضلال {إِلَى النور} إلى الإيمان {بِإِذْنِهِ} بتيسيره أو بإرادته {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو أقرب الطرق إلى الله تعالى، ومؤدَ إليه لا محالة، وهذه الهداية عينُ الهداية إلى سبل السلام، وإنما عُطفت عليها تنزيلاً للتغاير الوَصْفيِّ منزلة التغايُر الذاتي كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}

.تفسير الآية رقم (17):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} أي لا غيرُ، كما يقال: الكرمُ هو التقوى، وهم اليعقوبيةُ القائلون بأنه تعالى قد يحِلُّ في بدن إنسان معين، أو في روحه، وقيل: لم يصرِّح به أحدٌ منهم، لكن حيث اعتقدوا اتصافَه بصفاتِ الله الخاصة وقد اعترفوا بأن الله تعالى موجود، فلزِمهم القولُ بأنه المسيح لا غير، وقيل: لما زعموا أن فيه لاهوتاً وقالوا: لا إله إلا واحدٌ، لزمهم أن يكونَ هو المسيح، فنُسب إليهم لازمُ قولِهم توضيحاً لجهلهم، وتفضيحاً لمعتَقَدِهم {قُلْ} أي تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان قولِهمِ الفاسد وإلقاماً لهم الحجَرَ، والفاء في قوله تعالى: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} فصيحة، و{مَنْ} استفهامية للإنكار والتوبيخ، والمُلكُ الضبطُ والحِفظُ التامُّ عن حزم، و{من} متعلقةٌ به على حذف المضاف، أي إن كان الأمرُ كما تزعُمون فمن يمنَعُ من قدرته تعالى وإرادته شيئاً؟ وحقيقتُه فمن يستطيعُ أن يُمسك شيئاً منهما {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الارض جَمِيعاً}.
ومن حق مَنْ يكون إلها ألا يتعلقَ به ولا بشأنٍ من شؤونه، بل بشيءٍ من الموجودات قدرةُ غيرِه بوجهٍ من الوجوه، فضلاً عن أن يعجِزَ عن دفع شيءٍ منها عند تعلقِها بهلاكه، فلما كان عجزُه بيناً لا ريب فيه ظهرَ كونُه بمعزل مما تقوَّلوا في حقه. والمرادُ بالإهلاك الإماتةُ والإعدامُ مطلقاً، لا بطريق السُخْط والغضب، وإظهارُ المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية في مقام الإضمار لزيادة التقرير، والتنصيصِ على أنه من تلك الحيثية بعينها داخلٌ تحت قهره ومَلَكوته تعالى ونفْيِ المالكيةِ المذكورة بالاستفهام الإنكاري عن كل أحدٍ مع تحقق الإلزامِ والتبكيتِ بنفيها عن المسيح فقط، بأن يقال: فهل يملِك شيئاً من الله إن أراد إلخ لتحقيق الحقِّ بنفيِ الألوهية عن كل ما عداه سبحانه. وإثباتُ المطلوب في ضمنه بالطريق البرهاني، فإن انتفاءَ المالكيةِ المستلزِمَ لاستحالة الألوهية متى ظهر بالنسبة إلى الكلِّ ظهر بالنسبة إلى المسيح على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه فيظهر استحالةُ ألوهيتِه قطعاً. وتعميمُ إرادةِ الإهلاك للكل، مع حصول ما ذُكر من التحقّق بقَصْرها عليه، بأن يقال: فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يُهلِك المسيح، لتهويل الخطب وإظهارِ كمالِ العجز ببيانِ أن الكلَّ تحت قهره تعالى وملَكوته، لا يقدِرُ أحدٌ على دفع ما أريد به فضلاً عن دفع ما أريد بغيره، وللإيذان بأن المسيحَ أُسوةٌ لسائر المخلوقات في كونه عُرْضةً للهلاك كما أنه أُسوة لها فيما ذُكر من العجز وعدم استحقاقِ الألوهية، وتخصيصُ أمِّه بالذكر مع اندراجها في ضمن مَنْ في الأرض لزيادة تأكيدِ عجْز المسيح، ولعل نَظْمَها في سِلْك من فَرضَ إرادةَ إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل ذلك لتأكيد التبكيت وزيادةِ تقريرِ مضمونِ الكلام، بجعل حالها أُنموذجاً لحال بقيةِ مَنْ فرَضَ إهلاكَه، كأنه قيل: قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يُهلكَ المسيح وأمَّه ومن في الأرض، وقد أهلك أمَّه فهل مانَعَه أحد، فكذا حال مَنْ عداها من الموجودين وقوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي ما بين قُطْرَي العالم الجسماني لا بين وجهِ الأرض ومُقعَّرِ فَلك القمر فقط، فيتناول ما في السموات من الملائكة عليهم السلام وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات، تنصيصٌ على كون الكلِّ تحت قهره تعالى وملكوته إثرَ الإشارة إلى كون البعض أي من في الأرض كذلك، أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرُّفُ المطلقُ فيها إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة لا لأحد سواه استقلالاً، ولا اشتراكاً فهو تحقيقٌ لاختصاص الألوهية به تعالى إثرَ بيان انتفائها عن كل ما سواه.
وقوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} جملةٌ مستأنفة مَسوقةٌ لبيان بعض أحكام المُلك والألوهية على وجه يُزيحُ ما اعتراهم من الشبهة في أمر المسيح لولادته من غير أب، وخَلْقِ الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، أي يخلق ما يشاء من أنواع الخلق والإيجاد على أن {ما} نكرة موصوفة محلها النصبُ على المصدرية، لا على المفعولية، كأنه قيل: يخلق أيَّ خلق يشاؤه فتارةً يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض، وأخرى من أصلٍ كخلق ما بينهما، فيُنشىء من أصلٍ ليس من جنسه كخلق آدمَ وكثيرٍ من الحيوانات، ومن أصلٍ يجانسه إما مِنْ ذكرٍ وحده كخلق حواءَ أو أنثى وحدها، كخلق عيسى عليه السلام، أو منهما كخلق سائر الناس، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات، وقد يخلُق بتوسط مخلوق آخرَ كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزةً له وإحياءِ الموتى وإبراءِ الأكمه والأبرص وغير ذلك فيجب أن يُنسَبَ كلُّه إليه تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} اعتراض تذييلي مقرِّرٌ لمضمون ما قبله، وإظهار الاسم الجليل للتعليل وتقويةِ استقلال الجملة.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}
{وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} حكايةٌ لِما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة وبيانٌ لبطلانها بعد ذكر ما صدر عن أحدهما وبيانِ بطلانه أي قالت اليهود: نحن أشياعُ ابنِه عُزَيْرٍ، وقالت النصارى: نحن أشياعُ ابنِه المسيحِ، كما قيل لأشياع أبي خُبيب وهو عبد اللَّه بن الزبير: الخُبيبيّون، وكما يقول أقاربُ الملوك عند المفاخرة: نحن الملوك، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن النبي عليه الصلاة والسلام دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوَّفهم بعقاب الله تعالى فقالوا: كيف تخوِّفُنا به ونحن أبناءُ الله وأحباؤُه؟ وقيل: إن النصارى يتلون في الإنجيل أَنَّ المسيح قال لهم: إني ذاهبٌ إلى أبي وأبيكم، وقيل: أرادوا أن الله تعالى كالأب لنا في الحُنُوِّ والعطف، ونحن كالأبناء له في القُرب والمنزلة، وبالجملة أنهم كانوا يدّعون أن لهم فضلاً ومَزيديةً عند الله تعالى على سائر الخلق، فردّ عليهم ذلك، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} إلزاماً لهم وتبكيتاً {فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أي إن صح ما زعمتم فلأيِّ شيءٍ يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ، وقد اعترفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة بالنار أياماً بعدد أيامِ عبادتِكم العجلَ، ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر، ولما وقع عليكم ما وقع، وقوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي لستم كذلك بل أنتم بشر {مّمَّنْ خَلَق} أي من جنس مَنْ خَلقه الله تعالى من غير مزيةٍ لكم عليهم {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أن يغفر له من أولئك المخلوقين، وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذبه منهم، وهم الذين كفروا به وبرسله مثلَكم {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات لا ينتمي إليه سبحانه شيء منها إلا بالملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته، يتصرّف فيهم كيف يشاء إيجاداً وإعداماً، إحياء وإماتة، وإثابة وتعذيباً، فأنى لهم ادعاءُ ما زعموا {وَإِلَيْهِ المصير} في الآخرة خاصة لا إلى غيره استقلالاً أو اشتراكاً فيجازي كلاًّ من المحسن والمسيء بما يستدعيه عملُه من غير صارف يَثْنيه ولا عاطفٍ يَلْويه.

.تفسير الآية رقم (19):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}
{يَا أَهْلِ الكتاب} تكريرٌ للخطاب بطريق الالتفات ولطفٌ في الدعوة {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ} حال من رسولنا، وإيثارُه على مبيِّناً لما مر فيما سبق، أي يبين لكم الشرائعَ والأحكامَ الدينية المقرونة بالوعد والوعيد، ومن جملتها ما بين في الآيات السابقة من بطلان أقاويلِكم الشنعاء، وما سيأتي من أخبار الأمم السالفة، وإنما حُذف تعويلاً على ظهور أن مجيءَ الرسول إنما هو لبيانها، أو يفعلُ لكم البيانَ، ويبذُله لكم في كل ما تحتاجون فيه إلى البيان من أمور الدين، وأما تقديرُ مثل ما سبق في قوله تعالى: {كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} كما قيل فمع كونه تكريراً من غير فائدة، يرده قوله عز وجل: {على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل} فإن فتورَ الإرسال وانقطاعَ الوحي إنما يُحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه و{على فترة} متعلق بـ {جاءكم} على الظرفية كما في قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان} أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي، ومزيدِ احتياج إلى بيان الشرائع والأحكام الدينية، أو بمحذوفٍ وقع حالاً من ضمير يبين، أو من ضمير لكم، أي يبين لكم ما ذُكر حال كونه على فترة من الرسل، أو حال كونكم عليها أحوجَ ما كنتم إلى البيان، و{من الرسل} متعلق بمحذوفٍ وقع صفةً لفترة، أي كائنةٍ من الرسل مبتدَأةٍ من جهتهم.
قوله تعالى: {أَن تَقُولُوا} تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف أي كراهةَ أن تقولوا معتذرين عن تفريطكم في مراعاة أحكام الدين {مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} وقد انطمست آثارُ الشرائع السابقة، وانقطعت أخبارُها، وزيادة {مِنْ} في الفاعل للمبالغة في نفي المجيء، وتنكير بشير ونذير للتقليل، وهذا كما ترى يقتضي أن المقدر أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت، بل مشفوعة بما ذكر من الوعد والوعيد، وقوله تعالى: {فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} متعلق بمحذوف ينبىء عنه الفاء الفصيحة وتُبيِّنُ أنه مُعلَّل به، وتنوينُ {بشيرٌ ونذيرٌ} للتفخيم أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم بشير أيُّ بشيرٍ ونذير أيُّ نذير {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِرُ على الإرسال تترى كما فعله بين موسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بينهما ألفٌ وسبعُمائة سنة وألفُ نبيَ وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، حيث كان بينهما ستُمائة سنةٍ أو خمسُمائةٍ وتسعٌ وستون سنةً أو خمسُمائةٍ وستٌ وأربعون سنةً وأربعةُ أنبياءَ على ما روى الكلبيّ ثلاثةٌ من بني إسرائيلَ وواحدٌ من العرب خالد بن سنان العبسي، وقيل: لم يكن بعد عيسى عليه السلام إلا رسولُ الله عليه السلام وهو الأنسبُ بما في تنوين {فترةٍ} من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بُعث إليهم عند كمالِ حاجتهم إليه بسبب مضيِّ زمانٍ طويل بعد انقطاعِ الوحي ليهشّوا إليه ويعُدّوه أعظمَ نعمةٍ من الله تعالى، وفتحَ بابٍ إلى الرحمة، وتلزَمُهم الحجةُ فلا يَعتلُّوا غداً بأنه لم يُرسَلْ إليهم من يُنبِّههم من غفلتهم.