فصل: تفسير الآية رقم (22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (22):

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً} وهو في محل النصب على أنه صفة ثانيةٌ لربكم، موضحة أو مادحة، أو على تقدير أخُص أو أمدَح، أو في محل الرفع على المدح والتعظيم بتقدير المبتدأ، قال ابن مالك: التُزم حذفُ الفعل في المنصوب على المدح إشعاراً بأنه إنشاء كما في المنادى، وحُذف المبتدأ في المرفوع إجراءً للوجهين على سَننٍ واحد، وأما كونُه مبتدأً خبرُه فلا تجعلوا كما قيل، فيستدعي أن يكونَ مناطُ النهي ما في حين الصلة فقط من غير أن يكون لما سلف من خلقهم وخلقِ مَنْ قبلهم مدخلٌ في ذلك مع كونه أعظمَ شأناً، وجعل بمعنى صيّر، والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل: هي بمعنى خلق، وانتصابُ الثاني على الحالية والظرفُ متعلقٌ به على التقديرين، وتقديمُه على المفعول الصريح لتعجيل المسَرَّة ببيان كون ما يعقُبه من منافع المخاطبين، وللتشويق إليه، لأن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لاسيما عند الإشعار بمنفعته تبقى مترقبةً له، فيتمكن لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكن، أو لما في المؤخَّر وما عطف عليه من نوع طول. فلو قدُم لفات تجاوبُ أطرافِ النظم الكريم، ومعنى جعلها فراشاً جعل بعضَها بارزاً من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوبَ، وجعلها متوسطةً بين الصلابة واللين صالحةً للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش، وليس من ضرورة ذلك كونُها سطحاً حقيقياً، فإن كرويةَ شكلِها مع عظم جِرْمها مصححٌ لافتراشها، وقرئ {بساطاً} و{مِهاداً}.
{والسماء بِنَاء} عطفٌ على المفعولين السابقين، وتقديمُ حالِ الأرض لما أن احتياجَهم إليها وانتفاعَهم بها أكثرُ وأظهر، أي جعلها قُبة مضروبةً عليكم، والسماءُ اسم جنسٍ يُطلق على الواحد والمتعدد، أو جمع سماوة أو سماءة، والبناءُ في الأصل مصدرٌ سُمِّي به المبنيُّ بيتاً كان أو قُبةً أو خِباءً، ومنه قولُهم: بنى على امرأته لما أنهم كانوا إذا تزوجوا امرأةً ضربوا عليها خِباءً جديداً.
{وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} عطفٌ على جعل أي أنزل من جهتها، أو منها إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض، كما رُوي ذلك عنه عليه الصلاة والسلام أو المرادُ بالسماء جهةُ العلو كما ينبىء عنه الإظهارُ في موضع الإضمار، وهو على الأولين لزيادة التقرير، و{من} لابتداء الغايةِ متعلقةٌ بأنزل أو بمحذوفٍ وقع حالاً من المفعول أي كائناً من السماء، قُدِّم عليه لكونه نكرةً، وأما تقديمُ الظرفِ على الوجه الأول مع أن حقه التأخيرُ عن المفعول الصريح فإما لأن السماءَ أصلُه ومبدؤه، وإما لما مر من التشويق إليه مع ما فيه من مزيد انتظامٍ بينه وبين قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ} أي بسبب الماء {مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ}.
وذلك بأن أوْدَعَ في الماء قوةً فاعلة وفي الأرض قوةً منفعلة، فتولَّد من تفاعُلِهما أصنافُ الثمار، أو بأن أجرى عادتَه بإفاضة صورِ الثمار وكيفيتها المخالفة على المادة الممتزجة منها وإن كان المؤثرَ في الحقيقة قدرتُه تعالى ومشيئتُه، فإنه تعالى قادر على أن يوجِدَ جميعَ الأشياء بلا مباد وموادَّ كما أبدع نفوسَ المبادئ والأسباب، لكن له عز وجل في إنشائها متقلبةً في الأحوال، ومتبدلةً في الأطوار من بدائعَ حِكَمٌ باهرةٌ تُجَدِّدُ لأولي الأبصار عِبراً ومزيدَ طُمَأنينة إلى عظيم قدرتِه ولطيفِ حكمتِه ما ليس في إبداعها بغتة، و{من} للتبعيض لقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} ولوقوعها بين مُنكَّرين، أعني ماءً ورزقاً كأنه قيل: وأنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم، وهكذا الواقعُ إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء، ولا أخرج من الأرض كل الثمرات، ولا جعل كلَّ المرزوق ثماراً، أو للتبيين، ورزقاً مفعول بمعنى المرزوق، ومن الثمرات بيانٌ له، أو حال منه كقولك: أنفقت من الدراهم ألفاً، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولاً ورزقاً حالاً منه أو مصدراً من أخرج، لأنه بمعنى رزق.
وإنما شاع ورودُ الثمرات دون الثمار مع أن الموضع موضعُ كثرة لأنه أريد بالثمرات جماعة الثمرة في قولك: أدركتْ ثمرةُ بستانه، ويؤيده القراءة على التوحيد، أو لأن الجموعَ يقعُ بعضها موقعَ بعض، كقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ} وقوله تعالى: {ثلاثة قُرُوء} أو لأنها مُحلاة باللام خارجةٌ عن حد القِلة، واللامُ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لرزقا على تقدير كونه بمعنى المرزوق، أي رزقاً كائناً لكم، أو دِعامةً لتقوية عمل رزقاً على تقدير كونِه مصدراً، كأنه قيل: رزقاً إياكم.
{فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} إما متعلقٌ بالأمر السابق مترتِّبٌ عليه، كأنه قيل: إذا أمرتم بعبادة مَنْ هذا شأنه من التفرد بهذه النعوت الجليلة والأفعال الجميلة فلا تجعلوا له شريكاً، وإنما قيل: أنداداً باعتبار الواقع، لا لأن مدارَ النهي هو الجمعية، وقرئ {نِدّا}، وإيقاعُ الاسم الجليل موقعَ الضمير لتعيين المعبودِ بالذاتِ إثرَ تعيينه بالصفات، وتعيينِ الحُكمِ بوصف الألوهية التي عليها يدور أمرُ الوحدانية واستحالةُ الشِّرْكة، والإيذانِ باستتباعها لسائر الصفات، وإما معطوفٌ عليه كما في قوله تعالى: {اعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} والفاء للإشعار بعِلّية ما قبلها من الصفات المُجراة عليه تعالى للنهي أو الانتهاء أو لأن مآلَ النهْي هو الأمرُ بتخصيص العبادة به تعالى، المترتبُ على أصلها، كأنه قيل: اعبدوه فخُصُّوها به، والإظهارُ في موضع الإضمار لما مر آنفاً، وقيل: هو نفيٌ منصوبٌ بإضمار أن جواباً للأمر، ويأباه أن ذلك فيما يكون الأول سبباً للثاني. ولا ريب في أن العبادة لا تكون سبباً للتوحيد، الذي هو أصلُها ومبناها.
وقيل: هو منصوبٌ بلعل نصبَ {فَأَطَّلِعَ} في قوله تعالى: {لَّعَلّى أَبْلُغُ الاسباب * أسباب السموات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى}
أي خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تُشْبِهوه بخلقه، وحيث كان مدارُ هذا النصب تشبيهَ لعل في بُعْد المرجوِّ بليت كان فيه تنبيهٌ على تقصيرهم بجعلهم المرجوِّ القريبَ بمنزلة المتمنى البعيد، وقيل: هو متعلِّق بقوله تعالى: {الذى جَعَلَ} الخ، على تقدير رفعِه على المدح، أي هو الذي خصّكم بهذه الآياتِ العظامِ والدلائل النيِّرة، فلا تتخذوا له شركاءَ، وفيه ما مر من لزوم كون خلقهم وخلقِ أسلافِهم بمعزل من مناطية النهي مع عراقتهما فيها. وقيل: هو خبرٌ للموصول بتأويل مَقولٍ في حقه، وقد عرفت ما فيه مع لزوم المصير إلى مذهب الأخفش في تنزيل الاسم الظاهرِ منزلةَ الضمير كما في قولك: زيدٌ قام أبو عبد الله إذا كان ذلك كنيتَه.
والند المثل المساوي من ندّ ندُوداً إذا نفر، ونادَدْتُه خالفته، خُص بالمخالف المماثل بالذات كما خص المساوي بالمماثل في المقدار، وتسميةَ ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله تعالى في صفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لما أنهم لما تركوا عبادته تعالى إلى عبادتها، وسمَّوْها آلهةً شابهتْ حالُهم حالَ من يعتقد أنها ذواتٌ واجبةُ بالذات، قادرة على أن تدفع عنهم بأسَ الله عز وجل، وتمنحهم ما لم يُرد الله تعالى بهم من خير، فتهكّمٌ بهم، وشُنِّع عليهم أن جعلوا أنداداً لمن يستحيل أن يكون له ندٌّ واحد وفي ذلك قال موحِّد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل:
أربّاً واحداً أم ألفَ رب ** أدينُ إذا تقسَّمت الأمورُ

تركتُ اللاتَ والعزّى جميعا ** كذلك يفعل الرجلُ البصير

وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} حال من ضمير لا تجعلوا بصرف التقييد إلى ما أفاده النهي من قُبح المنهي عنه ووجوبِ الاجتنابِ عنه، ومفعول تعلمون مطروحٌ بالكلية كأنه قيل: لا تجعلوا ذلك فإنه قبيحٌ واجبُ الاجتناب عنه، والحال أنكم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمورِ وإصابة الرأي، أو مقدرٌ حسبما يقتضيه المقام، نحو وأنتم تعلمون بطلان ذلك، أو تعلمون أنه لا يماثله شيء، أو تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت، أو تعلمون أنها لا تفعل مثلَ أفعاله كما في قوله تعالى: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء} أو غير ذلك.
وحاصلُه تنشيطُ المخاطبين وحثُّهم على الانتهاء عما نُهوا عنه، هذا هو الذي يستدعيه عمومُ الخطاب في النهي بجعل المنهي عنه القدرَ المشتركَ المنتظِمَ لإنشاء الانتهاءِ كما هو المطلوبُ من الكفرة، وللثبات عليه كما هو شأنُ المؤمنين حسبما مر مثلُه في الأمر، وأما صرفُ التقييد إلى نفس النهي فيستدعي تخصيصَ الخطاب بالكفرة لا محالة إذ لا يتسنى ذلك بطريق قصرِ النهي على حالة العلمِ ضرورةَ شمولِ التكليفِ للعالم والجاهلِ المتمكنِ من العلم بل إنما يتأتى بطريق المبالغة في التوبيخ والتقريع، بناءً على أن تعاطيَ القبائحِ من العالمِين بقُبحها أقبحُ وذلك إنما يُتصور في حق الكفرة، فمَنْ صرَفَ التقييدَ إلى نفس النهي مع تعميم الخطاب للمؤمنين أيضاً فقد نأى عن التحقيق.
إن قلت: أليس في تخصيصه بالكفرة في الأمر والنهي خلاصٌ من أمثال ما مر من التكلفات وحسنُ انتظامٍ بين السباقِ والسياق، إذ لا محيدَ في آية التحدي من تجريد الخطابِ، وتخصيصُه بالكفرة لا محالة مع ما فيه من رِباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة حسبما مر في صدر السورة الكريمة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي؟ قلت: بلى إنه وجهٌ سَرِيٌّ، ونهج سوي، لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَّت قدمَه عليه، فتأمل.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} شروعٌ في تحقيق أن الكتابَ الكريم الذي من جُملته ما تلي من الآيتين الكريمتين، الناطقتين بوجوب العبادةِ والتوحيدِ منزلٌ من عند الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن ما ذكر فيهما من الآيات التكوينيةِ الدالةِ على ذلك صادرة عنه تعالى لتوضيح اتصافِه بما ذكر في مطلَعِ السورةِ الشريفة من النعوتِ الجليّةِ التي من جملتها نزاهتُه عن أن يعتريَه ريبٌ ما، والتعبيرُ عن اعتقادهم في حقه بالريب مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر كما يُعرب عنه قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين} إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدورُه عنهم وإن كانوا في غاية ما يكونُ من المكابرة والعِناد هو الارتيابُ في شأنه، وأما الجزمُ المذكورُ فخارجٌ من دائرة الاحتمال، كما أن تنكيرَه وتصديرَه بكلمة الشكِّ للإشعار بأن حقَّه أن يكون ضعيفاً مشكوكَ الوقوع، وإما للتنبيه على أن جزمَهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمالِ وضوحِ دلائلِ الإعجازِ ونهايةِ قوتِها.
وإنما لم يقل وإن ارتبتم فيما نزلنا الخ، لما أشير إليه فيما سَلَف من المبالغة في تنزيه ساحةِ التنزيلِ عن شائبة وقوعِ الريب فيه حسْبما نطَق به قولُه تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} والإشعار بأن ذلك إنْ وقع فمن جهتهم لا من جهته العاليةِ، واعتبارُ استقرارِهم فيه وإحاطتُه بهم لا ينافي اعتبارَ ضعفِه وقِلته، لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوامُ ملابستهم به لا قوتُه وكثرتُه، ومِن في مما ابتدائيةٌ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لريب، وحملُها على السببية ربما يوهمُ كونَه محلاً للريب في الجملة وحاشاه من ذلك، وما موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن الكتاب الكريم لا عن القدر المشتركِ بينه وبين أبعاضِه، وليس معنى كونِهم في ريب منه ارتيابَهم في استقامة معانيه، وصحةِ أحكامِه، بل في نفس كونِه وحياً منزلاً من عند الله عز وجل، وإيثارُ التنزيلِ المنبىءِ عن التدريج على مطلقِ الإنزالِ لتذكيرِ منشأ ارتيابِهم، وبناءُ التحدي عليه إرخاءٌ للعِنان وتوسيعاً للميدان، فإنهم كانوا اتخذوا نزولَه منجّماً وسيلةً إلى إنكاره، فجُعل ذلك من مبادي الاعتراف به، كأنه قيل: إن ارتبتم في شأن ما نزلناه على مهل وتدريجٍ فهاتوا أنتم مثلَ نَوْبةٍ فذةٍ من نُوَبه، ونَجْم فَرْدٍ من نجومه، فإنه أيسرُ عليكم من أن يُنزلَ جُملةً واحدة، ويُتحدَّى بالكل.
وهذا كما ترى غايةُ ما يكون في التبكيت وإزاحةِ العلل، وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضميرِ الجلالة من التشريفِ والتنويه والتنبيهِ على اختصاصه به عز وجل وانقيادِه لأوامره تعالى ما لا يخفى. وقرئ {على عبادنا} والمرادُ هو صلى الله عليه وسلم وأمتُه، أو جميعُ الأنبياءِ عليهم السلام، ففيه إيذانٌ بأن الارتيابَ فيه ارتيابٌ فيما أنزل على مَنْ قبلَه لكونه مصدِّقاً له ومهيمِناً عليه.
والأمرُ في قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} من باب التعجيز وإلقامِ الحجر، كما في قوله تعالى: {فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} والفاءُ للجواب، وسببيةُ الارتياب للأمر أو الإتيانِ بالمأمور به لما أشير إليه من أنه عبارةٌ عن جزمهم المذكور، فإنه سببٌ للأول مطلقاً، وللثاني على تقدير الصدقِ، كأنه قيل: إن كان الأمرُ كما زعمتم من كونه كلامَ البشر فأتوا بمثله، لأنكم تقدِرون على ما يقدِر عليه سائرُ بني نوعِكم. والسُورة الطائفةَ من القرآن العظيم المترجمة، وأقلها ثلاثُ آيات. وواوُها أصليةٌ منقولةٌ من سُور البلد، لأنها محيطةٌ بطائفةٍ من القرآن مفرَزةٍ مَحُوزةٍ على حِيالها، أو محتويةٍ على فنون رائقةٍ من العلوم احتواءَ سورِ المدينة على ما فيها، أو من السَّوْرة التي هي الرتبة، قال:
ولرهط حرّابٍ وقذّ سَوْرة ** في المجد ليس غرابُها بمُطارِ

فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رُتباً من حيث الفضلُ والشرفُ أو من حيث الطولُ والقِصَر، فهي من حيث انتظامُها مع أخواتها في المصحف مراتبُ يرتقي إليها القارىء شيئاً فشيئاً. وقيل: واوها مُبدلةٌ من الهمزة، فمعناها البقيةُ من الشيء، ولا يخفى ما فيه. ومن في قوله تعالى: {مّن مّثْلِهِ} بيانيةٌ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لسورة، والضمير لما نزلنا، أي بسورة كائنةٍ من مثله في علو الرتبة وسموِّ الطبقة، والنظمِ الرائق والبيانِ البديع، وحيازةِ سائرِ نعوتِ الإعجاز، وجعلُها تبعيضيةً يوهم أن له مثلاً محققاً قد أريد تعجيزُهم عن الإتيان ببعضه، كأنه قيل: فأتوا ببعضِ ما هو مثلٌ له فلا يُفهم منه كونُ المماثلة من تتمة المعجوز عنه فضلاً عن كونها مداراً للعجز مع أنه المراد، وبناءُ الأمر على المجاراة معهم بحسب حُسبانِهم حيث كانوا يقولون: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} أو على التهكم بهم يأباه ما سبق من تنزيله منزلةَ الريب، فإن مبنى التهكم على تسليم ذلك منهم وتسويفِه ولو بغير جِدّ، وقيل: هي زائدة كما هو رأيُ الأخفش، بدليل قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ}، {بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} وقيل: هي ابتدائية، فالضميرُ حينئذ للمُنْزل عليه حتماً، لما أن رجوعَه إلى المنزَلِ يوهم أن له مثلاً محققاً قد ورد الأمرُ التعجيزيُّ بالإتيان بشيء منه، وقد عرفت ما فيه بخلاف رجوعِه إلى المنزل عليه، فإن تحققَ مثلِه عليه السلام في البشرية والعربية والأمية يهوِّن الخطب في الجملة، خلا أن تخصيصَ التحدي بفردٍ يشاركُه عليه السلام فيما ذكرَ من الصفات المنافية للإتيان بالمأمور به لا يدلُّ على عجز مَنْ ليس كذلك من علمائهم، بل ربما يوهم قدرتَهم على ذلك في الجملة فرادى أو مجتمعين، مع أنه يستدعي عراءَ المُنْزَل عما فُصِّل من النعوت الموجبةِ لاستحالة وجود مثلِه، فأين هذا من تحدي أمةٍ جمّةٍ وأمرِهم بأن يحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورَجِلِهم حسبما ينطِق به قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله} ويتعاونوا على الإتيان بقدْر يسيرٍ مماثلٍ في صفات الكمال لما أتى بجملته واحدٌ من أبناء جنسهم.
والشهداءُ جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو الناصر، ومعنى {دون} أدنى مكانٍ من شيء، يقال: هذا دون ذاك إذا كان أحطَّ منه قليلاً، ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتبِ فقيل: زيد دون عمرو، أي في الفضل والرتبة، ثم اتَّسع فاستُعمل في كل تجاوز حدَ إلى حد وتخطِّي حُكم إلى حكم من غير ملاحظةِ انحطاطِ أحدهما عن الآخر، فجرى مَجرى أداةِ الاستثناء، وكلمة {من} إما متعلقةٌ بادعوا فتكونُ لابتداءِ الغاية، والظرفُ مستقرٌّ والمعنى ادعوا متجاوزين الله تعالى لاستظهار من حضَركم كائناً من كان، أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضرِكم من رؤسائكم وأشرافِكم الذين تَفْزَعون إليهم في المُلمّات، وتعوِّلون عليهم في المُهِمّات، أو القائمين بشهاداتكم الجاريةِ فيما بينكم من أمنائكم المتولّين لاستخلاص الحقوقِ بتنفيذ القولِ عند الولاة، أو القائمين بنُصرتكم حقيقةً أو زعماً من الإنس والجن ليعينوكم.
وإخراجُه سبحانه وتعالى من حُكم الدعاء في الأول مع اندراجه في الحضورِ لتأكيد تناولِه لجميع ما عداه، لا لبيان استبدادِه تعالى بالقدرة على ما كُلِّفوه، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دَعَوْه تعالى لأجابهم إليه وأما في سائر الوجوه فللتصريح من أول الأمرِ ببراءتهم منه تعالى وكونِهم في عُدْوة المحادّة والمشاقّة له قاصدين استظهارَهم على ما سواه والالتفاتُ لإدخال الرَّوْعة وتربية المهابة وقيل: المعنى ادعوا من دون أولياءِ الله شهداءَكم الذين هم وجوهُ الناس وفرسانُ المقاولةِ والمناقلةِ ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثلُه، إيذاناً بأنهم يأبَوْن أن يرضَوْا لأنفسهم الشهادةَ بصحة ما هو بيِّنُ الفسادِ وجَليُّ الاستحالة. وفيه أنه يؤذِنُ بعدم شمولِ التحدي لأولئك الرؤساءِ، وقيل: المعنى ادعوا شهداءكم فصححوا بهم دعواكم ولا تستشهدوا بالله تعالى قائلين: الله يشهد أن ما ندعيه حقٌ، فإن ذلك دَيدَنُ المحجوج وفيه أنه إن أريد بما يدّعون حقِّية ما هم عليه من الدين الباطلِ فلا مِساسَ له بمقام التحدي، وإن أريد مثلية ما أتَوْا به للمتحدى به فمعَ عدمِ ملاءمتِه لابتداء التحدي يوهم أنهم قد تصَدَّوا للمعارضة وأتَوْا بشيءٍ مشتبهِ الحال متردِّدين بين المِثلية وعدمِها، وأنهم ادَّعَوْها مستشهدين في ذلك بالله سبحانه، إذ عند ذلك تمَسُّ الحاجةُ إلى الأمر بالاستشهاد بالناس والنهي عن الاستشهاد به تعالى، وأنى لهم ذلك، وما نبَضَ لهم عِرقٌ ولا نَبَسوا ببنتِ شَفَةٍ.
وإما متعلقةٌ بـ {شهداءَكم} والمراد بهم الأصنامُ، ودون بمعنى التجاوزِ على أنها ظرفٌ مستقِرٌ وقع حالاً من ضمير المخاطَبين، والعاملُ ما دل عليه {شهداءكم} أي ادعوا أصنامَكم الذين اتخذتموهم آلهةً متجاوزين الله تعالى في اتخاذها كذلك، وكلمةُ {مِن} ابتدائية فإن الاتخاذَ ابتداءٌ من التجاوز، والتعبيرُ عن الأصنام بالشهداء لتعيين مدارِ الاستظهارِ بها بتذكير ما زعَموا من أنها بمكانٍ من الله تعالى وأنها تنفعُهم بشهادتها لهم أنهم على الحق، فإن ما هذا شأنُه يجب أن يكون مَلاذاً لهم في كل أمرٍ مُهم، وملجأً يأوُون إليه في كل خطب مُلم، كأنه قيل: أولئك عُدّتُكم فادعوهم لهذه الداهية التي دَهَمتكم، فوجهُ الالتفاتِ الإيذانُ بكمال سخافةِ عقولِهم حيث آثرَوُا على عبادة من له الألوهيةُ الجامعةُ لجميع صفاتِ الكمال عبادةَ ما لا أحقرَ منه.
وقيل: لفظةُ دون مستعارةٌ من معناها الوضعي الذي هو أدنى مكانٍ من شيء لِقُدّامِه، كما في قول الأعشى:
تُريك القَذى من دونها وهي دونَهُ

أي تريك القذى قُدّامها وهي قُدّامَ القذى، فتكون ظرفاً لغوياً معمولاً لشهداءكم لكفاية رائحةِ الفعل فيه، من غير حاجة إلى اعتماد ولا إلى تقدير يشهدون، أي ادعوا شهداءَكم الذين يشهدون لكم بين يدَي الله تعالى ليعينوكم في المعارضة، وإيرادُها بهذا العنوان لما مر من الإشعار بمناطِ الاستعانةِ بها، ووجهُ الالتفات تربيةُ المهابة وترشيحُ ذلك المعنى، فإن ما يقوم بهذا الأمر في ذلك المقام الخطيرِ حقُه أن يُستعان به في كل مَرام، وفي أمرِهم على الوجهين بأن يستظهروا في معارضة القرآن الذي أخرسَ كلَّ مِنْطيقٍ بالجماد من التهكم بهم ما لا يوصف، وكلمة من هاهنا تبعيضية، لما أنهم يقولون جلس بين يديه وخلفَه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ومن بينِ يديه ومن خلفِه لأن الفعل إنما يقع في بعض تَيْنِك الجهتين كما تقول: جئتُه من الليل تريد بعضَ الليل.
وقد يقال كلمةُ {من} الداخلةُ على {دون} في جميع المواقعِ بمعنى في كما في سائر الظروف التي لا تنصرف، وتكون منصوبةً على الظرفية أبداً، ولا تنجرُّ إلا بمن خاصة، وقيل: المرادُ بالشهداء مدارِهُ القومِ ووجوهُ المحافل والمحاضِر، ودون ظرفٌ مستقر ومن ابتدائية أي ادعوا الذين يشهدون لكم أن ما أتيتم به مثلُه متجاوزين في ذلك أولياءَ الله، ومحصله شهداء مغايرين لهم إيذاناً بأنهم أيضاً لا يشهدون بذلك، وإنما قُدر المضافُ إلى الله تعالى رعايةً للمقابلة، فإن أولياءَ الله تعالى يقابِلون أولياءَ الأصنام، كما أن ذكرَ الله تعالى يقابل ذكرَ الأصنام، والمقصودُ بهذا الأمر إرخاءُ العِنان والاستدراجُ إلى غاية التبكيت، كأنه قيل: تركنا إلزامَكم بشهداءَ لا ميلَ لهم إلى أحدِ الجانبين كما هو المعتاد، واكتفينا بشهدائكم المعروفين بالذب عنكم، فإنهم أيضاً لا يشهدون لكم حذراً من اللائمة وأَنَفةً من الشهادة البيِّنة البُطلان.
كيف لا وأمرُ الإعجاز قد بلَغ من الظهورِ إلى حيث لم يبقَ إلى إنكاره سبيلٌ قطعاً، وفيه ما مرَّ من عدم الملاءمةِ لابتداء التحدّي وعدمِ تناولِه لأولئك الشهداء، وإيهامِ أنهم تعرّضوا للمعارضة وأتَوْا بشيء احتاجوا في إثبات مِثْلِيَّتِه للمتحدى به إلى الشهادة، وشتانَ بينهم وبين ذلك {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في زعمِكم أنه من كلامه عليه السلام.
وهو شرطٌ حذفَ جوابُه لدلالة ما سبق عليه، أي إن كنتم صادقين فأتوا بسورة من مثله الخ، واستلزامُ المقدَّم للتالي من حيث إن صدقَهم في ذلك الزَّعم يستدعي قدرتَهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتِهم له عليه السلام في البشرية والعربية، مع ما بهم من طول الممارسة للخُطب والأشعارِ وكثرة المزاولةِ لأساليبِ النظمِ والنثر، والمبالغةِ في حفظ الوقائع والأيام، لاسيما عند المظاهرة والتعاونِ، ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيانِ به ودواعي الأمرِ به.