فصل: تفسير الآيات (57- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (57- 59):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} رُوي أن رُفاعةَ بنَ زيد وسويدَ بنَ الحارث، أظهرا الإسلامَ ثم نافقا، وكان رجالٌ من المؤمنين يُوادُّونهما فنُهوا عن موالاتهما، ورُتِّب النهيُ على وصف يعمُّهما وغيرَهما تعميماً للحكم وتنبيهاً على العلة وإيذاناً بأن مَنْ هذا شأنُه جديرٌ بالمعاداة فكيف بالموالاة؟ {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} بيان للمستهزئين، والتعرّضُ لعنوان إيتاءِ الكتاب لبيان كمال شناعتِهم وغايةِ ضلالتهم، لِما أنَّ إيتاءَ الكتاب وازعٌ لهم عن الاستهزاء بالدين المؤسَّسِ على الكتابِ المصدِّقِ لكتابهم {والكفار} أي المشركين خُصّوا به لتضاعُفِ كفرهم، وهو عطف على الموصول الأول ففيه إشعارٌ بأنهم ليسوا بمستهزئين كما يُنبىءُ عنه تخصيصُ الخطاب بأهل الكتاب في قوله تعالى: {ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} الآية، وقرئ بالجر عطفاً على الموصول الأخير ويعضُده قراءةُ أُبيَ {وَمِنْ الكفار} وقراءةُ عبدِ اللَّه {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} فهم أيضاً من جملة المستهزئين {أَوْلِيَاء} وجانبوهم كلَّ المجانبة.
{واتقوا الله} في ذلك بترك موالاتهم أو بترك المَناهي على الإطلاق فيدخل فيه تركُ موالاتِهم دخولاً أولياً {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي حقاً، فإن قضيةَ الإيمان توجب الاتقاءَ لا محالة {وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها} أي الصلاةَ أو المناداةَ، ففيه دلالة على شرعية الأذان {هُزُواً وَلَعِباً} بيان لاستهزائهم بالدين على الإطلاق إظهاراً لكمال شقاوتهم. رُوي أن نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، يقول: أحرق الله الكاذب، فدخل خادمُه ذاتَ ليلة بنار وأهلُه نيامٌ فتطايرَتْ منه شرارةٌ في البيت فأحرقَتْه وأهلَه جميعاً {ذلك} أي الاستهزاء المذكور {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} فإن السَّفَه يؤدِّي إلى الجهل بمحاسِنِ الحق والهُزُؤ به، ولو كان لهم عقلٌ في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة {قُلْ} أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب بعد نهْيِ المؤمنين عن تولِّي المستهزئين بأن يخاطِبَهم ويبيِّنَ أن الدين منزه عما يصحِّحُ صدورَ ما صدر عنهم من الاستهزاء، ويُظهرَ لهم سببَ ما ارتكبوه ويُلْقِمَهم الحجرَ، أي قل لأولئك الفجرة {يَا أَهْلِ الكتاب} وُصفوا بأهلية الكتاب تمهيداً لما سيأتي من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} من نقَم منه كذا إذا عابه وأنكره وكرهه، ينقِمه من حدِّ ضرب، وقرئ بفتح القاف من حد علِمَ وهي أيضاً لغة، أي ما تَعيبون وما تُنكرون منا {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن المجيد {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل المنزَّلَيْن عليكم وسائرِ الكتبِ الإلهية {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون} أي متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم بما يصدِّقُه لا محالة وهو عطف على {أن آمنا} على أنه مفعول له لتنقمون، والمفعول الذي هو الدينُ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما قبله وما بعده عليه دلالةً واضحة، فإن اتخاذ الدين هزواً ولعباً عينُ نِقَمِه وإنكارِه، والإيمانُ بما فُصِّل عينُ الدين الذي نقَموه خلا أنه أبرَزَ في معرِض علةِ نقمِهم له تسجيلاً عليهم بكمال المكابرةِ والتعكيس حيث جعلوه موجِباً لنقمه مع كونه في نفسه موجباً لقَبوله وارتضائه، فالاستثناءُ من أعم العلل أي ما تنقِمون منا دينَنا لعلةٍ من العلل إلا لأنا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أُنزل من قبلُ من كتُبكم، ولأن أكثركم متمردون غيرُ مؤمنين بواحدٍ مما ذُكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطقِ بصحة كتابِنا لآمنتم به، وإسنادُ الفسق إلى أكثرِهم لأنهم الحاملون لأعقابهم على التمرُّد والعناد، وقيل: عطفٌ عليه على أنه مفعول لتنقمون منا، لكن لا على أن المستثنى مجموعُ المعطوفَيْن بل هو ما يلزَمهما من المخالفة كأنه قيل: ما تنقمون منا إلا مخالفتَكم حيث دخلنا الإيمانَ وأنتم خارجون عنه، وقيل: على حذف المضافِ، أي واعتقادَ أن أكثركم فاسقون، وقيل: عطف على {ما} أي ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وبأنكم فاسقون، وقيل: عطفٌ على علة محذوفةٍ أي لقلة إنصافِكم ولأن أكثركم فاسقون، وقيل: الواو بمعنى مع أي ما تنقِمون منا إلا الإيمانَ مع أن أكثركم الخ، وقيل: هو مرفوعٌ على الابتداء والخبر محذوفٌ أي وفِسقُكم معلوم أي ثابت، والجملة حالية أو معترضة، وقرئ بإِن المكسورةِ والجملةُ مستأنَفة مبيّنةٌ لكون أكثرهم فاسقين متمرِّدين.

.تفسير الآية رقم (60):

{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}
{قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك} لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم ببيان أن مدارَ نقمِهم للدين إنما هو اشتمالُه على ما يوجب ارتضاءَه عندهم أيضاً وكفرُهم بما هو مُسلَّم لهم. أُمر عليه الصلاة والسلام عَقيبَه بأن يُبكتَهم ببيان أن الحقيقَ بالنقم والعيبَ حقيقةً ما هم عليه من الدين المحرَّف وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتِهم وما حاق بهم من تبِعاتها وعقوباتِها على منهاج التعريض لئلا يحمِلَهم التصريحُ بذلك على ركوب متن المكابرةِ والعنادِ، ويخاطِبَهم قبل البيانِ بما يُنبىء عن عِظَم شأن المبيَّنِ، ويستدعي إقبالَهم على تلقّيه من الجملة الاستفهامية المُشَوِّقة إلى المخبِر به والتنبئةِ المُشعرة بكونه أمراً خطيراً لما أن النبأ هو الخبرُ الذي له شأنٌ وخطَرٌ، وحيث كان مناطُ النقم شَرِّيَّةَ المنقوم حقيقةً أو اعتقاداً وكان مجردُ النقم غيرَ مفيد لشَرِّيته البتّةَ، قيل: {بشرَ} من ذلك ولم يقُل: بأنقَمَ من ذلك تحقيقاً لشَرِّية ما سيُذكر وزيادةَ تقرير لها، وقيل: إنما قيل ذلك لوقوعه في عبارة المخاطَبين حيث أتى نفرٌ من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة والسلام: «أُومنُ بالله وما أنزل إلينا» إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا: لا نعلم شراً من دينكم، وإنما اعتَبَر الشَّرِّيةَ بالنسبة إلى الدين وهو منزَّه عن شائبةِ الشرّية بالكلية مجاراةً معهم على زعمهم الباطِلِ المنعقدِ على كمال شريتِه ليثبِتَ أن دينهم شرٌ من كل شر، أي هل أخبركم بما هو شرٌّ في الحقيقة مما تعتقدونه شراً، وإن كان في نفسه خيراً محضاً {مَثُوبَةً عِندَ الله} أي جزاءً ثابتاً في حكمه، وقرئ {مثوبةً} وهي لغة فيها كمشورة ومشورة وهي مختصةٌ بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر، وإنما وضعت هاهنا موضعها على طريقة قوله:
تحيةُ بينِهم ضَرْبٌ وجيعُ

ونصبُها على التمييز من {بشرّ} وقوله عز وجل: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} خبر لمبتدأ محذوفٍ بتقدير مضافٍ قبله مناسبٍ لما أشير إليه بكلمة ذلك أي: دينُ مَنْ لعنه الخ، أو بتقدير مضافٍ قبلها مناسبٍ لمن، أي بشرّ مِنْ أهل ذلك، والجملة على التقديرين استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من الجملة الاستفهامية إما على حالها وهو الظاهرُ المناسب لسياق النظم الكريم، وإما باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل: ما الذي هو شرٌّ من ذلك؟ فقيل: هو دينُ مَنْ لعنه الله الخ، أو قيل في السؤال: من ذا الذي هو شرٌّ من أهل ذلك؟ فقيل: هو مَنْ لعنه الله، ووضع الاسمِ الجليلِ موضع الضمير لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة وتهويلِ أمر اللعن وما تبعه، والموصولُ عبارةٌ عن المخاطبين حيث أبعدهم الله تعالى من رحمته وسخِط عليهم بكفرهم وانْهماكِهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسُنوحِ البينات.
{وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} أي مسخ بعضَهم قردةً وهم أصحابُ السبْت وبعضَهم خنازيرَ وهم كفار مائدةِ عيسى عليه السلام، وقيل: كلا المسخين في أصحاب السبْت مُسِخت شبانُهم قردةً وشيوخُهم خنازيرَ وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في {منهم} باعتبار معناه كما أن إفراد الضميرين الأولين باعتبار لفظه، وإيثارُ وضعه موضعَ ضمير الخِطاب المناسب لأنبئكم للقصدِ إلى إثبات الشرِّية بما عُدّد في حيز صلتِه من الأمورِ الهائلة الموجبةِ لها على الطريقة البرهانية مع ما فيه من الاحتراز عن تهييج لَجاجِهم {وَعَبَدَ الطاغوت} عطف على صلة {مَنْ} وإفراد الضمير لما مر وكذا عُبد الطاغوتُ على قراءة البناء للمفعول ورفع الطاغوتَ وكذا عبد الطاغوت بمعنى صار معبوداً، فالراجع إلى الموصول محذوف على القراءتين، أي عُبد فيهم أو بينهم، وتقديم أوصافِهم المذكورة بصدد إثباتِ شرّية دينِهم على وصفهم هذا مع أنه الأصلُ المستتبِعُ لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات، لأن عبادة الطاغوتِ عينُ دينهم البيّنِ البطلان ودلالتُها عليها بطريق الاستدلال بشرِّيَّة الآثار على شرِّية ما يوجبُها من الاعتقاد، والعمل، إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشرِّيته وفظاعته ولا باتصافهم به، وإما للإيذان باستقلال كلَ من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرِّية، ولو روعيَ ترتيبُ الوجود، وقيل: مَنْ عَبَدَ الطاغوتَ ولعنه الله وغضب عليه الخ، لربما فهم أن علة الشرية هو المجموعُ، وقد قرئ {عابدَ الطاغوت} وكذا {عبِدَ الطاغوتِ} بالإضافة على أنه نعتٌ كفطِنٍ ويقِظٍ، وكذا {عبدَةَ الطاغوتِ}، وكذا {عبَدَ الطاغوتِ} بالإضافة على أنه جمع عابد كخَدَمٍ، أو على أن أصله {عبدةَ} حذفت تاؤه للإضافة، بالنصب في الكل عطفاً على القردة والخنازير، وقرئ {عَبَدِ الطاغوتِ} بالجر عطفاً على {مَنْ} بناءً على أنه مجرور بتقدير المضاف، وقد قيل: إن {مَنْ} مجرور على أنه بدلٌ من شرَ على أحد الوجهين المذكورين في تقدير المضاف، وأنت خبير بأن ذلك مع اقتضائه إخلأَ النظم الكريم عن المزايا المذكورة بالمرة مما لا سبيل إليه قطعاً ضرورةَ أن المقصود الأصلي ليس مضمونَ الجملة الاستفهامية بل هو كما مر مقدّمة سيقت أمام المقصود لهُزُؤ المخاطبين وتوجيه أذهانهم نحو تلقي ما يلقى إليهم عَقيبها بجملة خبرية موافقةٍ في الكيفية للسؤال الناشىء عنها وهو المقصودُ إفادتُه، وعليه يدور ذلك الإلزام والتبكيتُ حسبما شُرح، فإذا جُعل الموصولُ بما في حيز صلتِه من تتمة الجملة الاستفهامية فأين الذي يلقى إليهم عقيبها جواباً عما نشأ منها من السؤال ليحصُلَ به الإلزامُ والتبكيت؟ وأما الجملة الآتية فبمعزلٍ من صلاحية الجواب، كيف لا ولابد من موافقته في الكيفية للسؤال الناشىء عن الجملة الاستفهامية، وقد عرفت أن السؤال الناشىءَ عنها يستدعي وقوعَ الشر من تتمة المخبَرِ عنه لا خبراً كما في الجملة المذكورة، وسيتضح ذلك مزيدَ اتضاحٍ بإذن الله تعالى، والمراد بالطاغوت العِجْلُ، وقيل: هو الكهنة وكلُّ من أطاعوه في معصية الله عز وجل فيعم الحكمُ دينَ النصارى أيضاً، ويتضح وجه تأخيرِ ذكرِ عبادتِه عن العقوبات المذكورة، إذ لو قُدِّمت عليها لتُوُهِّم اشتراكُ الفريقين في تلك العقوبات ولما كان مآلُ ما ذُكرَ بصدر التبكيت أن ما هو شرٌّ مما نقَموه دينُهم أو أن من هو شرٌّ من أهل ما نقموه أنفسُهم بحسَب ما قدِّر من المضافين، وكانت الشرِّيةُ على كلا الوجهين من تتمة الموضوع غيرَ مقصودة الإثبات لدينهم أو لأنفسهم عقِبَ ذلك بإثباتها لهم على وجهٍ يُشعر بعِلِّية ما ذُكر من القبائح لثبوتها لهم بجملةٍ مستأنَفةٍ مسوِّغةٍ من جهته سبحانه شهادةً عليهم بكمال الشرارة والضلال، أو داخلةٍ تحت الأمر تأكيداً للإلزام وتشديداً للتبكيت فقيل: {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً} فاسسمُ الإشارة عبارة عمن ذُكرتْ صفاتُهم الخبيثة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتِهم في الشرارة أي أولئك الموصوفون بتلك القبائح والفضائحِ شرٌّ مكانُهم، جَعَلَ مكاناً شراً ليكونَ أبلغَ في الدلالة على شرارتهم، وقيل: شر مكاناً أي مُنصَرَفاً {وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل} عطف على شر، مقرِّرٌ له أي أكثرُ ضلالاً عن الطريق المستقيم وفيه دلالة على كون دينهم شراً محضاً بعيداً عن الحق لأن ما يسلُكونه من الطريق دينُهم، فإذا كانوا أضلَّ كان دينُهم ضلالاً مُبيناً لا غايةَ وراءه، وصيغةُ التفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى من يشاركهم في أصلِ الشرارة والضلال.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)}
{وَإِذَا جَآؤُوكُم قَالُواْ ءامَنَّا} نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخُلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُظهرون له الإيمان نفاقاً، فالخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والجمعُ للتعظيم، أوْ له مَعَ مَنْ عنده من المسلمين، أي إذا جاؤوكم أظهروا الإسلام {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} أي يخرجون من عندك ملتبسين بالكفر كما دخلوا، لم يؤثِّرْ فيهم ما سمعوا منك، والجملتان حالان من فاعل قالوا، وبالكفر وبه حالان من فاعل دخلوا وخرجوا، وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالاً، أفادت أيضاً بما فيها من معنى التوقع أن أمارات النفاق كانت لائحة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يظنه ويتوقع أن يظهره الله تعالى، ولذلك قيل: {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} أي من الكفر، وفيه وعيد شديد لهم.

.تفسير الآيات (62- 64):

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}
{وَتَرَى} خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن يصلُح للخطاب والرؤية بصرية {كَثِيراً مّنْهُمْ} من اليهود والمنافقين، وقولُه تعالى: {يسارعون فِي الإثم} حال من كثيراً، وقيل: مفعول ثانٍ والرؤيةُ قلبية، والأول أنسبُ بحالهم وظهور نفاقهم، والمسارعة المبادرة والمباشرة للشيء بسرعة، وإيثار كلمة {في} على كلمة {إلى} الواقعة في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ} الخ، لِما ذُكر في قوله تعالى: {فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يسارعون فِيهِمْ} والمرادُ بالإثم الكذبُ على الإطلاق، وقيل: الحرام، وقيل: كلمةُ الشرك وقولُهم: عزيرٌ ابنُ الله، وقيل: هو ما يختصُّ بهم من الآثام {والعدوان} أي الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في المعاصي {وَأَكْلِهِمُ السحت} أي الحرام، خصه بالذكر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لبئس شيئاً كانوا يعملونه، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار.
{لَوْلاَ ينهاهم الربانيون والاحبار} قال الحسن: الربانيون علماء الإنجيل، والأحبار علماء التوراة، وقيل: كلهم في اليهود وهو تحضيضٌ للذين يقتديْ بهم أفناؤهم ويَعْلمون قَباحةَ ما هم فيه وسوءَ مغبَّته على نهْيِ أسافلِهم عن ذلك مع توبيخ لهم على تركه {عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت} مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وهذا أبلغ مما قيل في حق عامتهم لما أن العمل لا يبلُغ درجة الصنع ما لم يتدرَّبْ فيه صاحبُه ولم يحصُلْ فيه مهارة تامة، ولذلك ذَمَّ به خواصَّهم، ولأن ترك الحسنة أقبحُ من مواقعة المعصية، لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها، ولا كذلك تركُ الإنكار عليها، فكان جديراً بأبلغِ ذم، وفيه مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ما لا يخفى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها أشد آية في القرآن، وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوفُ عندي منها.
{وَقَالَتِ اليهود} قال ابن عباس وعكرمة والضحاك: إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبَهم ناحيةً فلما عصَوا الله سبحانه بأن كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف عنهم ما بسَطَ عليهم، فعند ذلك قال فِنْحاصُ بنُ عازوراء: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضُوا به نُسبت تلك العظيمةُ إلى الكل كما يقال: بنو فلان قتلوا فلاناً، وإنما القاتل واحدٌ منهم وأرادوا بذلك لعنهم الله أنه قال: مُمسك يقتِّر بالرزق، فإن كلاًّ من غَلِّ اليد وبسْطِها مجازٌ عن محض البخل والجود من غير قصد في ذلك إلى إثبات يدٍ وغَلَ أو بسطٍ، ألا يُرى أنهم يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك كما في قوله:
جاد الحمى بَسْطَ اليدين بوابل ** شكَرتْ نداهُ تِلاعُه ووِهادُهُ

وقد سلك لبيدٌ المسلكَ السديد حيث قال:
وغداةِ ريحٍ قد شهِدْتُ وقَرَّة ** إذْ أصبَحَتْ بيد الشَّمال زِمامُها

فإنه إنما أراد بذلك إثباتَ القدرة التامة للشَّمال على التصرفِ في القَرَّة كيفما تشاء على طريقة المجاز من غير أن يخطُرَ بباله أن يثبِتَ لها يداً ولا للقرّة زماماً، وأصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقي كما مر في قوله تعالى: {ولاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} في سورة آل عمران، وقيل: أرادوا ما حُكيَ عنهم بقوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكَنة أو بالفقر والنَّكَد أو بغَلِّ الأيدي حقيقة، بأن يكونوا أسارى مغلولين في الدنيا ويُسحبوا إلى النار بأغلالِها في الآخرة، فتكون المطابقةُ حينئذ من حيث اللفظُ وملاحظةُ المعنى الأصلي كما في سبّني سبّ الله دابرَه {وَلُعِنُواْ} عطف على الدعاء الأول أي أُبعدوا من رحمة الله تعالى {بِمَا قَالُواْ} أي بسبب ما قالوا من الكلمة الشنعاء، وقيل: كلاهما خبر.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} عطف على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ أي: كلاّ ليس كذلك بل هو في غاية ما يكونُ من الجود، وإليه أُشير بتثنية اليد، فإن أقصى ما ينتهي إليه هممُ الأسخياء أن يُعطوا ما يعطونه بكلتا يَدَيْهم، وقيل: التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة، وقيل: على إعطائه إكراماً، وعلى إعطائه استدراجاً {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} جملة مستأنفة واردةٌ لتأكيدِه كمالَ وجوده وللتنبيه على سرِّ ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالِهم ذريعةً إلى الاجتراء على تلك الكَفْرة العظيمة، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه، بل لأن إنفاقه تابعٌ لمشيئته المبنيَّةِ على الحُكم التي عليها يدورُ أمرُ المعاش والمعاد، وقد اقتضتِ الحكمةُ بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيِّقَ عليهم كما يشير إليه ما سيأتي من قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} الآية، و{كيف} ظرفٌ ليشاء، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير {ينفق} أي ينفق كائناً على أي حال يشاء أي كائناً على مشيئته أي مريداً، وتركُ ذكرِ ما ينفقه لقصد التعميم.
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم} وهم علماؤهم ورؤساؤهم {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن المشتمل على الآيات، وتقديمُ المفعول للاعتناء به، وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لِما أن بعضهم ليس كذلك {مِن رَبّكَ} متعلق بأنزل كما أن {إليك} كذلك، وتأخيره عنه مع أن حق المبتدىء أن يتقدم على المنتهي لاقتضاء المقامِ الاهتمامَ ببيان المنتهي، لأن مدار الزيادة هو النزولُ إليه عليه السلام كما في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء} والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام {طغيانا وَكُفْراً} مفعول ثان للزيادة أي ليزيدنهم طغياناً على طغيانهم وكفراً على كفرهم القديمين إما من حيث الشدةُ والغلوُّ وإما من حيث الكمُ والكثرة، إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانُهم وكفرُهم بحسب المقدار كما أن الطعامَ الصالح للأصِحّاء يزيد المرضى مرضاً.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي بين اليهود، فإن بعضَهم جبْريةٌ وبعضَهم قَدَرية وبعضهم مُرْجئة وبعضهم مشبِّهة {العداوة والبغضاء} فلا يكاد تتوافق قلوبُهم ولا تتطابق أقوالهم، والجملة مبتدأةٌ مَسوقة لإزاحة ما عسى يُتوهَّمُ من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمرٍ يؤدِّي إلى الإضرار بالمسلمين، قيل: العداوة أخصُّ من البغضاء، لأن كل عدوَ مبغضٌ بلا عكسٍ كليَ {إلى يَوْمِ القيامة} متعلق بألقينا وقيل: بالبغضاء.
{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلةِ ما هم فيه إلى المسلمين، أي كلما أرادوا محاربة الرسول عليه الصلاة والسلام ورتبوا مبادِيَها وركِبوا في ذلك متنَ كلِّ صعب وذَلولٍ ردهم الله تعالى وقهرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غُلبوا، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط الله تعالى عليهم بُخْتَ نَصَّرَ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرُسَ الروميّ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين، و{للحرب} إما صلةٌ لأوقدوا أو متعلق بمحذوف وقع صفةً {لناراً}، أي كائنة للحرب {وَيَسْعَوْنَ فِي الارض فَسَاداً} أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثارةِ الشر والفتنة فيما بينهم مما يُغايرُ ما عبَّر عنه بإيقاد نارِ الحرب، و{فساداً} إما مفعول له أو في موقع المصدر أي يسعون للفساد أو يسعون سعي فساد {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} ولذلك أطفأ ثائرةَ إفسادهم، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً، وإما للعهد، ووضعُ المُظْهَرِ مَقام الضمير للتعليل وبيانِ كونِهم راسخين في الإفساد.