فصل: تفسير الآية رقم (109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (109):

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}
{يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} نُصب على أنه بدل اشتمال من مفعول اتقوا لما بينهما من الملابسة، فإن مدارَ البداية ليس ملابسةَ الظرفية والمظروفية ونحوِها فقط، بل هو تعلّقٌ ما، مُصحِّحٌ لانتقال الذهن من المُبدلَ منه إلى البَدَل بوجه إجماليَ كما فيما نحن فيه، فإن كونَه تعالى خالقَ الأشياء كافةً مالكَ يومِ الدين خاصةً كافٍ في الباب، مع أن الأمرَ بتقوى الله تعالى يتبادر منه إلى الذهن أن المتقى أيُّ شأنٍ من شؤونه وأيُّ فعلٍ من أفعاله. وقيل: هناك مضافٌ محذوفٌ به يتحقق الاشتمال، أي اتقوا عذابَ الله فحينئذ يجوزُ انتصابُه منه بطريق الظرفية، وقيل: منصوب بمُضْمر معطوفٍ على {اتقوا} وما عُطف عليه، أي واحذروا أو اذكروا يوم الخ، فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يُضْطرُّهم إلى تقوى الله عز وجل وتلقِّي أمره بسمع الإجابة والطاعة، وقيل: هو ظرف لقوله تعالى: {لاَّ يَهِدِّى}، أي لا يهديهم يومئذ إلى طريق الجنة كما يهدي إليه المؤمنين، وقيل: منصوب بقوله تعالى: {واسمعوا} بحذف مضاف، أي اسمعوا خبرَ ذلك اليوم، وقيل: منصوب بفعل مؤخر قد حُذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانِه لكمال فظاعة ما يقع فيه من الطامّة التامة والدواهي العامة، كأنه قيل: {يوم يجمع الله الرسل فيقول} الخ، يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه نطاقُ المقال، وإظهارُ الاسمِ الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل، وتخصيصُ الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم، كيف لا و{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} بل لإبانة شرفهم وأصالتهم، والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمعِ غيرِهم بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم، ولإظهار سقوطِ منزلتهم وعدم لياقتهم بالانتظام في سلك جمع الرسل، كيف لا وهم عليهم السلام يُجمعون على وجه الإجلال، وأولئك يسحبون على وجوههم بالأغلال {فَيَقُولُ} لهم مشيراً إلى خروجهم عن عُهدة الرسالة كما ينبغي حسبما يُعربُ عنه تخصيصُ السؤال بجواب الأمم إعراباً واضحاً، وإلا لصدر الخطاب بأن يقال: هل بلغتم رسالاتي؟ وماذا في قوله عز وجل: {مَاذَا أَجَبْتُمُ} عبارةٌ عن مصدر الفعل، فهو نصْبٌ على المصدرية أيْ أيَّ إجابةٍ أُجبتم من جهة أُممِكم إجابةَ قَبول أو إجابةَ رد؟ وقيل: عبارة عن الجواب فهو في محل النصب بعد حذف الجارِّ عنه أيْ بأيِّ جوابٍ أجبتم؟ وعلى التقديرين ففي توجيه السؤال عما صدرَ عنهم وهم شهودٌ إلى الرسل عليهم السلام كسؤال الموؤودة بمَحْضرٍ من الوائد، والعدولِ عن إسناد الجواب إليهم بأن يقال: ماذا أجابوا؟ من الأنباء عن كمال تحقيرِ شأنهم وشدة الغيظ والسُّخط عليهم ما لا يخفى {قَالُواْ} استئناف مبني على سؤال نشأ من سَوْق الكلام كأنه قيل: فماذا يقول الرسل عليهم السلام هنالك؟ فقيل: يقولون: {لاَ عِلْمَ لَنَا} وصيغةُ الماضي للدلالة على التقرر والتحقق كما في قوله تعالى: {وَنَادَى أصحاب الجنة} {ونادى أصحاب الاعراف} ونظائرِهما، وإنما يقولون ذلك تفويضاً للأمر إلى علمه تعالى وإحاطتِه بما اعتراهم من جهتهم من مقاساة الأهوال ومعاناة الهموم والأوجال وعَرْضاً لعجزهم عن بيانه لكثرته وفظاعتِه {إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} تعليل لذلك، أي فتعلَمُ ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمْه مما أضمَروه في قلوبهم، وفيه إظهارٌ للشَّكاةِ وردّ للأمر إلى علمه تعالى بما لَقُوا من قبلهم من الخطوب، وكابدوا من الكروب، والتجاءٌ إلى ربهم في الانتقام منهم، وقيل: المعنى لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة ورُدَّ ذلك بأنهم يعرفونهم بسيماهم فكيف يخفى عليهم أمرُهم؟ وأنت خبير بأن مُرادهم حينئذ أن بعضهم كانوا في زمانهم على الحق ثم صاروا كَفَرة، وعن ابن عباس ومجاهد والسُدّي رضي الله عنهم أنهم يفزَعون من أول الأمر ويذهَلون عن الجواب ثم يُجيبون بعدما ثابت إليهم عقولُهم بالشهادة على أممهم، ولا يلائمه التعليل المذكور. وقيل: المرادُ به المبالغةُ في تحقيق فضيحتهم، وقرئ {علامَ الغيوب} بالنصب على النداء أو الاختصاص بالمدح، على أن الكلام قد تم عند قوله تعالى: {أَنتَ} أي إنك أنت المنعوتُ بنعوتِ كمالِك المعروفُ بذلك.

.تفسير الآية رقم (110):

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}
{إِذْ قَالَ الله ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ} شروعٌ في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيلِ إثرَ بيانِ ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأُنموذج لتفاصيلِ أحوال الباقين، وتخصيصُ شأن عيسى عليه السلام بالبيان تفصيلاً من بين شؤون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالتها على كمال هَوْل ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل لما أن شأنه عليه السلامُ متعلِّقٌ بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نُعِيتْ عليهم في السورة الكريمة جناياتُهم، فتفصيلُه أعظمُ عليهم وأجلبُ لحسرتهم وندامتِهم وأفتُّ في أعضادهم وأدخَلُ في صرفهم عن غيّهم وعنادهم، و{إذ} بدلٌ من {يومَ يجمع الله} الخ، وصيغة الماضي لما ذكر من الدلالة على تحقق الوقوع، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لما مر من المبالغة في التهويل وتربية المهابة. وكلمة على في قوله تعالى: {اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك} متعلقة بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً، أي اذكر إنعامي عليكما، أو بمحذوفٍ هو حالٌ منها إن جُعلت اسماً، أي اذكر نعمتي كائنة عليكما، وليس المرادُ بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفَه عليه السلام شكرَها والقيامَ بمواجبها ولاتَ حينَ تكليف، مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوله أيَّ خروج، بل إظهارَ أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتداداً بها وتلذذاً بذكرها على رؤوس الأشهاد، لتكون حكايةُ ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخاً ومزجرةً للكفرة المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطاً وتفريطاً وإبطالاً لقولهما جميعاً.
{إِذْ أَيَّدتُّكَ} ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لك أو حال منها، أي اذكرها كائنة وقت تأييدي لك، وقرئ {آيدتُك} والمعنى واحد أي قويتك {بِرُوحِ القدس} بجبريلَ عليه السلام لتثبيت الحجة أو بالكلام الذي يحيى به الدين وإضافته إلى القدس لأنه سبب الطهر عن أوضار الآثام، أو يحيى به الموتى أو النفوسُ حياةً أبدية، وقيل: الأرواحُ مختلفةُ الحقائق، فمنها طاهرةٌ نورانية، ومنها خبيثةٌ ظُلمانية، ومنها مشرقةٌ، ومنها كَدِرةٌ، ومنها حُرة، ومنها نذْلة، وكان روحُه عليه الصلاة والسلام طاهرةً مشرقةً نورانية عُلوية، وأياً ما كان فهو نعمة عليهما {تُكَلّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً} استئناف مبين لتأييده عليه السلام أو حال من الكاف، وذكر تكليمه عليه السلام في حال الكهولة لبيان أم كلامه عليه السلام في تينك الحالتين كان على نسق واحد بديعٍ صادراً عن كمال العقل مقارِناً لرزانة الرأي والتدبير، وبه استُدل على أنه عليه السلام سينزِل من السماء لِما أنه عليه السلامُ رفع قبل التكهُّل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أرسله الله تعالى وهو ابن ثلاثين سنةً، ومكث في رسالته ثلاثين شهراً، ثم رفعه الله تعالى إليه {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} عطف على قوله تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ} منصوب بما نصبه، أي اذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك الكتاب {والحكمة} أي جنسهما {والتوراة والإنجيل} خُصا بالذكر مما تناوله الكتابُ والحكمةُ إظهاراً لشرفهما، وقيل: الخطُّ والحكمةُ الكلامُ المُحكَم الصواب.
{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} أي تُصوَّر منه هيئةً مماثلة لهيئة الطير {بِإِذْنِى} بتسهيلي وتيسيري، لا على أن يكون الخلقُ صادراً عنه عليه السلام حقيقة، بل على أن يظهر ذلك على يده عليه السلام عند مباشرةِ الأسباب مع كون الخلق حقيقةً لله تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى: {فَتَنفُخُ فِيهَا} أي في الهيئة المصوَّرة {فَتَكُونُ} أي تلك الهيئة {طَيْراً بِإِذْنِى} فإن إذنه تعالى لو لم يكن عبارةً عن تكوينه تعالى للطير بل عن محضِ تيسيره مع صدور الفعل حقيقةً عما أُسند إليه لكان هذا تكوّناً من جهة الهيئة، وتكريرُ قوله: {بِإِذْنِى} في الطير مع كونه شيئاً واحداً، للتنبيه على أن كلاًّ من التصوير والنفخ أمرٌ معظّم بديعٌ لا يتسنى ولا يترتب عليه شيء إلا بإذنه تعالى {وَتُبْرِىء الاكمه والابرص بِإِذْنِى} عطف على {تخلُق}.
{وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِى} عطف على {إذ تخلق} أعيد فيه إذْ، لكون إخراج الموتى من قبورهم لاسيما بعد ما صارت رميماً، معجزةً باهرةً ونعمةً جليلة حقيقةً بتذكير وقتها صريحاً، قيل: أخرج سامَ بنَ نوح ورجلين وامرأةً وجاريةً، وتكرير قوله: {بِإِذْنِى} في المواضع الأربعة للاعتناء بتحقيق الحق ببيان أن تلك الخوارقَ ليست من قبل عيسى عليه الصلاة والسلام بل من جهته سبحانه قد أظهرها على يديه معجزةً له ونعمةً خصَّها به، وأما ذكرُه في سورة آلِ عِمرانَ مرتين لما أن ذلك موضعُ الإخبار، وهذا موضعُ تعداد النعم {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ} عطف على {إذ تخرج} أي منعتُ اليهودَ الذين أرادوا بك السوء عن التعرُّض لك {إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات} بالمعجزات الواضحة مما ذُكر وما لم يُذكر، كالإخبار بما يأكلون وما يدّخِرون في بيوتهم ونحوِ ذلك، وهو ظرفٌ لكففت، لكن لا باعتبار المجيء بها فقط بل باعتبار ما يعقبُه من قوله تعالى: {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} فإن قولهم ذلك مما يدل على أنهم قصدوا اغتيالَه عليه السلام المُحوِجَ إلى الكف، أي كففتُهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئِك إياهم بالبينات، وإنما وُضع موضعَ ضميرِهم الموصولُ لذمهم بما في حيِّز الصلة، فكلمة {من} بيانية، وهذا إشارة إلى ما جاء به، والتذكير لأن إشارتهم إلى ما رأَوْه من نفس المسمّى من حيث هو، أو من حيث هو سحر لا من حيث هو مسمى بالبينات، وقرئ {إن هذا إلا ساحر مبين} فهذا حينئذ إشارة إلى عيسى عليه السلام.

.تفسير الآيات (111- 112):

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)}
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} عطف على ما قبله من أخواتها الواقعةِ ظروفاً للنعمة التي أُمر بذكرها، وهي وإن كانت في الحقيقة عينُ ما يُفيده الجملُ التي أُضيفت إليها تلك الظروفُ من التأييد بروح القدس وتعليم الكتاب والحكمة وسائرِ الخوارق المعدودة، لكنها لمغايَرَتها لها بعنوانٍ منْبىءٍ عن غاية الإحسان أُمر بذكرها من تلك الحيثية، وجُعلت عاملةً في تلك الظروف لكفاية المغايَرَة الاعتبارية في تحقيق ما اعتُبر في مدلول كلمةِ {إذ} من تعدد النسبة، فإنه ظرف موضوعٌ لزمان نسبتين ماضيتين واقعتين فيه إحداهما معلومةُ الوقوعِ فيه للمخاطَب دون الأخرى، فيُراد إفادةُ وقوعها أيضاً له، فيضاف إلى الجملة المفيدة للنسبة الأولى، ويجعل ظرفاً معمولاً للنسبة الثانية، ثم قد تكون المغايَرةُ بين النسبتين بالذات كما في قولك: اذكُرْ إحساني إليك إذ أحسنتَ إليّ. تريد تنبيهَ المخاطَب على وقوع إحسانه إليك وهما نسبتان متغايرتان بالذات، وقد تكون بالاعتبار كما في قولك: اذكر إحساني إليك إذ منعتُك من المعصية، تريد تنبيهه على كون منعه منها إحساناً إليه لا على إحسانٍ آخرَ واقعٍ حينئذ، ومن هذا القبيل عامةُ ما وقع في التنزيل من قوله تعالى: {لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} الآية، وقولِه تعالى: {الجحيم يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} إلى غير ذلك من النظائر. ومعنى إيحائه تعالى إليهم أمرُه تعالى إياهم في الإنجيل على لسانه عليه السلام. وقيل: إلهامُه تعالى إياهم كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى} و{أنْ} في قوله تعالى: {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} مفسِّرة لما في الإيحاء من معنى القول، وقيل: مصدرية، وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه السلام كأنه قيل: آمنوا بوحدانيتي في الألوهية والربوبية وبرسالة رسولي ولا تُزيِّلوه عن حيِّزه حطّاً ولا رفعاً، وقوله تعالى: {قَالُواْ} استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأ من سَوْق الكلام كأنه قيل: فماذا قالوا حين أوحِيَ إليهم ذلك؟ فقيل: قالوا: {آمنّا} أي بما ذُكر من وحدانيته تعالى وبرسالة رسولِه كما يُؤذِنُ به قولهم: {واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي مخلِصون في إيماننا، مِنْ أسلم وجهَه لله، وهذا القولُ منهم بمقتضى وحيه تعالى وأمرِه لهم بذلك نعمةٌ جليلة كسائر النعم الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك نعمةٌ على والدته أيضاً. رُوي أنه عليه السلام لما علم أنه سيُؤمر بذكر هاتيك النعم العِظامِ جعل يلبَسُ الشَّعْرَ ويأكب الشجر ولا يدخر شيئاً لغد، يقول: لكل يوم رزقُه، لم يكن له بيت فيخرَبَ ولا ولد فيموتَ، أينما أمسى بات.
{إِذْ قَالَ الحواريون} كلام مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه، منقطعٌ عما قبله كما ينبىء عنه الإظهارُ في موقع الإضمار و{إذ} منصوب بمُضمر خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام بطريق تلوين الخطاب والالتفات، لكن لا لأن الخطاب السابقَ لعيسى عليه السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكايةُ خطاب، بل لأن الخطابَ لمن خوطب بقوله تعالى: {واتقوا الله} الآية، فتأمل، كأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم عَقيبَ حكايةِ ما صدر عن الحواريين من المقالة المعدودة من نعم الله تعالى الفائضة على عيسى عليه السلام: اذكُر للناس وقت قولهم الخ، وقيل: هو ظرف لقالوا، أريد به التنبيهُ على أن ادعاءَهم الإيمانَ والإخلاصَ لم يكن عن تحقيقٍ وإيقان، ولا يساعده النظم الكريم {ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء} اختلف في أنهم هل كانوا مؤمنين أو لا؟ فقيل: كانوا كافرين شاكّين في قدرة الله تعالى على ما ذَكَروا، وفي صدْقِ عيسى عليه السلام، كاذبين في دعوى الإيمان والإخلاص، وقيل: كانوا مؤمنين وسؤالُهم للاطمئنان والتثبّت لا لإزاحة الشك، و{هل يستطيع} سؤال عن الفعل دون القدرة عليه تعبيراً عنه بلازمه، وقيل: الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة، لا على ما تقتضيه القدرة، وقيل: المعنى هل يطيع ربك؟ بمعنى هل يجيبك؟ واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب، وقرئ {هل تستطيعُ ربَّك} أي سؤال ربك، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف يصرِفك عنه؟ وهي قراءة علي وعائشةَ وابن عباس ومعاذٍ رضي الله عنهم، وسعيدِ بن جبير في آخرين، والمائدة الخِوانُ الذي عليه الطعام، من مادَه إذا أعطاه ورفدَه، كأنها تَميدُ مَنْ تُقدَّم إليه، ونظيرُه قولهم: شجرة مطعمة، وقال أبو عبيد: هي فاعلة بمعنى مفعولة كـ {عيشة راضية} {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ناشىءٍ مما قبله، كأنه قيل: فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك؟ فقيل: قال: {اتقوا الله} أي من أمثال هذا السؤال {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي بكمال قدرته تعالى وبصِحّة نبوتي أو إن صَدَقتم في ادّعاء الإيمانِ والإسلام فإن ذلك مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات وقيل أمرهم بالتقوى ليصير ذلك ذريعةً لحُصول المسؤول، كقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} وقولِه تعالى: {رَّحِيمٌ يَاَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة}