فصل: تفسير الآية رقم (9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (9):

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)}
{وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} على أن الضميرَ الأول للتقدير المفهومِ من فحوى الكلام بمعونة المقام، وإنما لم يجعل للملك المذكور قبله بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال: ولو جعلناه نذيراً لجعلناه رجلاً مع فهم المراد منه أيضاً لتحقيق أن مناطَ إبرازِ الجعل الأول في معرِض الفرض والتقدير، ومدارَ استلزامِه الثانيَ إنما هو مَلَكيةُ النذير، لا نذيريّة المَلَك، وذلك لأن الجعل حقُّه أن يكون مفعولُه الأولُ مبتدأ والثاني خبراً، لكونه بمعنى التصييرِ المنقول من {صار} الداخِلِ على المبتدأ والخبر.
ولا ريب في أن مصَبّ الفائدة ومدارَ اللزوم بين طَرَفي الشرطية هو محمولُ المقدَّمِ لا موضوعُه، فحيث كانت امتناعيةً أريد بها بيانُ انتفاءِ الجعْلِ الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يُجعلَ مدارُ الاستلزام في الأول مفعولاً ثانياً لا محالة، ولذلك جَعَل مُقابِلَه في الجعل الثاني كذلك، إبانةً لكمال التنافي بينهما الموجبِ لانتفاء الملزوم، والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول. والمعنى: لو جعلنا النذيرَ الذي اقترحوه ملكاً لمثّلنا ذلك المَلكَ رجلاً لما مر من عدم استطاعةِ الآحاد لمُعاينَةِ الملك على هيكله، وفي إيثار {رجلاً} على {بشراً} إيذانٌ بأن الجعلَ بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة، وتعيينٌ لما يقع به التمثيل، وقوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} عطفٌ على جواب لو مبنيّ على الجواب الأول، وقرئ بحذف لام الجواب اكتفاءً بما في المعطوف عليه، يقال: لَبَستُ الأمرَ على القوم ألبِسُه إذا شبّهتُه وجعلته مُشكِلاً عليهم، وأصله الستر بالثوب، وقرئ الفعلان بالتشديد للمبالغة، أي ولَخلّطنا عليهم بتمثيله رجلاً {مَّا يَلْبِسُونَ} على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له: إنما أنت بشرٌ ولست بمَلَك، ولو استُدل على مَلَكيته بالقرآن المعجزِ الناطقِ بها أو بمعجزاتٍ أُخَرَ غيرِ مُلجئةٍ إلى التصديق لكذّبوه كما كذبوا النبي عليه الصلاة والسلام، ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم الأمر الأول، والتعبير عن تمثيله تعالى رجلاً باللَّبْس إما لكونه في صورة اللبس، أو لكونه سبباً لِلَبْسِهم، أو لوقوعه في صُحبته بطريق المشاكلة، وفيه تأكيدٌ لاستحالة جعل النذيرِ مَلَكاً كأنه قيل: لو فعلناه لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لَبْس الأمر عليهم، وقد جُوِّز أن يكونَ المعنى وللبسنا عليهم حينئذ مثلَ ما يلبِسون على أنفسهم الساعةَ في كفرهم بآيات الله البينة.

.تفسير الآيات (10- 12):

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}
{وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه، وفي تصدير الجملة بلام القسم وحرفِ التحقيق من الاعتناء به ما لا يخفى، وتنوينُ {رسل} للتفخيم والتكثير، و{من} ابتدائية متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لرسل، أي وبالله لقد استهزىء برسل أولى شأنٍ خطيرٍ وذوي عددٍ كثير كائنين من زمانٍ قبلَ زمانك، على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه {فَحَاقَ} عَقيبه أي أحاط أو نزل أو حلَّ أو نحوُ ذلك، فإن معناه يدور على الشمول واللزوم، ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر، والحَيْق ما يشتمل على الإنسان من مكروهِ فِعْلِه وقوله تعالى: {بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ} أي استهزأوا بهم من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق، وتقديمُه على فاعله الذي هو قوله تعالى: {مَّا كَانُوا بِهِ} للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم، و{ما} إما موصولةٌ مفيدةٌ للتهويل، أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزؤون به حيث أُهلكوا لأجله، وإما مصدريةٌ أي فنزل بهم وَبالُ استهزائهم، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل.
{يَسْتَهْزِءونَ قُلْ سِيرُواْ فِي الارض} بعد بيانِ ما فعلت الأممُ الخالية وما فُعل بهم خوطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه، وتذكيرِهم بأحوالهم الفظيعة تحذيراً لهم عما هم عليه، وتكملةً للتسلية بما في ضِمْنه من العِدَة اللطيفة بأنه سيَحيقُ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم الأولين، ولقد أنجَز ذلك يومَ بدرٍ أيَّ إنجازٍ، أي سيروا في الأرض لتعرِفوا أحوال أولئك الأمم {ثُمَّ انظروا} أي تفكروا {كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} وكلمة {ثم} إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتسنّى إلا بعد انتهاء السير إلى أماكنهم، وإما لإبانة ما بينهما من التفاوت في مراتب الوجوب وهو الأظهر، فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلةً إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قوله عز وجل: {فانظروا} الآية، وإما أن الأمر الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها، والثاني لإيجاب النظر في آثارهم، و{ثم} لتُباعِدَ ما بين الواجب والمباح فلا يناسب المقام، و{كيف} معلِّقةٌ لفعل النظر، ومحلُ الجملة النصبُ بنزع الخافض أي تفكروا في أنهم كيف أُهلكوا بعذاب الاستئصال، والعاقبة مصدرٌ كالعافية ونظائرِها، وهي منتهى الأمرِ ومآلُه، ووضعُ المكذبين موضعَ المستهزئين لتحقيق أن مدارَ إصابةِ ما أصابهم هو التكذيبُ لينزجِرَ السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط، مع بقاء التكذيب بحاله بناءً على توهُّم أنه المدار في ذلك.
{قُلْ} لهم بطريق الإلجاء والتبكيت {لّمَن مَّا فِي السموات والارض} من العقلاء وغيرِهم، أي لمن الكائناتُ جميعاً خلْقاً ومُلكاً وتصرّفاً؟ وقوله تعالى: {قُل لِلَّهِ} تقريرٌ لهم وتنبيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله} وقوله تعالى: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} جملةٌ مستقلة داخلة تحت الأمر ناطقةٌ بشمول رحمتِه الواسعةِ لجميع الخلق شمولَ مُلكِه وقدرته للكلِّ، مَسوقةٌ لبيانِ أنه تعالى رؤوفٌ بعباده لا يعجَلُ عليهم بالعقوبة بل يقبل منهم التوبةَ والإنابةَ، وأن ما سبق ذكرُه وما لحِقَ من أحكام الغضب ليس من مقتَضيَات ذاتِه تعالى، بل من جهة الخَلْق، كيف لا ومن رحمتِه أن خلقَهم على الفطرة السليمة وهداهم إلى معرفته وتوحيدِه بنَصْب الآياتِ الأنفسية والآفاقية، وإرسالِ الرسل، وإنزالِ الكُتب المشحونة بالدعوة إلى موجباتِ رِضوانِه، والتحذيرِ عن مقتَضيَات سُخْطِه، وقد بدّلوا فطرةَ الله تبديلاً، وأعرَضوا عن الآياتِ بالمرة، وكذّبوا بالكتب واستهزأوا بالرسل، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين، ولولا شمولُ رحمتِه لسلك بهؤلاءِ أيضاً مَسلكَ الغابرين. ومعنى كتب على نفسه الرحمة أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضُّل والإحسانِ على ذاته المقدّسةِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ أصلاً، وقيل: هو ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمَّا قضى الله تعالى الخلقَ كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش، إنَّ رحمتي غلبتْ غضبي».
وعن عمرَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب: «ما أولُ شيءٍ ابتدأه الله تعالى مِنْ خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتاباً لم يكتبْه بقلم ولا مِدادٍ كتابةَ الزَّبَرْجد واللؤلؤ والياقوت: إني أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي» ومعنى سبْقِ الرحمةِ وغَلَبتِها أنها أقدمُ تعلُّقاً بالخلق وأكثرُ وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذاتِ المُفضيةِ للخير، وفي التعبير عن الذات بالنفس حجةٌ على من ادّعى أن لفظَ النفسِ لا يُطلق على الله تعالى وإن أريد به الذاتُ إلا مشاكلةً لِما ترَى من انتفاءِ المشاكلة هاهنا بنَوْعَيْها، وقوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} جوابُ قسمٍ محذوف، والجملة استئنافٌ مسوقٌ للوعيد على إشراكهم وإغفالِهم النظرَ، أي والله ليجمعنّكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شِرْككم وسائرِ معاصيكم وإن أمهلكم بموجَب رحمتِه ولم يعاجِلْكم بالعقوبة الدنيوية وقيل: {إلى} بمعنى اللام، أي ليجمعنكم ليوم القيامة كقوله تعالى: {إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} وقيل: هي بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في اليوم أو في الجمع.
وقوله تعالى: {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي بتضييع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام، واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة، في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ، أو هو مبتدأ والخبر قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} والفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط، والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم، فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في التقليد، وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر، والامتناعِ من الإيمان. والجملةُ تذييلٌ مَسوقٌ من جهته تعالى لتقبيح حالهم غيرُ داخلٍ تحت الأمر.

.تفسير الآيات (13- 15):

{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}
{وَلَهُ} أي لله عز وجل خاصةً {مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار} نُزِّلَ الملوان منزلةَ المكان فعبّر عن نسبة الأشياء الزمانية إليهما بالسُكنى فيهما، وتعديتُه بكلمة {في} كما في قوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} أو السكونِ مقابلَ الحركة، والمرادُ ما سكن فيهما أو تحرّك فاكتفي بأحد الضدَّيْن عن الآخر {وَهُوَ السميع} المبالغُ في سماع كلِّ مسموع {العليم} المبالغ في العلم بكلّ معلوم، فلا يخفى عليه شيءٌ من الأقوال والأفعال.
{قُلْ} لهم بعد ما بكّتهم بما سبق من الخطاب {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} أي معبوداً بطريق الاستقلالِ أو الاشتراك، وإنما سُلِّطت الهمزةُ على المفعول الأول لا على الفعل إيذاناً بأن المنكرَ هو اتخاذُ غيرِ الله ولياً، لا اتخاذُ الوليِّ مطلقاً كما في قوله تعالى: {أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا} وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ} إلخ {فَاطِرِ السموات والارض} أي مُبدعِهما، بالجرِّ صفةٌ للجَلالة مؤكِّدةٌ للإنكار لأنه بمعنى الماضي، ولذلك قرئ {فطَرَ} ولا يضرّ الفصلُ بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف أو بدلٌ فإن الفصلَ بينه وبين المبدل منه أسهلُ لأن البدلَ على نية تكرير العامل وقرئ بالرفع والنصب على المدح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما عرفتُ معنى الفاطرِ حتى اختصم إليَّ أعرابيانِ في بئر فقال أحدهما: أنا فَطَرْتُها أي ابتدأتها {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} أي يرزُق الخلق ولا يُرْزَق، وتخصيصُ الطعام بالذكر لشدة الحاجة إليه أو لأنه معظمُ ما يصل إلى المرزوق من الرزق، ومحلُ الجملة النصبُ على أن الضميرَ لغير الله والمعنى أأُشرِك بمن هو فاطرُ السموات والأرض ما هو نازلٌ عن رتبة الحيوانية؟ وببنائهما للفاعل على أن الثانيَ بمعنى يستطعم أو معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله تعالى: {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ}
{قُلْ} بعد بيان اتخاذِ غيرِه تعالى ولياً مما يَقْضي ببطلانه بديهةُ العقول {إِنّى أُمِرْتُ} من جنابه عز وجل {أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} وجهَه لله مخلِصاً له لأن النبيَّ إمامُ أمته في الإسلام كقوله تعالى: {وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} وقوله تعالى: {سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} {وَلاَ تَكُونَنَّ} أي وقيل لي: ولا تكونن {مِنَ المشركين} أي في أمر من أمور الدين، ومعناه أُمرت بالإسلام ونُهيتُ عن الشرك، وقد جوَّزَ عطفَه على الأمر {قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} أي بمخالفة أمرِه ونهيه أيَّ عصيانٍ كان فيدخل فيه ما ذُمر دخولاً أولياً وفيه بيانٌ لكمال اجتنابه عليه السلام عن المعاصي على الإطلاق وقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} أي عذابَ يوم القيامة، مفعولُ أخاف، والشرطية معترِضةٌ بينهما، والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه وفيه قطعٌ لأطماعهم الفارغة وتعريضٌ بأنهم عصاةٌ مستوجبون للعذاب العظيم.

.تفسير الآيات (16- 19):

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}
{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} على البناء للمفعول أي العذاب، وقرئ على البناء للفاعل والضمير لله سبحانه، وقد قرئ بالإظهار، والمفعول محذوف وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} ظرف للصرف، أي في ذلك اليوم العظيم، وقد جوز أن يكون هو المفعول على قراءة البناء للفاعل بحذف المضاف أي عذاب يومئذ {فَقَدْ رَحِمَهُ} أي نجاه وأنعم عليه وقيل: فقد أدخله الجنة كما في قوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} والجملة مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لتهويل العذاب، وضميرُ عنه ورَحمه {لمن}، وهو عبارة عن غير العاصي {وَذَلِكَ} إشارة إلى الصرف أو الرحمة، لأنها مؤوّلة بأن مع الفعل وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجته، وبعد مكانه في الفضل، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: {الفوز المبين} أي الظاهرُ كونُه فوزاً وهو الظَفَر بالبُغية، والألف واللام لقصره على ذلك.
{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} أي ببليةٍ كمرَض وفقر ونحو ذلك {فَلاَ كاشف لَهُ} أي فلا قادرَ على كشفه عنك {إِلاَّ هُوَ} وحده {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} من صِحةٍ ونعمةٍ ونحو ذلك {فَهُوَ على كُلّ شيء قَدُيرٌ} ومن جملته ذلك، فيقدِرُ عليه فيمسَسْك به ويحفَظْه عليك من غير أن يقدِرَ علي دفعه، أو على رفعه أحدٌ، كقوله تعالى: {فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} وحملُه على تأكيد الجوابين يأباه الفاء.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلةٌ أهداها له كسرى، فركِبها بحبْل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلاً، ثم التفت إلي فقال: يا غلام فقلت: لبيك يا رسول الله. فقال: أحفَظِ الله يحفَظْك، احفظ الله تجدْه أمامك، تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدة، وإذا سألت فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعنْ بالله، فقد مضى القلمُ بما هو كائن، فلو جَهَدَ الخلائقُ أن ينفعوك بما لم يقضِه الله لك لم يقدِروا عليه، ولو جَهَدوا أن يضروك بما لم يكتُبِ الله عليك ما قدَروا عليه، فإن استطعتَ أن تعملَ بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطِعْ فاصبر، فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن مع الكرْب فرَجاً، وأن مع العسر يسراً».
{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} تصويرٌ لقهره وعلوِّه بالغَلَبة والقُدرة {وَهُوَ الحكيم} في كل ما يفعله ويأمر به {الخبير} بأحوال عبادِه وخفايا أمورِهم، واللام في المواضع الثلاثة للقصر.
{قُلْ أَىُّ شيء أَكْبَرُ شهادة} روي «أن قريشاً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد لقد سألنا عنك اليهودَ والنصارى فزعموا أنْ ليس عندهم ذكرٌ ولا صفةٌ فأرِنا من يشهد لك أنك رسولُ الله فنزلت». {فأيّ} مبتدأ و{أكبرُ} خبره و{شهادة} نُصب على التمييز وقوله تعالى: {قُلِ الله} أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بأن يتولَّى الجواب بنفسه، إما للإيذان بتعيُّنه وعدمِ قدرتهم على أن يجيبوا بغيره، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه لا لتردُّدهم في أنه أكبرُ من كل شيء، بل في كونه شهيداً في هذا الشأن، وقوله تعالى: {شَهِيدٌ} خبرُ مبتدأ محذوف، أي هو شهيد {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} ويجوز أن يكون {الله شهيد بيني وبينكم} هو الجواب، لأنه إذا كان هو الشهيدَ بينه وبينهم كان أكبرُ شيءٍ شهادةً شهيداً له عليه الصلاة والسلام، وتكريرُ {البين} لتحقيق المقابلة {وَأُوحِىَ إِلَىَّ} أي من جهته تعالى {هذا القرءان} الشاهدُ بصِحة رسالتي {لاِنذِرَكُمْ بِهِ} بما فيه من الوعيد، والاقتصارُ على ذكر الأنذار لما أن الكلام مع الكفرة {وَمَن بَلَغَ} عطفٌ على ضمير المخاطَبين أي لأنذركم به يا أهلَ مكةَ وسائرَ مَنْ بلغه من الأسودِ والأحمرِ أو من الثقلَيْن، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة، وهو دليل على أن أحكام القرآن تعمُّ الموجودين يوم نزولِه ومن سيوجد بَعْدُ إلى يوم القيامة، خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل عند الحنابلة، وبالإجماع عندنا في غير الموجودين وفي غير المكلفين يومئذ كما مر في أول سورة النساء {قُلْ أَىُّ شيء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله} تقرير لهم مع إنكار واستبعاد {قُل لاَّ أَشْهَدُ} بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صِرْف {قُلْ} تكرير للأمر للتأكيد {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو {وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} من الأصنام أو من إشراككم.