فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (28):

{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)}
{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} إضرابٌ عما يُنْبىءُ عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزيمة صادقةٍ ناشئة عن رغبةٍ في الإيمان وسَوْقٍ إلى تحصيله والاتصافِ به بل لأنه ظهرَ لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهيةِ الدهياء وظنوا أنهم مُواقِعوها فلِخَوْفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا والمراد بها النارُ التي وُقفوا عليها إذ هي التي سيق الكلامُ لتهويل أمرها والتعجبِ من فظاعة حالِ الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبُهم بها، فإن التكذيبَ بالشيء كفر به وإخفاءٌ له لا محالة وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل: {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذّبُ بِهَا المجرمون} وقوله تعالى: {هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} مع كونه أنسبَ بما قبله من قولهم: {وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا} لمراعاة ما في مقابلته من البُدُوّ، هذا هو الذي تستدعيه جزالةُ النظم الكريم، وأما ما قيل من أن المراد بما يُخفون كفرُهم ومعاصيهم أو قبائحُهم وفضائحُهم التي كانوا يكتُمونها من الناس فتظهرُ في صُحُفهم وبشهادة جوارحِهم عليهم أو شركِهم الذي يجحدون به في بعض مواقف القيامة بقولهم: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ثم يظهر بما ذُكر من شهادة الجوارحِ عليهم أو ما أخفاه رؤساءُ الكفرة عن أتباعهم من أمر البعث والنشور أو ما كتمه علماءُ أهل الكتابين من صحة نبوةِ النبي عليه الصلاة والسلام ونُعوته الشريفة عن عوامِّهم، على أن الضميرَ المجرورَ للعوام والمرفوعَ للخواص، أو كفرُهم الذي أخفَوْه عن المؤمنين والضميرُ المجرور للمؤمنين والمرفوعُ للمنافقين، فبعدَ الإغضاءِ عما في كلَ منها من الاعتساف والاختلال لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً لما عرفت من أن سَوْق النظم الشريف لتهويل أمر النار وتفظيعِ حال أهلها وقد ذُكر وقوفُهم عليها وأُشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحَيْرة والدهشة ما لا يُحيط به الوصفُ، ورُتّب عليه تمنِّيهم المذكورُ بالفاء القاضيةِ بسببية ما قبلها لما بعدها، فإسقاطُ النار بعد ذلك من تلك السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجرُ الزواجر، وإسنادُها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر مع عدم جَرَيانِ ذكرها ثَمةَ أمرٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله، وأما ما قيل من أن المراد جزاءُ ما كانوا يُخفون فمن قبيل دخولِ البيوت من ظهورِها وأبوابُها مفتوحة فتأمل.
{وَلَوْ رُدُّواْ} أي من موقفهم ذلك إلى الدنيا حسبما تمنَّوْه وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال {لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} من فنون القبائح التي من جملتها التكذيبُ المذكورُ ونسُوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار أنظارِهم على الشاهدِ دون الغائب {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} أي لقومٌ ديدَنُهم الكذِبُ في كل ما يأتون وما يذرون.

.تفسير الآيات (29- 30):

{وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)}
{وَقَالُواْ} عطفٌ على {عادوا} داخلٌ في حيز الجواب، وتوسيطُ قولِه تعالى: {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} بينهما لأنه اعتراضٌ مَسوقٌ لتقرير ما أفاده الشرطيةُ من كذبهم المخصوصِ، ولو أُخِّر لأَوْهم أن المراد تكذيبُهم في إنكارهم البعثَ. والمعنى لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نُهوا عنه وقالوا: {إِنْ هِىَ} أي ما الحياة {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعدما فارقنا هذه الحياةَ كأن لم يرَوا ما رأَوا من الأحوال التي أولُها البعثُ والنشور {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ} الكلام فيه كالذي مر في نظيره، خلا أن الوقوفَ هاهنا مجازٌ عن الجنس للتوبيخ والسؤال كما يوقَفُ العبدُ الجاني بين يدَيْ سيده للعقاب وقيل: عرَفوا ربَّهم حقَّ التعريف، وقيل: وُقفوا على جزاءِ ربهم، وقولُه تعالى: {قَالَ} استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قال لهم ربهم إذ ذاك؟ فقيل: قال: {أَلَيْسَ هذا} مشيراً إلى ما شاهدوه من البعث وما يتبعه من الأمور العظام {بالحق} تقريعاً لهم على تكذيبهم لذلك وقولِهم عند سماعِ ما يتعلق به ما هو بحقَ وما هو إلا باطلٌ {قَالُواْ} استئناف كما سبق {بلى وَرَبّنَا} أكّدوا اعترافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بحقِّيته وإيذاناً بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط طمعاً في نفعه.
{قَالَ} استئناف كما مر {فَذُوقُواْ العذاب} الذي عاينتموه، والفاءُ لترتيب التعذيب على اعترافهم بحقية ما كفروا به في الدنيا لكن لا على أن مدارَ التعذيب هو اعترافُهم بذلك بل هو كفرُهم السابقُ بما اعترفوا بحقيته الآن كما نطق به قوله عز وجل: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب كفركم في الدنيا بذلك أو بكل ما يجب الإيمانُ به فيدخل كفرُهم به دخولاً أولياً، ولعل هذا التوبيخَ والتقريع إنما يقع بعد ما وُقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذِ الظاهرُ أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب.

.تفسير الآيات (31- 32):

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)}
{قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله} هم الذين حُكِيت أحوالُهم، لكنْ وْضع الموصولُ موضعَ الضمير للإيذان بسبب خسرانهم بما في حيز الصلة من التكذيب بلقائه تعالى بقيام الساعة وما يترتب عليه من البعث وأحكامه المتفرعةِ عليه واستمرارِهم على ذلك، فإن كلمةَ {حتى} في قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة} غايةٌ لتكذيبهم لا لخُسرانهم فإنه أبديٌّ لا حدَّ له {بَغْتَةً} البغْتُ والبغتةُ مفاجأةُ الشيءِ بسرعة من غير شعور به يقال: بغَته بغْتاً وبغتةً أي فجأةً، وانتصابُها إما على أنها مصدرٌ واقع موقعَ الحال من فاعل جاءتهم أي مباغتةً أو من مفعوله أي مبغوتين وإما على أنها مصدرٌ مؤكِّدٌ على غير الصدر فإنّ {جاءتهم} في معنى بغتتهم كقولهم: أتيته ركضاً أو مصدرٌ مؤكِّد لفعل محذوف وقع حالاً من فاعل {جاءتهم} أي جاءتهم الساعة تبغتهم بغتة.
{قَالُواْ} جواب إذا {يا حسرتنا} تعالَيْ فهذا أوانُك، والحسرةُ شدة الندم، وهذا التحسرُ وإن كان يعتريهم عند الموت لكنْ لما كان ذلك من مبادي الساعة سُمِّيَ باسمها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «من مات فقد قامت قيامتُه» أو جُعل مجيءُ الساعة بعد الموت كالواقع بغير فترةٍ لسرعته {على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي على تفريطنا في شأن الساعة وتقصيرنا في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان بها واكتسابِ الأعمالِ الصالحة كما في قوله تعالى: {على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} وقيل: الضميرُ للحياة الدنيا وإن لم يجْرِ لها ذكرٌ لكونها معلومة، والتفريطُ التقصيرُ في الشيء مع القدرة على فعله وقيل: هو التضييعُ وقيل: الفَرَط السبق ومنه الفارط أي السابق ومعنى فرَّط: خلَّى السبْقَ لغيره فالتضعيف فيه للسلب كما في جلّدتُ البعير وقوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} حال من فاعل {قالوا} فائدتُه الأيذان بأن عذابَهم ليس مقصوراً على ما ذكِر من الحسرة على ما فات وزال، بل يقاسون مع ذلك تحمُّلَ الأوزار الثِقال، والإيماءُ إلى أن تلك الحسرةَ من الشدة بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من فنون العقوبات. والسرُّ في ذلك أن العذابَ الروحانيَّ أشدُّ من الجُسمانيِّ نعوذُ برحمة الله عز وجل منهما، والوِزر في الأصل الحِملُ الثقيل سُمِّي به الإثمُ والذنبُ لغاية ثِقَلِه على صاحبه، وذكرُ الظهور كذكر الأيدي في قوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فإن المعتاد حملُ الأثقالِ على الظهور كما أن المألوفَ هو الكسبُ بالأيدي، والمعنى أنهم يتحسرون على ما لم يعملوا من الحسنات، والحال أنهم يحمِلون أوزارَ ما عملوا من السيئات {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبله وتكملةٌ له أي بئس شيئاً يَزِرُونه وِزْرُهم.
{وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} لمّا حقَّق فيما سبق أن وراءَ الحياة الدنيا حياةً أخرى يلقَوْن فيها من الخطوب ما يلقون بَيَّن بعدَه حالَ تينِك الحياتين في أنفسهما، واللعبُ عملٌ يشغل النفسَ ويُفتّرها عما تنتفع به، واللهوُ صرفُها عن الجدّ إلى الهزل، والمعنى إما على حذف المضاف أو على جعل الحياة الدنيا نفسَ اللعِب واللهوِ مبالغةً كما في قول الخنساء:
فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ

أي وما أعمالُ الدنيا أي الأعمالُ المتعلقةُ بها من حيث هي هي، أو وما هي من حيث إنها محلٌ لكسب تلك الأعمال إلا لعبٌ يشغَل الناسَ ويلهيهم بما فيه من منفعةٍ سريعةِ الزوال ولذةٍ وشيكة الاضمحلال عما يعقُبهم من منفعة جليلة باقية ولذة حقيقية غير متناهية من الإيمان والعمل الصالح {وَلَلدَّارُ الاخرة} التي هي محلُ الحياة الأخرى {خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفرَ والمعاصِيَ، لأن منافعها خالصةٌ عن المضارِّ ولذاتِها غيرُ مُنغّصةٍ بالآلام، مستمرةٌ على الدوام {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان، والفاء للعطف على مقدر أي أتغفُلون فلا تعقِلون؟ أو ألا تتفكرون فتعقِلون وقرئ {يعقلون} على الغَيْبة.

.تفسير الآية رقم (33):

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)}
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} استئنافٌ مَسوقٌ لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه مما حُكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانةٍ من الله عز وجل وأن ما يفعلون في حقه فهو راجعٌ إليه تعالى في الحقيقة وأنه ينتقم منهم لا محالة أشدَّ انتقام، وكلمةُ {قد} لتأكيد العلم بما ذكر المفيدِ لتأكيد الوعيدِ كما في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين} ونحوِهما بإخراجها إلى معنى التكثير حسبما يُخْرجُ إليه ربما في مثل قوله:
وإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناء فربما ** أقام به بعد الوفود وفودُ

جرياً على سَننِ العرب عند قصد الإفراط في التكثير تقول لبعض قُوادِ العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رُبَّ فارسٍ عندي، وعنده مقانبُ جَمةٌ يريد بذلك التماديَ في تكثير فُرسانه ولكنه يروم إظهارَ براءته عن التزيُّد وإبرازَ أنه ممن يقلل كثيرَ ما عنده فضلاً عن تكثير القليل وعليه قوله عز وجل: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} وهذه طريقة إنما تُسلك عند كون الأمر من الوضوح بحيث لا تحوم حوله شائبةُ ريبٍ حقيقةً، كما في الآيات الكريمة المذكورة، أو ادعاءً كما في البيت وقولِه:
قد أترك القِرْنَ مُصفرّاً أناملُهُ

وقولِه:
ولكنه قد يُهلك المالَ نائِلُهْ

والمراد بكثرة علمه تعالى كثرةُ تعلقِه وهو متعدَ إلى اثنين وما بعده سادٌّ مسدَّها واسمُ {إن} ضمير الشأن وخبرُها الجملة المفسرة له والموصولُ فاعل {يحزنك} وعائدُه محذوف أي الذي يقولونه وهو ما حُكي عنهم من قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} ونحوُ ذلك وقرئ {لَيُحزِنُك} من أحزن المنقول من حزِن اللازم وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ} تعليل لما يُشعِر به الكلامُ السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا لكن لا بطريق التشاغل عنه وعدِّه هيناً والإقبالِ التام على ما هو أهمُّ منه من استعظام جحودهم بآيات الله عز وجل كما قيل فإنه مع كونه بمعزل من التسلية بالكلية مما يوهم كونَ حزنه عليه الصلاة والسلام لخاصة نفسه بل بطريق التسلِّي بما يفيده من بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القَدْرِ ورِفعة المحل والزُلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غاية وراءَه حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيباً لآياته سبحانه على طريقة قوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} بل نفى تكذيبَهم عنه عليه الصلاة والسلام وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ يُبَايِعُونَ الله} أيذاناً بكمال القرب واضمحلال شؤونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل. نعمْ فيه استعظامٌ لجنايتهم مُنْبىءٌ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل: لا تعتدَّ به وكِلْه إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة.
{ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ} أي ولكنهم بآياته تعالى يكذّبون فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر تسجيلاً عليهم بالرسوخ في الظلم الذي يُعتبر جحودُهم هذا فناً من فنونه، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظام ما أقدموا عليه من جحود آياته تعالى، وإيرادُ الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياتِه تعالى من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كلُّ أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود الذي هو عبارةٌ عن الإنكار مع العلم بخلافه كما في قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} وهو المعنيُّ بقول من قال: إنه نفْيُ ما في القلب إثباتُه، أو إثباتُ ما في القلب نفيُه، والباء متعلقة بيجحدون ويقال: جحد حقَّه وبحقِّه إذا أنكره وهو يعلمه، وقيل: هو لتضمين الجحود معنى التكذيب، وأياً ما كان فتقديمُ الجارِّ والمجرور للقَصْر وقيل: المعنى فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم، ويعضُده ما رُوي من أن الأخْنَسَ بنَ شُرَيْقٍ قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادقٌ هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحدٌ غيرُنا فقال له: والله إن محمداً لصادقٌ وما كذَب قطُّ ولكن إذا ذهب بنو قُصيَ باللواءِ والسِّقاية والحِجابة والنبوّة فماذا يكونُ لسائر قريش؟ فنزلت.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمَّى الأمينَ» فعرَفوا أنه لا يكذِب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون وقيل: فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادقُ الموسومُ بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله كما يروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نُكذِّبُك، وإنك عندنا لصادقٌ ولكنا نكذِّبُ ما جئتنا به فنزلت. وكأن صدقَ المُخبرِ عند الخبيث بمطابقةِ خبرِه لاعتقادِه، والأولُ هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية، وقرئ {لا يُكْذِبونك} من الإكذاب فقيل: كلاهما بمعنى واحدٍ كأكثرَ وكثُر وأنزلَ ونزَل وهو الأظهر وقيل: معنى أكذبه وجده كاذباً، ونُقل عن الكسائيِّ أن العربَ تقول: كذبتُ الرجلَ أي نسبتُ الكذب إليه وأكذبته أي نسبت الكذب إلى ما جاء به لا إليه.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)}
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} افتنانٌ في تسليته عليه الصلاة والسلام فإن عمومَ البلية ربما يهوِّنُ أمرَها بعضَ تهوين، وإرشادٌ له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصبر على ما أصابهم من أممهم من فنون الأَذِيَّة، وعِدَةٌ ضِمْنية له عليه الصلاة والسلام بمثل ما مُنِحوه من النصر. وتصديرُ الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوينُ {رسلٌ} للتفخيم والتكثير، و{من} إما متعلقةٌ بكُذِّبت أو بمحذوفٍ وقع صفةً {لرسلٌ} أي وبالله لقد كذِّبت من قبل تكذيبك رسلٌ أولو شأنٍ خطير وذوُو عددٍ كثير أو كُذبت رسل كانوا من زمان قبلَ زمانك {فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ} ما مصدرية وقوله تعالى: {وَأُوذُواْ} عطف على {كُذبوا} داخلٌ في حكمه فأنسبك منهما مصدران من المبنيِّ للمفعول أي فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم فتأسَّ بهم واصطبِرْ على ما نالك من قومك، والمرادُ بإيذائهم إما عينُ تكذيبهم وإما ما يقارنه من فنون الإيذاء لم يُصرَّحْ به ثقةً باستلزام التكذيب إياه غالباً، وأياً ما كان ففيه تأكيدٌ للتسلية، وقيل: عطفٌ على صبروا وقيل: على كذبت، وقيل: هو استئناف وقوله تعالى: {حتى أتاهم نَصْرُنَا} غايةٌ للصبر، وفيه إيذانٌ بأن نَصره تعالى إياهم أمرٌ مقرَّر لا مرد له وأنه متوجه إليهم لابد من إتيانه البتةَ، والالتفاتُ إلى نون العظمة لإبراز الاعتناء بشأن النصر وقوله تعالى: {وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله} اعتراض مقرِّرٌ لما قبله من إتيان نصرِه إياهم والمراد بكلماته تعالى ما يُنْبىء عنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} وقولُه تعالى: {كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} من المواعيد السابقة للرسل عليهم الصلاة والسلام الدالة على نُصرة رسول الله أيضاً لا نفسُ الآياتِ المذكورة ونظائرُها، فإن الإخبارَ بعدم تبدّلِها إنما يفيد عدمَ تبدلِ المواعيدِ الواردةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون المواعيد السابقة للرسل عليهم الصلاة والسلام ويجوزُ أن يُرادَ بكلماته تعالى جميعُ كلماته التي من جملتها تلك المواعيدُ الكريمةُ ويدخل فيها المواعيدُ الكريمة، ويدخل فيها المواعيدُ الواردة في حقه عليه الصلاة والسلام دخولاً أولياً، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات أن لا يغالبه أحدٌ في فعلٍ من الأفعال ولا يقعَ منه تعالى خُلْفٌ في قول من الأقوال وقوله تعالى: {وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} جملة قَسَمية جيءَ بها لتحقيق ما مُنحوا من النصر وتأكيدِ ما في ضِمْنه من الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لتقرير جميع ما ذكِر من تكذيب الأمم وما ترتّب عليه من الأمور. والجارُّ والمجرور في محل الرفع على أنه فاعل إما باعتبار مضمونِه أي بعضُ نبأ المرسلين كما مر في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله} الآية، وأياً ما كان فالمرادُ بنَبَئِهم عليهم السلام على الأول نصرُه تعالى إياهم بعد اللُّتيا والتي، وعلى الثاني جميعُ ما جرى بينهم وبين أممهم على ما ينبىء عنه قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُواْ} الآية، وقيل: في محل النصب على الحالية من {الضمير} المستكنِّ في جاء العائدِ إلى ما يُفهم من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر كائناً من نبأ المرسلين.