فصل: تفسير الآيات (45- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (45- 47):

{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)}
{فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} أي آخِرُهم بحيث لم يبقَ منهم أحد، مِنْ دبره دبراً أي تبعه، ووضعُ الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم فإن هلاكهم بسبب ظلمهم الذي هو وضعُ الكفر موضعَ الشكر وإقامةُ المعاصي مُقامَ الطاعات {والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} على ما جرى عليهم من النَّكال، فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث أنه تخليصٌ لأهل الأرض من شؤم عقائدِهم الفاسدة، وأعمالهم الخبيثة نعمةٌ جليلة مستجلِبةٌ للحمد، لاسيما مع ما فيه من إعلاءِ كلمةِ الحق التي نطقَت بها رسلُهم عليهم السلام.
{قُلْ أَرَءيْتُمْ} أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكرير التبكيت عليهم وتثنيةِ الإلزامِ بعد تكملةِ الإلزامِ الأولِ ببيان أنه أمرٌ مستمرٌ لم يزَلْ جارياً في الأمم، وهذا أيضاً استخبارٌ عن متعلَّق الرؤية وإن كان بحسَب الظاهرِ استخباراً عن نفسِ الرؤية {إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم} بأن أصَمّكم وأعماكم بالكلية {وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ} بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقلٌ وفهمٌ أصلاً وتصيرون مجانين، ويجوز أن يكون الختمُ عطفاً تفسيرياً للأخذ المذكور فإن السمعَ والبصر طريقان للقلب، منهما يرِدُ ما يرِدُه من المدرَكات، فأخذُهما سدٌّ لِبابه بالكلية، وهو السر في تقديم أخذِهما على ختمها، وأما تقديمُ السمع على الإبصار فلأنه مورِدُ الآياتِ القرآنية، وإفرادُه لما أن أصله مصدَرٌ وقوله تعالى: {مِنْ إِلَهٌ} مبتدأ وخبرٌ و{من} استفهامية، وقوله تعالى: {غَيْرُ الله} صفةٌ للخبر، وقوله تعالى: {يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي بذاك على أن الضميرَ مستعارٌ لاسم الإشارة، أو بما أَخَذ وخَتَم عليه، صفةٌ أخرى له والجملة متعلَّقُ الرؤية ومناطُ الاستخبار أي أخبروني إنْ سلب الله مشاعرَكم من إله غيرُه تعالى يأتيكم بها. وقوله تعالى: {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم تأثُّرِهم بما عاينوا من الآيات الباهرةِ أي انظر كيف نكرِّرها ونقرِّرها مصروفةً من أسلوب إلى أسلوب، تارةً بترتيب المقدِّمات العقلية وتارةً بطريق الترغيب والترهيب، وتارةً بالتنبيه والتذكير {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} عطفٌ على نصرِّف داخلٌ في حكمه، وهو العُمدة في التعجيب و{ثم} لاستبعاد صدوفهم أي إعراضِهم عن تلك الآيات بعد تصريفها على هذا النمط البديعِ الموجبِ للإقبال عليها.
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} تبكيتٌ آخَرُ لهم بإلجائهم إلى الاعترافِ باختصاص العذاب بهم {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} أي عذابُه العاجلُ الخاصُّ بكم كما أتى مَنْ قبلكم من الأمم {بَغْتَةً} أي فجأةً من غير أن يظهرَ منه مخايِلُ الإتيان وحيثُ تضمّن هذا معنى الخُفية قوبل بقوله تعالى: {أَوْ جَهْرَةً} أي بعد ظهورِ أماراتِه وعلائمه، وقيل: ليلاً أو نهاراً كما في قوله تعالى: {بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} لما أن الغالبَ فيما أتى ليلاً البغتةُ وفيما أتى نهاراً الجهرةُ، وقرئ {بغتة أو جهرة} وهما في موضع المصدر أي إتيانَ بغتةٍ أو إتيانَ جهرة، وتقديمُ البغتة لكونها أهولَ وأفظعَ، وقوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ} متعلَّق الاستخبار، والاستفهام للتقرير أي قل لهم تقريراً لهم باختصاص الهلاكِ بهم أخبروني إن أتاكم عذابُه تعالى حسبما تستحقونه هل يُهلك بذلك العذاب إلا أنتم؟ أي هل يُهلك غيرُكم ممن لا يستحقه؟ وإنما وُضع موضعَه {إِلاَّ القوم الظالمون} تسجيلاً عليهم بالظلم وإيذاناً بأن مناطَ إهلاكهم ظلمُهم الذي هو وضعُهم الكفرَ موضعَ الإيمان.
وقيل: المرادُ بالظالمين الجنسُ وهم داخلون في الحكم دخولاً أولياً. قال الزجاج: هل يُهلك إلا أنتم ومن أشبهكم؟ ويأباه تخصيصُ الإتيان بهم، وقيل: الاستفهامُ بمعنى النفي فمتعلَّق الاستخبارِ حينئذ محذوفٌ كأنه قيل: أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى بغتة أو جهرة ماذا يكون الحال؟ ثم قيل بياناً لذلك: ما يُهلك إلا القومُ الظالمون أي ما يُهلك بذلك العذاب الخاصِّ بكم إلا أنتم. فمن قيَّد الهلاكَ بهلاك التعذيب والسُخط لتحقيق الحصْرِ بإخراج غيرِ الظالمين لِما أنه ليس بطريقِ التعذيب والسَّخَطِ بل بطريق الإثابة ورفع الدرجة فقد أهمل ما يُجديه واشتغل بما لا يَعنيه وأخلَّ بجزالة النظم الكريم وقرئ {هل يَهلِك} من الثلاثي.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)}
{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين} كلام مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان وظائفِ منْصِبِ الرسالة على الإطلاق وتحقيقِ ما في عُهدة الرسلِ عليهم السلام، وإظهارُ أن ما يقترحه الكفرةُ عليه عليه السلام ليس مما يتعلقُ بالرسالة أصلاً، وصيغةُ المضارع لبيانِ أن ذلك أمرٌ مستمرٌّ جرتْ عليه العادةُ الإلهية، وقوله تعالى: {إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} حالان مقدّرتان من المُرْسلين أي ما نرسِلُهم إلا مقدَّراً تبشيرُهم وإنذارُهم ففيهما معنى العلةِ الغائيّة قطعاً أي ليبشروا قومَهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعقاب على المعصية أي ليُخبروهم بالخبر السار والخبرِ الضارّ دنيوياً كان أو أُخروياً من غير أن يكون لهم دخلٌ ما في وقوع المخبَر به أصلاً، وعليه يدور القصرُ والإلزام أن لا يكون بيان الشرائع والأحكام من وظائف الرسالة، والفاء في قوله تعالى: {فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها و{من} موصوله والفاء في قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لشَبَه الموصول بالشرط أي لا خوف عليهم من العذاب الذي أُنذِروه دنيوياً كان أو أخروياً ولا هم يحزنون بفوات ما بُشِّروا به من الثواب العاجل والآجل. وتقديمُ نفْيِ الخوفِ على نفْيِ الحُزْن لمراعاة حقِّ المقام، وجمعُ الضمائر الثلاثة الراجعة إلى {من} باعتبار معناها، كما أن إفرادَ الضميرَيْن السابقين باعتبار لفظِهما، أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يوهمه كونُ الخبر في الجملة الثانية مضارعاً لما تقرر في موضعه من أن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرارَ بحسب المقام، ألا يُرى أن الجملةَ الاسمية تدل بمعونة المقام على استمرار الثبوت فإذا دخل عليها حرفُ النفي دلت على استمرار الانتفاءِ لا على انتفاء الاستمرار، كذلك المضارعُ الخالي عن حرف النفي يفيد استمرارَ الثبوت فإذا دخل عليه حرفُ النفي يفيد استمرارَ الانتفاء لا انتفاء الاستمرار ولا بُعْد في ذلك، فإن قولك: ما زيداً ضربت مفيدٌ لاختصاص النفي لا نفي الاختصاص، كما بُيّن في محله.

.تفسير الآيات (49- 50):

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)}
وقوله عز وجل: {والذين كَذَّبُواْ} عطفٌ على مَنْ آمن داخلٌ في حكمه وقوله تعالى: {بآياتنا} إشارة إلى أن ما ينطِقُ له الرسلُ عليهم السلام عند التبشير والإنذار ويبلّغونه إلى الأمم آياتُه تعالى، وأن من آمن به فقد آمن بآياته تعالى، ومن كذب به فقد كذب بها، وفيه من الترغيب في الإيمان والتحذيرِ عن تكذيبه ما لا يخفى. والمعنى ما نرسل المرسلين إلا ليُخبروا أممهم من جهتنا بما سيقع منا من الأمور السارّة والضارّة لا ليُوقعوها استقلالاً من تلقاء أنفسهم، أو استدعاءً من قِبَلِنا، حتى يقترحوا، فإذا كان الأمرُ كذلك فمن آمن بما أَخبروا به من قبلنا تبشيراً أو إنذاراً في ضمن آياتنا، وأصلح ما يجب إصلاحُه من أعماله، أو دخل في الصلاح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. والذين كذبوا بآياتنا التي بُلِّغوها عند التبشير والإنذار {يَمَسُّهُمُ العذاب} أي العذاب الذي أُنذِروه عاجلاً، أو آجلاً، أو حقيقةُ العذاب وجنسُه المنتظمُ له انتظاماً أولياً {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بسبب فسقهم المستمر الذي هو الإصرارُ على الخروج عن التصديق والطاعة.
{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} استئنافٌ مبنيٌّ على ما أسِّسَ من السنة الإلهية في شأنِ إرسالِ الرسل وإنزالِ الكتُب، مَسوقٌ لإظهار تبرِئتِه صلى الله عليه وسلم عما يدورُ عليه مقترحاتُهم، أي قل للكفرة الذين يقترحون عليك تارةً تنزيلَ الآياتِ وأخرى غيرَ ذلك لا أدَّعي أن خزائنَ مقدوراتِه تعالى مُفوَّضةٌ إلي أتصرَّفُ فيها كيفما أشاء استقلالاً أو استدعاءً، حتى تقترحوا عليّ تنزيلَ الآياتِ أو إنزالَ العذاب، أو قلبَ الجبال ذهباً، أو غيرَ ذلك مما لا يليق بشأني، وجعلُ هذا تبرُّؤاً عن دعوى الإلهية مما لا وجهَ له قطعاً، وقوله تعالى: {وَلا أَعْلَمُ الغيب} عطفٌ على محلَّ {عندي خزائنُ الله}، أي لا أدّعي أيضاً أني أعلم الغيبَ من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب أو نحوهما {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ} حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقةِ للعادات ما لا يُطيق البشرُ من الرُقيِّ في السماء ونحوه، أو تعدوا عدمَ اتّصافي بصفاتهم قادحاً في أمري كما ينبىء عنه قولهم: {مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِي الاسواق} والمعنى إني لا أدَّعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثةِ حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها، وتجعلوا عدمَ إجابتي إلى ذلك دليلاً على عدم صحةِ ما أدَّعيه من الرسالة التي لا تعلُّقَ لها بشيء مما ذُكر قطعاً بل إنما هي عبارةٌ عن تلقِّي الوحْي من جهةِ الله عز وجل، والعملِ بمقتضاه فحسْب، حسْبما ينبىء عنه قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه دون غيره بتوجيه القَصْر إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمال الشائعُ الواردُ على توجيه القصْر إلى ما يتعلّق بالفعل باعتبار النفي في الأصل، والإثبات في القيد، بل على معنى تخصيص حالِه صلى الله عليه وسلم باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصرِ إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغرّه من الأفعال، لكن لا باعتبار النفي والإثباتِ معاً في خصوصية، فإن ذلك غيرُ ممكن قطعاً، بل باعتبار النفي فيما يتضمّنه من مُطلق الفعل، والإثباتِ فيما يقارنه من المعنى المخصوص، فإنّ كلَّ فعلٍ من الأفعال الخاصَّةِ كنصر مثلاً ينحلّ عند التحقيق إلى معنىً مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعل وإلى معنىً خاصَ يقوم به فإن معناه فعَلَ النصْرَ، يُرشدك إلى ذلك قولُهم: فلانٌ يُعطي ويمنع بمعنى يفعل الإعطاء والمنع، فموردُ القصر في الحقيقة ما يتعلقُ بالفعل بتوجيه النفي إلى الأصل والإثباتِ إلى القيد، كأنه قيل: ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يوحى إليّ مِنْ غير أن يكون لي مدخَلٌ ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء، أو بوجهٍ آخرَ من الوجوه أصلاً.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير} مثل للضال والمهتدي على الإطلاق، والاستفهام إنكاري والمراد إنكارُ استواءِ مَنْ لا يعلم ما ذُكر من الحقائق ومن يعلمُها وفيه من الإشعار بكمالِ ظهورِها ومن التنفير عن الضلالِ والترغيب في الاهتداء ما لا يخفى، وتكريرُ الأمر لتثنية التبكيتِ وتأكيدِ الإلزام، وقوله تعالى: {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} تقريعٌ وتوبيخٌ داخلٌ تحت الأمر، والفاء للعطف على مقدَّر يقتضيه المقام، أي ألا تسمعون هذا الكلامَ الحقَّ فلا تتفكرون فيه، أو أتسمعون فلا تتفكرون فيه، فمناطُ التوبيخِ في الأول عدمُ الأمرَيْنِ معاً، وفي الثاني عدم التفكر مع تحقق ما يُوجبه.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)}
{وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ} بعد ما حكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الكفرة قوماً لا يتعظون بتصريف الآيات الباهرة، ولا يتأثرون بمشاهدة المعجزات القاهرة، قد إيفت مشاعرُهم بالكلية، والتحقوا بالأموات، وقرَّر ذلك بأن كرَّر عليهم من فنون التبكيت والإلزام ما يُلقِمُهم الحجرَ أيَّ إلقامٍ فأبَوا إلا الإباءَ والنكيرَ، وما نجَع فيهم عِظةٌ ولا تذكير، وما أفادهم الإنذارُ إلا إصراراً على الإنكار، أُمر عليه الصلاة والسلام بتوجيه الإنذار إلى مَنْ يتوقعُ منهم التأثرَ في الجملة وهم المجوِّزون منهم لحشر على الوجه الآتي، سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعضِ المشركين المعترفين بالبعث، المتردِّدين في شفاعة آبائهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخِرين أو متردّدين فيهما معاً كبعض الكفرة الذين يُعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقاً، وأما المنكرون للحشر رأساً والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أُمر بإنذراهم، وقد قيل: هم المفرِّطون في الأعمال من المؤمنين، ولا يساعده سِباقُ النظم الكريم ولا سياقه، بل فيه ما يقضي باستحالة صحته كما ستقف عليه، والضميرُ المجرورُ لما يوحى أو لما دل هو عليه من القرآن، والمفعولُ الثاني للإنذار إما العذابَ الأخرويَّ المدلولَ عليه بما في حيز الصلة وإما مطلقَ العذاب الذي ورد به الوعيدُ، والتعرّضُ لعنوان الربوبية المُنْبئة عن المالكيةِ المطلقةِ والتصرّف الكليِّ لتربية المهابة وتحقيق المخافة، وقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} في حيز النصْب على الحالية من ضمير {يُحشروا}، و{من} متعلقةٌ بمحذوف وقع حالاً من اسم ليس، لأنه في الأصل صفة له فلما قدم عليه انتصب حالاً، خلا أن الحال الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف، وتحقيقِ أن ما نيط به الخوفُ هو الحشر على تلك الحالة لا الحشرُ كيفما كان، ضرورةَ أن المعترفين به الجازمين بنُصرة غيرِه تعالى بمنزلةِ المنكرين له في عدم الخوفِ الذي عليه يدورُ أمرُ الإنذار، وأما الحالُ الثانية فليست لإخراج الوليِّ الذي لم يقيَّد بها عن حيز الانتفاء لفساد المعنى لاستلزام ثبوتِ ولايتِه تعالى لهم كما في قوله تعالى: {وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} بل لتحقيق مدارِ خوفهم وهو فُقدان ما علّقوا به رجاءَهم، وذلك إنما هو ولايةُ غيرِه سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الارض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} والمعنى أنذر به الذين يخافون أن يُحشروا غيرَ منصورين من جهة أنصارهم على زعمهم، ومن هذا اتضح ألا سبيلَ إلى كون المرادِ بالخائفين المفرِّطين من المؤمنين، إذ ليس لهم وليٌّ سواه تعالى ليخافوا الحشرَ بدون نُصرته وإنما الذين يخافون الحشرَ بدون نصرته عز وجل، وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} تعليل الأمر، أي أنذِرْهم لكي يتقوا الكفرَ والمعاصيَ أو حال من ضمير الأمر، أي أنذِرْهم راجياً تقواهم أو مِن الموصول أي أنذرهم مرجواً منهم التقوى.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)}
{وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى} لما أُمر صلى الله عليه وسلم بإنذار المذكورين لينتظموا في سلك المتقين نُهِيَ صلى الله عليه وسلم عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم. رُوي أن رؤساءَ من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو طردتَ هؤلاء الأعبُدَ وأرواحَ جبابهم يعنون فقراءَ المسلمين كعمارٍ وصهيبٍ وخبابٍ وسَلمانَ وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم جلسنا إليك وحادثناك. فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بطارد المؤمنين فقالوا: فأقِمْهم عنا إذا جئنا، فإذا قُمنا فأقعِدْهم معك إن شئت، قال صلى الله عليه وسلم: نعم طمعاً في إيمانهم». ورُوي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له عليه الصلاة والسلام: «لو فعلتَ حتى تنظرَ إلى ما يصيرون؟»وقيل: إن عُتبةَ بنَ ربيعةَ وشيبةَ بنَ ربيعةَ ومُطعِمَ بنَ عديَ والحارثَ بنَ نوفل وقرصةَ بنَ عبيد وعمروَ بنَ نوفل وأشرافَ بني عبد مناف من أهل الكفر أتَوا أبا طالب فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابنَ أخيك محمداً يطرُد مواليَنا وحلفاءنا وهم عبيدُنا وعتقاؤُنا كان أعظمَ في صدورنا، وأدنى لاتّباعنا إياه، فأتى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه، فقال عمر رضي الله عنه: لو فعلتَ ذلك حتى تنظرَ ما الذي يريدون، وإلامَ يصيرون؟ وقال سلمان وخباب: فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرعُ بنُ حابسٍ التميمي وعُيَيْنةُ بنُ حِصْنٍ الفزاريُّ وعباسُ بنُ مِرْداسٍ وذووهم من المؤلفة قلوبُهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أناسٍ من ضعفاءِ المؤمنين، فلما رأوهم حوله صلى الله عليه وسلم حقَروهم فأتَوْه عليه الصلاة والسلام فقالوا: «يا رسول الله لو جلستَ في صدر المسجد، ونفَيْتَ عنا هؤلاء وأرواحَ جبابهم فجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بطارد المؤمنين قالوا: فإنا نحب أن تجعل لنا معك مجلساً تعرِفْ لنا به العربُ فضلَنا فإن وفودَ العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبُد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال صلى الله عليه وسلم: نعم قالوا: فاكتب لنا كتاباً فدعا بالصحيفة وبعليَ رضي الله تعالى عنه ليكتبَ ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريلُ عليه السلام بالآية، فرمى عليه السلام بالصحيفة ودعانا فأتيناه وجلسنا عنده، وكنا ندنو منه حتى تمَسَّ رُكَبُنا رُكبتَه، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال: الحمد لله الذي لم يُمتْني حتى أمرني أن أصبِرَ نفسي مع قومٍ من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات» والمرادُ بذكر الوقتين الدوامُ وقيل: صلاةُ الفجر والعصر وقرئ {بالغُدوة} وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} حال من ضمير {يدعون} أي يدعونه تعالى مخلصين له فيه، وتقييدُه به لتأكيد علِّيتِه للنهي، فإن الإخلاصَ من أقوى موجبات الإكرام المضادِّ للطرد، وقوله تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء} اعتراضٌ وسطٌ بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى يُتوَهم كونُه مسوِّغاً لطردهم من أقاويلِ الطاعنين في دينهم، كدأب قوم نوحٍ حيث قالوا: {مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} أي ما عليك شيءٌ ما مِنْ حساب إيمانهم وأعمالِهم الباطنة حتى تتصدَّى له وتنْبي على ذلك ما تراه من الأحكام، وإنما وظيفتُك حسبما هو شأنُ منصِبِ النبوة اعتبارُ ظواهرِ الأعمال وإجراءُ الأحكام على موجبها، وأما بواطنُ الأمور فحسابُها على العليم بذات الصدور كقوله تعالى: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى} وذكرُ قوله تعالى: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء} مع أن الجوابَ قد تم بما قبله للمبالغة في بيان انتفاءِ كون حسابِهم عليه صلى الله عليه وسلم بنظمه في سِلْك ما لا شُبهة فيه أصلاً، وهو انتفاءُ كونِ حسابه عليه السلام عليهم على طريقة قولِه تعالى: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلةَ جملةٍ واحدةٍ لتأدية معنى واحدٍ على نهج قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} فغيرُ حقيقٍ بجلالة شأن التنزيل، وتقديم {عليك} في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله عليه وسلم إذ هو الداعي إلى تصدّيه عليه الصلاة والسلام لحسابهم، وقيل: الضمير للمشركين، والمعنى: أنك لا تؤاخَذُ بحسابهم حتى يُهمَّك إيمانُهم ويدعُوَك الحِرْصُ عليه إلى أن تطرُدَ المؤمنين، وقوله تعالى: {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي وقوله تعالى: {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} جواب النهي وقد جُوِّز عطفُه على {فتطردَهم} على طريقة التسبيب وليس بذاك.