فصل: تفسير الآيات (85- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (85- 86):

{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)}
{وَزَكَرِيَّا} وهو ابنُ آذَنَ {ويحيى} ابنُه {وَعِيسَى} هو ابنُ مريم، وفيه دليلٌ على أن الذرية تتناول أولادَ البنات {وَإِلْيَاسَ} قيل: هو إدريسُ جدُّ نوحٍ، فيكونُ البيانُ مخصوصاً {بمِنْ} في الآية الأولى، وقيل: هو من أسباطِ هارونَ أخي موسى عليهما السلام {كُلٌّ} أي كلُّ واحدٍ من أولئك المذكورين {مّنَ الصالحين} أي من الكاملين في الصلاحِ الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بما ينبغي، والتحرُّز عما لا ينبغي، والجملة اعتراضٌ جيءَ به للثناءِ عليهم بالصلاح {وإسماعيل واليسع} وهو ابنُ أخطوبَ بنِ العجوز، وقرئ {واللَّيْسعَ} وهو على القراءتين علم أعجميٌّ أُدخل عليه اللام ولا اشتقاق له، ويقال: إنه يوشَعُ بن نون، وقيل: إنه منقولٌ من مضارعِ وسِعَ واللام كما في يزيدَ في قوله من قال:
رأيتُ الوليدَ بنَ اليزيدَ مباركا ** شديداً بأعباءِ الخِلافة كاهلُه

{وَيُونُسَ} وهو ابن متى {وَلُوطاً} هو ابنُ هارونَ بنِ أخي إبراهيمَ عليه السلام {وَكُلاًّ} أي وكلَّ واحدٍ من أولئك المذكورين {فَضَّلْنَا} بالنبوة لا بعضَهم دون بعض {عَلَى العالمين} على عالَمي عصرهم، والجملةُ اعتراضٌ كأختَيْها.

.تفسير الآيات (87- 89):

{وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)}
وقوله تعالى: {وَمِنْ ءابَائِهِمْ وذرياتهم وإخوانهم} إما متعلقٌ بما تعلق به {من ذريته} ومن ابتدائية، والمفعول محذوف، أي وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعاتٍ كثيرةً، وإما معطوف على {كلاًّ} ومن تبعيضية، أي وفضلنا بعضَ آبائهم إلخ {واجتبيناهم} عطفٌ على {فضلنا} أي اصطفيناهم {وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} تكريرٌ للتأكيدِ وتمهيدٌ لبيان ما هُدوا إليه.
{ذلك} إشارةٌ إلى ما يُفهم من النظم الكريم من مصادرِ الأفعال المذكورة وقيل: ما دانوا به، وما في ذلك من معنى البُعد لما مر مراراً {هُدَى الله} الإضافة للتشريف {يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} وهم المستعدّون للهداية والإرشاد، وفيه إشارةٌ إلى أنه تعالى متفضِّلٌ بالهداية {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} أي هؤلاءِ المذكورون {لَحَبِطَ عَنْهُمْ} مع فضلهم وعلوِّ طبقاتِهم {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الأعمال المَرْضيّة الصالحة، فكيف بمَنْ عداهم وهُم هُم وأعمالُهم أعمالُهم {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين من الأنبياء الثمانيةَ عشَرَ، والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافِهم بما ذُكر من الهداية وغيرِها من النعوت الجليلةِ الثابتةِ لهم، وما فيه من معنى البعد لما مرّ غيرَ مرة من الإيذان بعلوِّ طبقتهم وبُعْدِ منزلتهم في الفضل والشرف، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب} أي جنسَ الكتاب المتحقِّقِ في ضمن أيِّ فردٍ كان من أفراد الكتب السماوية، والمرادُ بإتيانِه التفهيمُ التام، بما فيه من الحقائق، والتمكينُ من الإحاطةِ بالجلائلِ والدقائق أعمُّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداءً، أو بالإيراث بقاءً، فإن المذكورين لم يُنْزَلْ على كل واحد منهم كتابٌ معين {والحكم} أي الحِكمةَ أو فصلَ الأمر على ما يقتضيه الحقُّ والصواب {والنبوة} أي الرسالة {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين {هَؤُلاء} أي كفارُ قريشٍ فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون بما يصدِّقه جميعاً، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفاعل لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدَّم والتشويق إلى المؤخّر {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي أمَرْنا بمراعاتها ووفَّقْنا للإيمان بها والقيامِ بحقوقها {قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} أي في وقت من الأوقات، بل مستمرون على الإيمان بها، فإن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تفيد دوامَ الثبوت كذلك السلبيةُ تُفيدُ دوامَ النفي بمعونةِ المقام، لا نفيَ الدوام كما حُقِّق في مقامه، قال ابنُ عباس ومجاهدٌ رضي الله تعالى عنهما: هم الأنصارُ وأهلُ المدينة، وقيل: أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل مؤمن من بني آدم، وقيل: الفرس، فإن كلاًّ من هؤلاء الطوائف موَفّقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المُنْزَلة إليهم، عاملون بما فيها من أصول الشرائعِ وفروعِها الباقية في شريعتنا، وبه يتحقق الخروجُ عن عُهدة التوكيل والتكليفِ دون المنسوخة منها، فإنها بانتساخها خارجة عن كونها من أحكامها، وقد مر تحقيقُه في تفسير سورة المائدة.
وقيل: هو الأنبياءُ المذكورون، فالمرادُ بالتوكيل الأمرُ بما هو أعمُّ من إجراء أحكامِها كما هو شأنُها في حق كتابهم ومِنِ اعتقاد حقِّيتِها كما هو شأنُها في حق سائرِ الكتبِ التي من جملتها القرآنُ الكريم، وقيل: هم الملائكةُ فالتوكيل هو الأمرُ بإنزالها وحفظِها واعتقادِ أحقّيتها، وأياً ما كان فتنكيرُ {قوماً} للتفخيم. والباء الأولى صلة وكلنا على مفعوله الصريح، فلِما ذكر آنفاً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، ولأن فيه نوعَ طولٍ ربما يؤدِّي تقديمُه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم، أو إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف، وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه المذكور، أي فإن يكفُرْ بها هؤلاءِ فلا اعتدادَ به أصلاً، فقد وفّقنا للإيمان بها قوماً فِخاماً ليسوا بكافرين بها قطعاً، بل مستمرون على الإيمان بها، والعملِ بما فيها، ففي إيمانهم بها مندوحةٌ عن إيمان هؤلاء، ومن هذا تبيّن أن الوجه أن يكونَ المرادُ بالقوم إحدى الطوائفِ المذكورة، إذْ بإيمانهم بالقرآن والعملِ بأحكامه تتحقّقُ الغُنية عن إيمان الكَفَرة به والعملِ بأحكامه وأما الأنبياءُ والملائكةُ عليهم السلام فإيمانُهم به ليس من قبيل إيمانِ آحادِ الأمةِ كما أشير إليه.

.تفسير الآيات (90- 91):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}
{أولئك} إشارةٌ إلى الأنبياء المذكورين، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوِّ رُتبتهم، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: {الذين هَدَى الله} أي إلى الحق والنهج المستقيم، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} أي فاختصَّ هداهم بالاقتداء، ولا تقتَدِ بغيرهم والمرادُ بهداهم طريقتُهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيدِه وأصولِ الدين دون الشرائعِ القابلةِ للنسخ، فإنها بعد النسخ لا تبقى هُدىً والهاء في {اقتده} للوقف حقها أن تسقط في الدّرْج، واستُحسن إثباتُها فيه أيضاً إجراءً له مُجرى الوقفِ واقتداءً بالإمام، وقرئ بإشباعها على أنها كناية المصدر.
{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على القرآن أو على التبليغ، فإن مَساقَ الكلامِ يدل عليهما وإن لم يَجْرِ ذكرُهما {أَجْراً} من جهتكم كما لم يسألْه مَنْ قبلي من الأنبياء عليهم السلام، وهذا من جملة ما أُمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم فيه {إِنْ هُوَ} أي ما القرآنُ {إِلاَّ ذكرى للعالمين} أي عظةٌ وتذكيرٌ لهم كافةً من جهته سبحانه فلا يختَصُّ بقوم دون آخرين.
{وَمَا قَدَرُواْ الله} لما بيَّن شأنَ القرآنِ العظيم وأنه نعمةٌ جليلةٌ منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطَقَ به قولُه تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} عقّب ذلك ببيان غمْطِهم إياها، وكفرِهم بها على وجْهٍ سرَى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية، وأصلُ القدْر السبْرُ والحزْرُ، يقال: قدَر الشيء يقدرُه بالضم قدْراً إذا سبَره وحزَره ليعرِف مقداره ثم استُعمل في معرفة الشيء في مقداره وأحوالِه وأوصافِه.
وقوله تعالى: {حَقَّ قَدْرِهِ} نُصب على المصدرية، وهو في الأصل صفةٌ للمصدر أي قدْرَه الحقَّ، فلما أضيف إلى موصوفه انتصبَ على ما كان ينتصبُ عليه موصوفُه، أي ما عرفوه تعالى حقَّ معرفتِه في اللُطف بعباده والرحمةِ عليهم، ولم يُراعوا حقوقَه تعالى في ذلك، بل أخلّوا بها إخلالاً {إِذْ قَالُواْ} منكرين لبِعثة الرسلِ وإنزالِ الكتُب كافرين بنعمته الجليلةِ فيهما {مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء} فنفى معرفتَهم لقَدْره سبحانه كنايةً عن حطِّهم لقدرِه الجليل ووصفهم له تعالى بنقيضِ نعتِه الجميل كما أن نفيَ المحبةِ في مثل {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} كنايةٌ عن البغض والسُخط، وإلا فنفيُ معرفةِ قدرِه تعالى يتحقق مع عدم التعرُّض لحطِه، بل مع السعْي في تحصيل المعرفةِ كما في قول مَن يناجي مستقصِراً لمعرفته وعبادته: سبحانك ما عرَفناك حقَّ معرفتِك، وما عبدناك حقَّ عبادتك. أو ما عرفوه حقَّ معرفتِه في السُخط على الكفار وشدّةِ بطشِه تعالى بهم حسْبما نطقَ به القرآنُ حين اجترأوا على التفوُّه بهذه العظيمةِ الشنعاءِ، فالنفيُ بمعناه الحقيقي والقائلون هم اليهودُ وقد قالوه مبالغةً في إنكار إنزالِ القرآنِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُلزِموا بما لا سبيلَ إلى إنكاره أصلاً حيث قيل: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَاء بِهِ موسى} أي قل لهم ذلك على طريقة التبكيت وإلقامِ الحجر، وروي أن مالكَ بنَ الصيف من أحبار اليهودِ ورؤسائِهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أنشُدُك الله الذي أنزل التوراةَ على موسى هل تجدُ فيها الله يُبغض الحِبرَ السمين؟ فأنت الحِبرُ السمين، قد سمِنْتَ من مالك الذي تُطعمُك اليهود» فضحك القومُ فغضبَ ثم التفت إلى عمرَ رضي الله عنه فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء فنزعوه وجعلوا مكانه كعبَ بنَ الأشرف، وقيل: هم المشركون وإلزامُهم إنزالُ التوراة لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعةِ، ولذلك كانوا يقولون: {لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ} ووصفُ الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريعِ وتشديدِ التبكيت، وكذا تقييدُه بقوله تعالى: {نُوراً وَهُدًى} فإن كونَه بيّناً بنفسه ومبيِّناً لغيره مما يؤكد الإلزامَ أيَّ تأكيدٍ، وانتصابُهما على الحالية من الكتاب، والعامل {أَنزل} أو من الضمير في {به}، والعامل {جاء} واللام في قوله تعالى: {لِلنَّاسِ} إما متعلقٌ بهدىً، أو بمحذوفٍ هو صفة له، أي هدى كائناً للناس وليس المرادُ بهذا مجردَ إلزامِهم بالاعتراف بإنزال التوراةِ فقط بل إنزالِ القرآنِ أيضاً، فإن الاعترافَ بإنزالها مستلزِمٌ للاعتراف بإنزاله قطعاً، لما فيها من الشواهد الناطقةِ به، وقد نعى عليهم ما فعلوا بها من التحريف والتغييرِ حيث قيل: {تَجْعَلُونَهُ قراطيس} أي تضعونه في قراطيسَ مقطَّعةٍ، وورَقاتٍ مفرَّقة، بحذف الجارِّ بناءً على تشبيه القراطيس بالظرف المُبْهم، أو تجعلونه نفسَ القراطيس المقطعة، وفيه زيادةُ توبيخٍ لهم بسوء صنيعِهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزّلوه منزلةَ القراطيسِ الخاليةِ عن الكتابة، والجملة حالٌ كما سبق وقوله تعالى: {تُبْدُونَهَا} صفةٌ لقراطيسَ، وقوله تعالى: {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} معطوفٌ عليه، والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ، أي كثيراً منها، وقيل: كلامٌ مبتدأ لا محل له من الإعراب، والمرادُ بالكثير نعوتُ النبي عليه الصلاة والسلام وسائرُ ما كتموه من أحكام التوراة، وقرئ الأفعالُ الثلاثة بالياء حملاً على قالوا وما قدروا.
وقوله تعالى: {وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ} قيل: هو حالٌ من فاعل تجعلونه بإضمار قد، أو بدونه على اختلاف الرأيين. قلت: فينبغي أن يجعل {ما} عبارةً عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائعِ ليكون التقييدُ بالحال مفيداً لتأكيد التوبيخِ وتشديدِ التشنيع، فإن ما فعلوه بالكتاب من التفريق والتقطيعِ لما ذُكر من الإبداءِ والإخفاءِ شناعةٌ عظيمة في نفسها، ومع ملاحظة كونه مأخذاً لعلومهم ومعارفِهم أشنعَ وأعظمَ، لا عما تلقَّوْه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم زيادةً على ما في التوراة وبياناً لما التَبَس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسْبما ينطِقُ به قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} كما قالوا لأنّ تلقَّيَهم لذلك من القرآن الكريم ليس مما يزجُرهم عما صنعوا بالتوراة أما ما ورد فيه زيادةً على ما فيها فلأنه لا تعلّقَ له بها نفياً ولا إثباتاً، وأما ما ورد بطريق البيانِ فلأن مدارَ ما فعلوا بالتوراة من التبديل والتحريفِ ليس ما وقع فيها من التباس الأمرِ واشتباهِ الحال حتى يُقلِعوا عن ذلك بإيضاحه وبيانِه فتكونَ الجملةُ حينئذ خاليةً عن تأكيد التوبيخ، فلا تستحق أن تقعَ موقع الحال بل الوجهُ حينئذٍ أن تكون استئنافاً مقرِّراً لما قبلها من مجيءِ الكتابِ بطريق التكملةِ والاستطراد والتمهيدِ لما يعقُبه من مجيءِ القرآن، ولا سبيلَ إلى جعل {ما} عبارةً عما كتموه من أحكام التوراةِ كما يفصح عنه قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} فإن ظهورَه وإن كان مزْجَرةً لهم عن الكتم مخافةَ الافتضاح ومصحِّحاً لوقوعِ الجملة في موقع الحالِ لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتماً. هذا، وقد قيل: الخطابُ لمن آمن من قريش كما في قوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ} وقولُه تعالى: {قُلِ الله} أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُجيبَ عنهم إشعاراً بتعيّن الجواب بحيث لا محيدَ عنه وإيذاناً بأنهم أُفحموا ولم يقدِروا على التكلم أصلاً {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} في باطلهم الذي يخوضون فيه ولا عليك بعد إلزامِ الحجة وإلقامِ الحجر {يَلْعَبُونَ} حال من الضمير الأول، والظرفُ صلة للفعل المقدّم أو المؤخر أو متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من مفعولِ الأولِ أو من فاعل الثاني أو من الضمير الثاني لأنه فاعلٌ في الحقيقة والظرفُ متَّصل بالأول.

.تفسير الآية رقم (92):

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}
{وهذا كتاب أنزلناه} تحقيقٌ لنزول القرآن الكريم بعد إنزال ما بَشَّر به من التوراة، وتكذيبٌ لهم في كلمتهم الشنعاءِ إثرَ تكذيبٍ {مُّبَارَكٌ} أي كثيرُ الفوائد وجمُّ المنافع {مُّصَدّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة لنزوله حسبما وُصِف فيها أو الكتُبِ التي قبله فإنه مصدِّقٌ للكل في إثبات التوحيد والأمرِ به ونفي الشرْك والنهي عنه وفي سائر أصولِ الشرائعِ التي لا تُنسخ {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى} عطفٌ على ما دل عليه {مبارك} أي للبركات ولإنذراك أهلَ مكةَ وإنما ذُكرت باسمها المُنبىءِ عن كونها أعظمَ القرى شأناً وقِبْلةً لأهلها قاطبةً إيذاناً بأن إنذارَ أهلِها أصلٌ مستتبِعٌ لإنذار أهلِ الأرضِ كافةً، وقرئ {لينذر} بالياء على أن الضمير للكتاب {وَمَنْ حَوْلَهَا} من أهل المدَر والوبَر في المشارق والمغارب {والذين يُؤْمِنُونَ بالاخرة} وبما فيها من أفانين العذاب {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بالكتاب لأنهم يخافون العاقبةَ ولا يزال الخوف يحمِلُهم على النظر والتأمُّل حتى يؤمنوا به {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} تخصيصُ محافظتِهم على الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات التي لابد للمؤمنين من أدائها للإيذان بإنافتِها من بين سائر الطاعات وكونِها أشرفَ العباداتِ بعد الإيمان.

.تفسير الآيات (93- 94):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} فزعَم أنه تعالى بعثه نبياً كمسيلِمةَ الكذابِ والأسودِ العنسيِّ أو اختلق عليه أحكاماً من الحِلِّ والحُرمة كعَمْرِو بنِ لُحَيَ ومتابعيه أي هو أظلمُ من كلِّ ظالمٍ وإن كان سبكُ التركيبِ على نفي الأظلمِ منه وإنكارِه من غير تعرضٍ لنفْي المساوي وإنكارِه فإن الاستعمالَ الفاشيَ في قولك: مَنْ أفضلُ من زيدٍ أو لا أكرمَ منه على أنه أفضلُ من كل فاضلٍ وأكرمُ من كل كريم، وقد مر تمامُ الكلام فيه {أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ} من جهته تعالى {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} أي والحال أنه لم يوح إليه {شَىْء} أصلاً كعبد اللَّه بنِ سعدِ بنِ أبي سَرْح كان يكتُب للنبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} فلما بلغ {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} قال عبد اللَّه: تبارك الله أحسنُ الخالقين تعجباً من تفصيل خلقِ الإنسان ثم قال عليه الصلاة والسلام: «اكتُبها كذلك» فشك عبدُ اللَّه وقال: لئن كان محمد صادقاً فقد أُوحيَ إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذباً فقد قلت كما قال. {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله} كالذين قالوا: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا}
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون} حُذف مفعولُ ترى لدِلالة الظرفِ عليه أي ولو ترى الظالمين إذ هم {فِى غَمَرَاتِ الموت} أي شدائده من غَمَره إذا غشِيَه {والملئكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} بقبض أرواحِهم كالمتقاضي الملظ المُلِحّ يبسُط يدَه إلى من عليه الحقُّ ويعنِّف عليه في المطالبة من غير إمهالٍ وتنفيسٍ، أو باسطوها بالعذاب قائلين: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} أي أخرجوا أرواحَكم إلينا من أجسادكم أو خلِّصوا أنفسكم من العذاب {اليوم} أي وقتَ الإماتة أو الوقتَ الممتدّ بعده إلى ما لا نهاية له {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي العذابَ المتضمِّنَ لشدةٍ وإهانةٍ فإضافتُه إلى الهون وهو الهوانُ لعراقته فيه {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق} كاتخاذ الولد له ونسبةِ الشريك إليه وادعاءِ النبوة والوحيِ كاذباً {وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ} فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون بها.
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} للحساب {فرادى} منفردين عن الأموال والأولاد وغيرِ ذلك مما آثَرْتُموه من الدنيا أو عن الأعوان والأصنامِ التي كنتم تزعُمون أنها شفعاؤكم وهو جمع فَرْد والألفُ للتأنيث ككسالى وقرئ {فِراداً} كرجال وفَرادَ كثلاثَ وفَرْدَى كسَكْرى {كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} بدل من فرادى أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد أو حالٌ ثانية عند من يجوِّزُ تعددَها أو حال من الضمير في فرادى أي مُشْبِهين ابتداءَ خلقِكم عُراةً حُفاة غُرْلاً بُهْماً أو صفةُ مصدرِ {جئتمونا} أي مجيئاً كخلقنا لكم أول مرة {وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم} تفضّلناه عليكم في الدنيا فشُغِلتم به عن الآخرة {وَرَاء ظُهُورِكُمْ} ما قدمتم منه شيئاً ولم تحمِلوا نقيراً {وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} أي شركاءُ الله تعالى في الربوبية واستحقاقِ العبادة {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي وقع التقطعُ بينكم كما يقال: جمع بين الشيئين أي أوقع الجمعَ بينهما وقرئ {بينُكم} بالرفع على إسناد الفعل إلى الظرف كما يقال: قوتل أمامُكم وخلفُكم أو على أن البينَ اسمٌ للفصل والوصل أي تقطع وصلُكم وقرئ: {ما بينَكم} {وَضَلَّ عَنكُم} أي ضاع أو غاب {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنها شفعاؤكم أو أن لا بعثَ ولا جزاء.