فصل: تفسير الآية رقم (111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (111):

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة} تصريحٌ بما أشعَرَ به قولُه عز وجل: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} من الحكمة الداعيةِ إلى ترك الإجابةِ إلى ما اقترحوه من الآيات إثرَ بيانِ أنها في حُكمه وقضائه المبنيِّ على الحِكَم البالغةِ لا مدخلَ لأحد في أمرها بوجه من الوجوه، وبيانٌ لكذبهم في أيْمانهم الفاجرةِ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه أي ولو أننا لم نقتصِرْ على إيتاء ما اقترحوه هاهنا من آية واحدةٍ من الآيات بل نزلنا إليهم الملائكةَ كما سألوه بقولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة} وقولِهم: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة} {وَكَلَّمَهُمُ الموتى} وشهدوا بحقية الإيمانِ بعد أن أحييناهم حسبما اقترحوه بقولهم: فأتوا بآبائنا {وَحَشَرْنَا} أي جمعنا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شيء قُبُلاً} بضمتين وقرئ بسكون الباء أي كُفلأَ الأمرِ وصدقِ النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه جمعُ قَبيل بمعنى الكفيل كرغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب وهو الأنسب بقوله تعالى: {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً} أي لو لم نقتصِرْ على ما اقترحوه بل زدنا على ذلك بأن أحضرنا لديهم كلَّ شيءٍ يتأتّى منه الكفالةُ والشهادةُ بما ذُكر لا فرادى بل بطريق المعيةِ. أو جماعاتٍ على أنه جمعُ قَبيلٍ وهو جمعُ قبيلة، وهو الأوفق لعموم كلِّ شيءٍ وشمولِه للأنواع والأصنافِ أي حشرنا كلَّ شيء نوعاً نوعاً وصنفاً صنفاً وفوجاً فوجاً، وانتصابُه على الحالية وجمعيتُه باعتبار الكل المجموعيِّ اللازمِ للكل الإفراديِّ أو مقابلةً وعِياناً على أنه مصدرٌ كقِبَلا، وقد قرئ كذلك، وانتصابُه على الوجهين على أنه مصدرٌ في موقع الحالِ، وقد نقل عن المبرِّد وجماعةٍ من أهل اللغة أن الأخيرَ بمعنى الجهة كما في قولك: لي قِبَلَ فلانٍ حقٌّ، وأن انتصابَه على الظرفية {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي ما صح وما استقام لهم الإيمانُ لتماديهم في العصيان وغلوِّهم في التمرد والطُّغيانِ، وأما ما سبق القضاءُ عليهم بالكفر فمن الأحكامِ المترتبةِ على ذلك حسبما ينبىء عنه قولُه عز وجل: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة، أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماعِ ما ذكر من الأمورِ الموجبةِ للإيمان في حال من الأحوال الداعيةِ إليه المتمِّمة لموجباته المذكورةِ إلا في حال مشيئتِه تعالى لإيمانهم أو من أعمّ العللِ أي ما كانوا ليؤمنوا لعلة من العلل المعدودةِ وغيرِها إلا لمشيئته تعالى له، وأياً ما كان فليس المرادُ بالاستثناء بيانَ أن إيمانَهم على خطر الوقوعِ بناءً على كون مشيئتِه تعالى أيضاً كذلك بل بيانَ استحالةِ وقوعِه بناءً على استحالة وقوعِها كأنه قيل: ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وهيهاتَ ذلك وحالُهم حالُهم بدليل ما سبق من قوله تعالى: {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} الآية، كيف لا وقولُه عز وجل: {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} استدراكٌ من مضمون الشرطيةِ بعد ورودِ الاستثناءِ لا قبله، ولا ريبَ في أن الذي يجهلونه سواءٌ أريد بهم المسلمون وهو الظاهرُ، أو المُقسِمون ليس عدمَ إيمانِهم بلا مشيئة الله تعالى كما هو اللازمُ من حمل النظمِ الكريمِ على المعنى الأولِ فإنه ليس مما يعتقده الأولون ولا مما يدّعيه الآخَرون بل إنما هو عدمُ إيمانهم لعدم مشيئتِه إيمانَهم ومرجعُه إلى جهلهم بعدم مشيئتِه إياه فالمعنى أن حالَهم كما شُرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدمَ إيمانِهم عند مجيءِ الآياتِ لجهلهم عدمَ مشيئتِه تعالى لإيمانهم فيتمنَّوْن مجيئَها طمعاً فيما لا يكون. فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} الخ، على القراءة المشهورة، أو ولكن أكثرَ المشركين يجهلون عدمَ إيمانِهم عند مجيء الأيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمائهم حينئذ فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكونُ، فالجملةُ على القراءة السابقةِ بيانٌ مبتدأٌ لمنشأ خطأ المقسِمين ومناطِ إقسامهم وتقريرٌ له على قراءة لا تؤمنون بالتاء الفوقانية وكذا على قراءة وَمَا يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون.

.تفسير الآية رقم (112):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)}
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً} كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لتسلية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما كان يشاهده من عداوة قريشٍ له عليه الصلاة والسلام وما بنَوْا عليها مما لا خير فيه من الأقاويل والأفاعيلِ ببيان أن ذلك ليس مختصاً بل هو أمرٌ ابتُليَ به كلُّ من سبَقك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومحلُّ الكاف النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أشير إليه بذلك منصوبٌ بفعله المحذوفِ مؤكدٌ لما بعده وذلك إشارةٌ إلى ما يفهم مما قبله أي جعلنا لكل نبيَ عدواً والتقديمُ على الفعل المذكورِ للقصر المفيدِ للمبالغة أي مثلَ ذكل الجعلِ الذي جعلنا في حقك لك عدواً يُضادُّونك ويضارُّونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائلَ ويدبّرون في إبطال أمرِك مكايدَ جعلنا لكل نبيَ تقدمَك عدواً فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤُك لا جعلاً أنقصَ منه.
وفيه دليلٌ على أن عداوةَ الكفرةِ للأنبياء عليهم السلام بخلقه تعالى للابتلاء {شياطين الإنس والجن} أي مَرَدةَ الفريقين على أن الإضافة بمعنى مِنْ البيانية، وقيل: هي إضافةُ الصفةِ إلى الموصوف والأصلُ الإنسُ والجنُّ والشياطينُ، وقيل: هي بمعنى اللام أي الشياطين التي للإنس والتي للجن، وهو بدلٌ من عدواً والجعلُ متعدَ إلى واحد أو إلى اثنين وهو أولُ مفعوليْه قُدِّم عليه الثاني مسارعةً إلى بيان العداوةِ، واللام على التقديرين متعلقةٌ بالجعل أو بمحذوف هو حالٌ من عدواً، وقوله تعالى: {يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان أحكامِ عداوتِهم، وتحقيقُ وجهِ الشبهِ بين المشبهِ والمشبَّه به، أو حالٌ من الشياطين أو نعتٌ لعدواً، وجمعُ الضميرِ باعتبار المعنى فإنه عبارةٌ عن الأعداء كما في قوله:
إذا أنا لم أنفعْ صديقي بودّه ** فإن عدوِّي لم يضُرَّهمو بغضي

والوحيُ عبارةٌ عن الإيماء والقول السريعِ، أي يُلقي ويوسوس شياطينُ الجنِّ إلى شياطينِ الإنسِ، أو بعضُ كلَ من الفريقين إلى بعض آخَرَ {زُخْرُفَ القول} أي المموَّهَ منه المزيَّنَ ظاهرُه الباطلَ باطنُه. من زَخْرفه إذا زيّنه. {غُرُوراً} مفعول له ليوحي أي ليغُرّوهم، أو مصدرٌ في موقع الحال أي غارّين أو مصدرٌ مؤكد لفعل مقدرٍ هو حال من فاعل يوحي أي يغرُّون غروراً {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ} رجوعٌ إلى بيان الشؤونِ الجاريةِ بينه صلى الله عليه وسلم وبين قومِه المفهومةِ من حكاية ما جرى بين الأنبياءِ عليهم السلام وبين أُممِهم كما ينبىء عنه الالتفاتُ، والتعرُّضُ لوصف الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم المُعرِبة عن كمال اللطفِ في التسلية أي ولو شاء ربُّك عدمَ الأمورِ المذكورةِ لا إيمانَهم كما قيل فإن القاعدةَ المستمرةَ أن مفعولَ المشيئةِ إنما يحذف عند وقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وهو قوله تعالى: {مَّا فَعَلُوهُ} أي ما فعلوا ما ذكر من عداوتك، وإيحاءِ بعضهم إلى بعض مزخرفاتِ الأقاويلِ الباطلةِ المتعلقةِ بأمرك خاصة لا بما يعمّه وأمورَ الأنبياءِ عليهم السلام أيضاً كما قيل فإن قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} صريحٌ في أن المرادَ بهم الكفرةُ المعاصِرون له عليه الصلاة والسلام أي إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتِك من فنون المفاسد بمشيئته تعالى فاترُكْهم وافتراءَهم أو ما يفترونه من أنواع المكايدِ فإن لهم في ذلك عقوباتٍ شديدةً ولك عواقبُ حميدةٌ لابتناء مشيئتِه تعالى على الحِكَم البالغة البتة.

.تفسير الآيات (113- 114):

{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)}
{ولتصغى إِلَيْهِ} أي إلى زُخرُفِ القولِ وهو على الوجه الأولِ علة أخرى للإيحاء معطوفةٌ على غروراً وما بينهما اعتراضٌ وإنما لم ينصَبْ لفقد شرطِه إذ الغرورُ فعلُ الموحي وصغْوُ الأفئدةِ فعلُ الموحى إليه أي يوحي بعضُهم إلى بعض زُخْرفَ القولِ ليغرِّرَهم به ولتميل إليه {أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة} إنما خصَّ بالذكر عدمُ إيمانِهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمانُ بها وهم بها كافرون إشعاراً بما هو المدارُ في صغْو أفئدتِهم إلى ما يلقى إليهم، فإن لذّاتِ الآخرةِ محفوفةٌ في هذه النشأةِ بالمكاره، وآلامُها مزينةٌ بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراءَ تلك المكارهِ لذّاتٍ ودون هذه الشهواتِ آلاماً وإنما ينظُرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادىءَ الرأي فهم مضطرون إلى حبّ الشهواتِ التي من جملتها مزخْرَفاتُ الأقاويلِ ومُموَّهاتُ الأباطيل وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحالِ ناظرين إلى عواقب الأمورِ لم يُتصوَّر منهم الميلُ إلى تلك المزخرَفاتِ لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتِها.
وأما على الوجهين الأخيرين فهو علةٌ لفعل محذوف يدل عليه المقامُ أي ولكون ذلك جعلنا ما جعلنا، والمعتزلةُ جعلوا اللامَ لامَ العاقبةِ أو لام القسَم أو لامَ الأمر وضعفُه في غاية الظهور {وَلِيَرْضَوْهُ} لأنفسهم بعد ما مالت إليه أفئدتهم {وَلِيَقْتَرِفُوا} أي يكتسبوا بوجب ارتضائِهم له {مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} له من القبائح التي لا يليق ذكرُها.
{أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً} كلامٌ مستأنفٌ واردٌ على إرادة القولِ، والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلامُ أي قل لهم: أأمِيلُ إلى زخارف الشياطينِ فأبتغيَ حكماً غيرَ الله يحكمُ بيننا ويفصل المحِقَّ منا من المبْطِل؟ وقيل: إن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلْ بيننا وبينك حكَماً من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرَنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت. وإسنادُ الابتغاءِ المنكرِ إلى نفسه صلى الله عليه وسلم لا إلى المشركين كما في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} مع أنهم الباغون لإظهار كمالِ النَّصَفةِ أو لمراعاة قولِهم: اجعلْ بيننا وبينك حكماً. وغيرَ إما مفعولُ أبتغي وحكَماً حالٌ منه وإما بالعكس، وأياً ما كان فتقديمُه على الفعل الذي هو المعطوفُ بالفاء حقيقةً كما أشير إليه للإيذان بأن مدارَ الإنكارِ هو ابتغاءُ غيرِه تعالى حكماً لا مطلقُ الابتغاء. وقيل: حكماً تمييزٌ لما في {غيرَ} من الإبهام كقولهم: إن لنا غيرَها إبلاً. قالوا: الحكَمُ أبلغُ من الحاكمِ وأدلُّ على الرسوخ لما أنه لا يُطلق إلا على العادل وعلى مَنْ تكرَّر منه الحكمُ بخلاف الحاكم وقوله تعالى: {وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ لإنكار ابتغاءِ غيرِه تعالى حكماً، ونسبةُ الإنزالِ إليهم خاصةً مع أن مقتضى المقامِ إظهارُ تساوي نسبتِه إلى المتحاكِمَيْن لاستمالتهم نحوَ المُنْزَل واستنزالِهم إلى قبول حكمِه بإيهام قوةِ نسبتِه إليهم، أي أغيرَه تعالى أبتغي حكَماً والحالُ أنه هو الذي أنزلَ إليكم.
وأنتم أمةٌ أمِّية لا تدرون ما تأتون وما تذرون فإن القرآنَ الناطقَ بالحق والصوابِ الحقيقُ بأن يُخَصَّ به اسمُ الكتاب {مُفَصَّلاً} أي مبيناً فيه الحقُّ والباطلُ والحلالُ والحرام وغيرُ ذلك من الأحكام بحيث لم يبْقَ في أمور الدينِ شيءٌ من التخليط والإبهامِ فأيُّ حاجة بعد ذلك إلى لحَكَم؟ وهذا كما ترى صريحٌ في أن القرآنَ الكريمَ كافٍ في أمر الدينِ مغنٍ عن غيره ببيانه وتفصيلِه وأما أن يكون لإعجازه دخْلٌ في ذلك كما قيل فلا، وقوله تعالى: {والذين ءاتيناهم الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بالحق} كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت القولِ المقدَّر مَسوقٌ من جهته سبحانه لتحقيق حقِّيةِ الكتابِ الذي نيط به أمرُ الحَكَمية وتقريرِ كونِه منزلاً من عنده عز وجل ببيان أن الذين وثِقوا بهم ورضوا بحَكَميّتهم حسبما نُقل آنفاً من علماء اليهودِ والنصارى عالمون بحقيته ونزولِه من عنده تعالى، وفي التعبير عن التوراة والإنجيلِ باسم الكتابِ إيماءٌ إلى ما بينهما وبين القرآنِ من المجانسة المقتضيةِ للاشتراك في الحقية والنزولِ من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز، وإيرادُ الطائفتين بعنوان إيتاءِ الكتابِ للإيذان بأنهم علِموه من جهة كتابِهم حيث وجدوه حسبما نُعت فيه وعاينوه موافِقاً له في الأصول وما لا يُختلف من الفروع ومُخبِراً عن أمور لا طريقَ إلى معرفتها سوى الوحي. والمرادُ بالموصول إما علماءُ الفريقين وهو الظاهرُ فالإيتاءُ هو التفهيمُ بالفعل وإما الكلُّ وهم داخلون فيه دخولاً أولياً فهو أعمُّ مما ذكر من التفهيم بالقوة، ولا ريب في أن الكل متمكنون من ذلك، وقيل: المرادُ مؤمنوا أهلِ الكتاب، وقرئ {مُنْزلٌ} من الإنزال، والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه الصلاة والسلام، والباءُ في قوله تعالى بالحق متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من الضمير المستكنّ في مُنزّلٌ أي ملتبساً بالحق.
{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي في أنهم يعلمون ذلك لما لا تشاهِد منهم آثارَ العلم وأحكام المعرفة، فالفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب بشأن القرآنِ أو في أنه منزلٌ من ربك بالحق فيكونُ من باب التهييجِ والإلهابِ كقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} وقيل: الخطابُ في الحقيقة للأمة وإن كان له صلى الله عليه وسلم صورةً، وقيل: الخطابُ لكل أحدٍ على معنى أن الأدلةَ قد تعاضدت وتظاهرت فلا ينبغي لأحد أن يمتريَ فيه، والفاءُ على هذه الوجوهِ لترتيب النهي على نفس علمِهم بحال القرآن.

.تفسير الآيات (115- 116):

{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)}
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} شروعٌ في بيان كمالِ الكتابِ المذكورِ من حيث ذاتُه إثرَ بيانِ كمالِه من حيث إضافتُه إليه تعالى بكونه منزلاً منه بالحق، وتحقيقُ ذلك بعلم أهلِ الكتاب به، وإنما عبر عنه بالكلمة لأنها الأصلُ في الاتصاف بالصدق والعدلِ وبها تظهر الآثارُ من الحكم، وقرئ {كلماتُ ربك} {صِدْقاً وَعَدْلاً} مصدران نصبا على الحال وقيل: على التمييز وقيل: على العلة وقوله تعالى: {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} إما استئنافٌ مبينٌ لفضلها على غيرها إثرَ بيانِ فضلِها في نفسها، وإما حالٌ أخرى من فاعل تمت على أن الظاهرَ مغنٍ عن الضمير الرابطِ، والمعنى أنها بلغت الغايةَ القاصيةَ صدقاً في الإخبار والمواعيدِ وعدلاً في الأقضية والأحكامِ لا أحدَ يبدل شيئاً من ذلك بما هو أصدقُ وأعدلُ ولا بما هو مثلُه فكيف يُتصوّر ابتغاءُ حكمٍ غيرِه تعالى {وَهُوَ السميع} لكل ما يتعلق به السمع {العليم} بكل ما يمكن أن يُعلم فيدخُلُ في ذلك أقوالُ المتحاكمين وأحوالُهم الظاهرةُ والباطنةُ دخولاً أولياً، هذا وقد قيل: المعنى لا أحدَ يقدِر على أن يحرِّفها كما فُعل بالتوراة، فيكونُ ضماناً لها من الله عز وجل بالحفظ كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} أو لا نبيَّ ولا كتابَ بعدها ينسخها.
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الارض} لما تحقق اختصاصُه تعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجبها من إنزال الكتابِ الكاملِ الفاصلِ بين الحقِّ والباطلِ وتمامِ صدقِ كلامِه وكمالِ عدالةِ أحكامِه وامتناعِ وجودِ من يبدل شيئاً منها واستبدادِه تعالى بالإحاطة التامةِ بجميع المسموعات والمعلومات عقّب ذلك ببيان أن الكفرةَ متصفون بنقائض تلك الكمالاتِ من النَّقائص التي هي الضلالُ والإضلالُ واتباعُ الظنونِ الفاسدةِ الناشىءُ من الجهل والكذبِ على الله سبحانه وتعالى إبانةً لكمال مباينةِ حالِهم لما يرومونه وتحذيراً عن الرّكون إليهم والعملِ بآرائهم، والمرادُ بمن في الأرض الناسُ وبأكثرهم الكفارُ، وقيل: أهلُ مكةَ والأرضُ أرضُها أي إن تُطِعهم بأن جعلتَ منهم حكَماً {يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} عن الطريق الموصلِ إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} وهو ظنُّهم أن آباءَهم كانوا على الحق فهم على آثارهم يهتدون أو جهالاتُهم وآراؤهم الباطلةُ على أن المرادَ بالظن ما يقابل العلم، والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الشرطية كأنه قيل: كيف يضلون؟ فقيل: لا يتبعون في أمور دينِهم إلا الظنَّ وإنّ الظنَّ لا يُغني من الحق شيئاً فيضلون ضلالاً مبيناً، ولا ريبَ في أن الضالَّ المتصدّيَ للإرشاد إنما يُرشد غيرَه إلى مسلك نفسِه فهم ضالون مضِلّون وقوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حكمه أي يكذِبون على الله سبحانه فيما ينسُبون إليه تعالى كاتخاذ الولدِ وجعلِ عبادةِ الأوثانِ ذريعةً إليه تعالى وتحليلِ الميتةِ وتحريمِ البحائرِ ونظائرِها، أو يقدّرون أنهم على شيء وأنّى لهم ذلك ودونه مناطُ العَيُّوقِ وحقيقتُه ما يقال عن ظن وتخمين.