فصل: تفسير الآيات (117- 119):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (117- 119):

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)}
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} تقريرٌ لمضمون الشرطيةِ وما بعدها وتأكيدٌ لما يفيده من التحذير، أي هو أعلمُ بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين، و{من} موصولةٌ أو موصوفةٌ في محل النصبِ لا بنفس أعلمُ فإن أفعلَ التفضيلِ لا ينصِبُ الظاهرَ في مثل هذه الصور بل بفعل دلَّ هو عليه، أو استفهاميةٌ مرفوعة بالابتداء والخبرُ يَضِلّ والجملةُ معلقٌ عنها الفعلُ المقدر، وقرئ: {يُضِل} بضم الياء على أن {من} فاعلٌ ليُضِل ومفعولُه محذوفٌ ومحلها النصب بما ذكر من الفعل المقدر أي هو أعلم يعلم من يُضِل الناسَ فيكون تأكيداً للتحذير عن طاعة الكفرةِ. وأما أن الفاعلَ هو الله تعالى ومَنْ منصوبةٌ بما ذكر أي يعلم مَنْ يُضِلّه أو مجرورةٌ بإضافة أعلمُ إليها أي أعلمُ المُضِلّين من قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله} أو من قولك: أضللتُه إذا وجدتُه ضالاً فلا يساعده السباقُ والسياقُ والتفضيلُ في العلم بكثرته وإحاطتِه بالوجوه التي يمكن تعلّقُ العلمِ بها ولزومُه وكونُه بالذات لا بالغير.
{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} أمرٌ مترتبٌ على النهي عن اتباع المُضلّين الذين من جملة إضلالِهم تحليلُ الحرامِ وتحريمُ الحلالِ، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تعبدون الله فما قتله الله أحقُّ أن تأكُلوه مما قتلتم أنتم فقيل للمسلمين: كلوا ممّا ذُكر اسمُه تعالى خاصة على ذبحه لا مما ذكر عليه اسمُ غيرِه فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتفَ أنفِه {إِن كُنتُم بآياته} التي من جملتها الآياتُ الواردةُ في هذا الشأن {مُّؤْمِنِينَ} فإن الإيمانَ بها يقتضي استباحةَ ما أحله الله والاجتنابِ عما حرمه، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه.
{وَمَا لَكُمْ أَن لا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} إنكارٌ لأن يكون لهم شيءٌ يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذُكر عليه اسمُ الله تعالى من البحائر والسوائبِ ونحوِها وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم} الخ، جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ للإنكار كما في قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَن لا نقاتل فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا} أي وأيُّ سببٍ حاصلٍ لكم في ألا تأكُلوا مما ذكر اسمُ الله عليه، أو وأيُّ غرضٍ يحمِلُكم على أن لا تأكلوا ويمنعُكم من أكله والحالُ أنه قد فصل لكم {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} بقوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} الخ، فبقي ما عدا ذلك على الحِلّ لا بقوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} الخ، لأنها مدنية، وأما التأخرُ في التلاوة فلا يوجبُ التأخّرَ في النزول، وقرئ الفعلان على البناء للمفعول وقرئ الأول على البناء للفاعل والثاني للمفعول {إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} مما حرّم فإنه أيضاً حلالٌ حينئذ {وَإِنَّ كَثِيرًا} أي من الكفار {لَّيُضِلُّونَ} الناسَ بتحريم الحلالِ وتحليلِ الحرام كعمرو بنِ لُحَيّ وأضرابِه وقرئ {يَضِلّون} {بِأَهْوَائِهِم} الزائغةِ وشهواتِهم الباطلة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مقتبسٍ من الشريعة الشريفة مستندٍ إلى الوحي {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين} المتجاوزين لحدود الحقِّ إلى الباطل والحلالِ إلى الحرام.

.تفسير الآيات (120- 122):

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}
{وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} أي ما يُعلن من الذنوب وما يُسَرّ أو ما يعمل منها بالجوارح وما بالقلب، وقيل: الزنا في الحوانيت واتخاذُ الأخذان {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم} أي يكتسبونه من الظاهر والباطن {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} كائناً ما كان فلابد من اجتنابهما، والجملةُ تعليلٌ للأمر.
{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} ظاهرٌ في تحريم متروكِ التسميةِ عمْداً كان أو نسياناً، وإليه ذهب داودُ، وعن أحمدَ بنِ حنبل مثلُه، وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله عليه السلام: «ذبيحةُ المسلم حلالٌ وإن لم يذكر اسمَ الله عليها» وفرق أبو حنيفة بين العمْد والنسيانِ وأوّله بالميتة أو بما ذكر عليه اسمُ غيرِه تعالى لقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فإن الفسقَ ما أُهل به لغير الله والضميرُ لما، ويجوز أن يكون للأكل المدلولِ عليه بلا تأكلوا، والجملةُ مستأنفةٌ وقيل: حالية {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ} المرادُ بالشياطين إبليسُ وجنودُه فإيحاؤهم وسوستُهم إلى المشركين، وقيل: مرَدةُ المجوسِ فإيحاؤهم إلى أوليائهم ما أَنْهَوا إلى قريشٍ بالكتاب أن محمداً وأصحابَه يزعُمون أنهم يتبعون أمرَ الله ثم يزعُمون أن ما يقتلونه حلالٌ وما يقتله الله حرام {ليجادلوكم} أي بالوساوس الشيطانيةِ أو بما نقل من أباطيلِ المجوسِ وهو يؤيد التأويلَ بالميتة {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في استحلالِ الحرامِ وساعدتموهم على أباطيلهم {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ضرورةَ أن من ترك طاعةَ الله إلى طاعة غيرِه واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى، بل آثرَه عليه سبحانه.
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا} وقرئ {ميِّتاً} على الأصل {فأحييناه} تمثيلٌ مَسوقٌ لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثرَ تحذيرِهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون خابطون في ظلمات الكفرِ والطغيانِ فكيف يُعقل إطاعتُهم لهم؟ والهمزةُ للإنكار والنفي، والواوُ لعطف الجملةِ الاسميةِ على مثلها الذي يدل عليه الكلامُ، أي أأنتم مثلُهم ومَنْ كان ميتاً فأعطيناه الحياةَ وما يتبعُها من القوى المُدْرِكة والمحرِّكة؟ {وَجَعَلْنَا لَهُ} مع ذلك من الخارج {نُوراً} عظيماً {يَمْشِي بِهِ} أي بسببه، والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا يصنع بذلك النورِ؟ فقيل: يمشي به {فِى الناس} أي فيما بينهم آمِناً من جهتهم أو صفةٌ له {كَمَن مَّثَلُهُ} أي صفتُه العجيبةُ وهو مبتدأ وقوله تعالى: {فِى الظلمات} خبرُه على أن المرادَ بهما اللفظُ لا المعنى كما في قولك: زيدٌ صفتُه اسمرُ، وهذه الجملةُ صلةٌ لمن وهي مجرورةٌ بالكاف وهي مع مجرورها خبرٌ لمن الأولى وقوله تعالى: {لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} حالٌ من المستكن في الظرف وقيل: من الموصول أي غيرُ خارجٍ منها بحال، وهذا كما ترى مثلٌ أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلاً كما أن الأولَ مثَلٌ أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلامِ وهداه بالآيات البينةِ إلى طريق الحقِّ يسلُكه كيف يشاء لكن لا على أن يدل على كل واحدٍ من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردةِ في المثَلين بواسطة تشبيهِه بما يناسبه من معانيها، فإن ألفاظَ المثَلِ باقيةٌ في معانيها الأصلية، بل على أنه قد انتُزعت من الأمور المتعددةِ المعتبرةِ في كل واحدٍ من جانبي المَثَلين هيئةٌ على حِدَة فشُبِّهت بهما الأُوليان ونُزّلتا منزلتيهما فاستُعمل فيهما ما يدل على الأُخْريين بضرب من التجوّز، وقد أشير في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} الآية، إلى أن التمثيلَ قسمٌ برأسه لا سبيل إلى جعله من باب الاستعارةِ حقيقةً وأن الاستعارةَ التمثيليةَ من عبارات المتأخرين. نعم قد يجري ذلك على سنن الاستعارةِ بأن لا يُذكرَ المشبّه كهذين التمثيلين ونظائرِهما وقد يجري على منهاج التشبيه كما في قوله:
وما الناسُ إلا كالديار وأهلُها ** بها يوم حلُّوها غدواً بلاقعُ

{كذلك} أي مثلَ ذلك التزيينِ البليغ {زُيّنَ} أي من جهة الله تعالى بطريق الخلق عند إيحاءِ الشياطينِ أو من جهة الشياطينِ بطريقة الزخرفةِ والتسويلِ {للكافرين} التابعين للوساوس الشيطانيةِ الآخذين بالمُزخْرَفات التي يوحونها إليهم {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ما استمرّوا على عمله من فنون الكفرِ والمعاصي التي من جملتها ما حُكيَ عنهم من القبائح فإنها لو لم تكن مُزينةً لهم لما أصروا عليها ولما جادلوا بها الحقَّ، وقيل: الآية نزلت في حمزةَ رضي الله عنه، وأبي جهلٍ وقيل: في عمرَ أو عمارٍ رضي الله عنهما وأبي جهل.

.تفسير الآية رقم (123):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)}
{وكذلك} قيل: معناه كما جعلنا في مكةَ أكابرَ مجرميها ليمكروا فيها {جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ} من سائر القرى {أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} ومفعولا جعلنا أكابرَ مجرميها على تقديم المفعولِ الثاني والظرفُ لغو أو هما الظرفُ وأكابرَ على أن مجرميها بدلٌ أو مضافٌ إليه فإن أفعل التفضيل إذا أُضيف جاز الإفرادُ والمطابقةُ ولذلك قرئ {أكبرَ مجرميها} وقيل: أكابرَ مجرميها مفعولُه الأولُ والثاني ليمكروا فيها، ولا يخفى أن أيَّ معنى يراد من هذه المعاني لابد أن يكون مشهورَ التحققِ عند الناسِ معهوداً فيما بينهم حتى يصلُحَ أن تُصرَفَ الإشارةُ عن سباق النظمِ الكريمِ وتوجَّهَ إليه ويُجعلَ مقياساً لنظائره بإخراجه مُخرجَ المصدرِ التشبيهيِّ وظاهرٌ أنْ ليس الأمرُ كذلك ولا سبيلَ إلى توجيهها إلى ما يفهم من قوله تعالى: {كَذَلِكَ زُيّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وإن كان المرادُ بهم أكابرَ مكةَ لأن مآلَ المعنى حينئذ بعد اللتيا والتي كما جعلنا أعمالَ أهلِ مكةَ مزينةً لهم جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها الخ، فإذن الأقربُ أن ذلك إشارةٌ إلى الكفَرة المعهودين باعتبار اتصافِهم بصفاتهم، والإفرادُ بتأويل الفريقِ أو المذكور، ومحلُّ الكافِ النصبُ على أن المفعولُ الثاني لجعلنا قدم عليه لإفادة التخصيصِ كما في قوله تعالى: {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ} الآية، والأولُ أكابرَ مجرميها، والظرف لغة أي ومثلَ أولئك الكفرةِ الذين هم صناديدُ مكةَ ومجرموها جعلنا في كل قريةٍ أكابرَها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزيَّناً لهم أعمالُهم مُصِرّين على الباطل مجادلين به الحقَّ ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكرَ فيها، وهذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} اعتراضٌ على سبيل الوعدِ لرسول الله عليه الصلاة والسلام والوعيدِ للكفرة أي وما تحيقُ غائلةُ مكرِهم إلا بهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير يمكرون مع اعتبار ورودِ الاستئناءِ على النفي أي إنما يمكرون بأنفسهم والحالُ أنهم ما يشعُرون بذلك أصلاً بل يزعُمون أنهم يمكرون بغيرهم.

.تفسير الآية رقم (124):

{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}
وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ} رجوعٌ إلى بيان حالِ مجرمي أهلِ مكةَ بعد ما بُيِّن بطريق التسليةِ أن حالَ غيرِهم أيضاً كذلك وأن عاقبةَ مكرِ الكلِّ ما ذُكر، فإن العظيمةَ المنقولةَ إنما صدَرت عنهم لا عن سائر المجرمين، أي إذا جاءتهم آيةٌ بواسطة الرسولِ عليه الصلاة والسلام {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى تُؤْتِى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله} قال ابن عباس رضي الله عنهما: حتى يوحيَ إلينا ويأتيَنا جبريلُ عليه السلام فيخبرَنا أن محمداً صادق كما قالوا: {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً} وعن الحسن البصْري مثلُه.
وهذا كما ترى صريحٌ في أن ما عُلّق بإيتاء ما أوتيَ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام هو إيمانُهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه إيماناً حقيقياً كما هو المتبادَرُ منه عند الإطلاقِ خلا أنه يستدعي أن يُحمل ما أوتيَ رسلُ الله على مطلق الوحي ومخاطبةِ جبريلَ عليه السلام في الجملة وأن تُصرفَ الرسالةُ في قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} عن ظاهرها، وتُحملَ على رسالة جبريلَ عليه السلام بالوجه المذكور، ويُرادَ بجعلها تبليغُها إلى المرسَل إليه لا وضعُها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتّى كونُه جواباً عن اقتراحهم ورداً له بأن يكونَ معنى الاقتراحِ: لن نؤمنَ بكون تلك الآيةِ نازلةً من عند الله تعالى إلى الرسول حتى يأتيَنا بالذات عِياناً كما يأتي الرسولُ فيخبرُنا بذلك، ومعنى الردّ: الله أعلم مَنْ يليقُ بإرسال جبريلَ عليه السلام إليه لأمر من الأمور إيذاناً بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريفِ، وفيه من التمحُّل ما لا يخفى. وقال مقاتلٌ: نزلت في أبي جهلٍ حين قال: زاحَمْنا بني عبدِ منافٍ في الشرف حتى إذا صِرْنا كفرَسَيْ رهانٍ قالوا: منا نبيٌّ يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبداً حتى يأتيَنا وحيٌ كما يأتيه.
وقال الضحاك: سأل كلُّ واحد من القوم أن يُخَصّ بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} ولا يخفى أن كلَّ واحد من هذين القولين وإن كان مناسباً للرد المذكورِ لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المُعلَّقِ بإيتاء ما أوتيَ الرسلُ مجردُ تصديقِهم برسالته عليه الصلاة والسلام في الجملة من غير شمولٍ لكافة الناس وأن تكون كلمةُ حتى في قول اللعينِ حتى يأتيَنا وحيٌ كما يأتيه الخ، غايةً لعدم الرضا لا لعدم الاتباعِ فإنه مقررٌ على تقديرَيْ إيتاءِ الوحي وعدمِه، فالمعنى لن نؤمنَ برسالته أصلاً حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثلَ ما أوتي رسلُ الله، أو إيتاءِ رسلِ الله، وأما ما قيل من أن الوليدَ بنَ المغيرةِ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوةُ حقاً لكنتُ أولى بها منك لأني أكبرُ منك سناً وأكثرُ منك مالاً وولداً.
فنزلت فلا تعلُّقَ له بكلامهم المردودِ إلا أن يرادَ بالإيمان المعلَّقِ بما ذكر مجردُ الإيمانِ بكون الآيةِ النازلةِ وحياً صادقاً لا الإيمانِ بكونها نازلةً إليه عليه الصلاة والسلام.
فيكون المعنى وإذا جاءتهم آيةٌ نازلةٌ إلى الرسول قالوا: لن نؤمنَ بنزولها من عند الله حتى يكونَ نزولُها إلينا لا إليه، لأنا نحن المستحقون دونه، فإن مُلخّصَ معنى قولِه: لو كانت النبوةُ حقاً الخ: لو كان ما تدّعيه من النبوة حقاً لكنتُ أنا النبيَّ لا أنت، وإذا لم يكن الأمرُ كذلك فليست بحق وما له تعليقُ الإيمانِ بحقية النبوةِ بكون نفسِه نبياً.
ومثلَ ما أُوتيَ نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ، وما مصدريةٌ أي حتى نؤتاها إيتاءً مثلَ إيتاءِ رسلِ الله وإضافةُ الإيتاءِ إليهم لأنهم منكِرون لإيتائه عليه الصلاة والسلام، و{حيث} نُصب على المفعولية توسعاً لا بنفس {أعلمُ} لما عرفتَ من أنه لا يعمل في الظاهر بل بفعل دلَّ هو عليه أي هو أعلمُ يعلم الموضِعَ الذي يضعها فيه والمعنى أن منصِبَ الرسالةِ ليس مما ينال بكثرة المالِ والولدِ وتعاضُدِ الأسبابِ والعدد، وإنما يُنال بفضائلَ نفسانيةٍ يخُصّها الله تعالى بمن يشاء من خُلّص عبادِه، وقرئ {رسالاتِه} {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ} استئنافٌ آخرُ ناعٍ عليهم ما سيلقونه من فنون الشرِّ بعد ما نعى عليهم حِرمانَهم مما أمّلوه، والسين للتأكيد، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للإشعار بأن إصابةَ ما يصيبهم لإجرامهم المستتبِعِ لجميع الشرورِ والقبائحِ، أي يصيبهم البتةَ مكانَ ما تمنَّوْه وعلّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من عزة النبوة وشرفِ الرسالة {صَغَارٌ} أي ذلة وحقارة بعد كِبْرِهم {عَندَ الله} أي يوم القيامة وقيل: من عند الله {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} في الآخرة أو في الدنيا {بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} أي بسبب مكرِهم المستمرِّ أو بمقابلته، وحيث كان هذا من معظم موادِّ إجرامِهم صُرّح بسببيته.