فصل: تفسير الآية رقم (152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (152):

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} توجيهُ النهي إلى قُربانه من المبالغة في النهي عن أكله ولإخراج القُربان النافعِ عن حكم النهي بطرق الاستثناءِ، أي لا تتعرضواله بوجه من الوجوه {إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} إلا بالخَصلة التي هي أحسنُ ما يكون من الحِفظ والتثميرِ ونحو ذلك، والخطابُ للأولياء والأوصياء لقوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فإنه غايةٌ لما يُفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل: احفظوه حتى يصيرَ بالغاً رشيداً فحينئذ سلّموه إليه كما في قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ} والأشُدُّ جمع شِدّة كنعمة وأنعم أو شَدّ ككلب وأكلُب أو شد كصر وآصر وقيل: هو مفرد كآنُك {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} أي بالعدل والتسوية {لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} إلا ما يسعُها ولا يعسُر عليها، وهو اعتراضٌ جيء به عَقيبَ الأمرِ بالأمر للإيذان بأن مراعاةَ العدلِ كما هو عسيرٌ كأنه قيل: عليكم بما في وسعكم وما وراءه معفوٌّ عنكم {وَإِذَا قُلْتُمْ} قولاً في حكومة أو شهادة أو نحوِهما {فاعدلوا} فيه {وَلَوْ كَانَ} أي المقولُ له أو عليه {ذَا قربى} أي ذا قرابةٍ منكم ولا تميلوا نحوهم أصلاٌ وقد مر تحقيق معنى لو في مثل هذا الموضعِ مراراً {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} أي ما عَهد إليكم من الأمور المعدودةِ، أو أيِّ عهدٍ كان فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً أو ما عاهدتم الله عليه من الإيمان والنذور، وتقديمُه للاعتناء بشأنه {ذلكم} إشارةٌ إلى ما فُصِّل من التكاليف، ومعنى البُعد لما ذكر فيما قبل {وصاكم بِهِ} أمركم به أمراً مؤكداً {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتذكرون ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه، وقرئ بتشديد الذالِ وهذه أحكامٌ عشَرةٌ لا تختلف باختلاف الأممِ والأعصارِ.
عن ابن عباس رضي الله عنهما هذه آياتٌ محكماتٌ لم ينسَخْهن شيء من جميع الكتُب وهن محرماتٌ على بني آدم كلِّهم وهن أمُّ الكتابِ، من عمِل بهن دخلَ الجنة ومن تركهن دخلَ النار.
وعن كعب الأحبارِ والذي نفسُ كعبٍ بيده إن هذه الآياتِ لأولُ شيءٍ في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل: تعالَوا الآيات.

.تفسير الآيات (153- 154):

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)}
{وَأَنَّ هذا صراطي} إشارةٌ إلى ما ذكر في الآيتين من الأمر والنهي، قاله مقاتل وقيل: إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيدِ والنبوة وبيانِ الشريعة، وقرئ {صراطيَ} بفتح الياء، ومعنى إضافتِه إلى ضميره عليه الصلاة والسلام انتسابُه إليه عليه الصلاة والسلام من حيث السلوكُ لا من حيث الوضعُ كما في صراط الله، والمرادُ بيانُ أن ما فُصِّل من الأوامر والنواهي غيرُ مختصةٍ بالمتلو عليهم بل متعلقةٌ به عليه الصلاة والسلام أيضاً وأنه صلى الله عليه وسلم مستمرٌّ على العمل بها ومراعاتِها وقوله تعالى: {مُّسْتَقِيماً} حالٌ مؤكدةٌ، ومحل أن مع ما في حيزها الجرُّ بحذف لام العلة أي ولأن هذا صراطي أي مسلكي مستقيماً {فاتبعوه} كقوله تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} وتعليلُ إتباعِه بكونه صراطَه عليه الصلاة والسلام لا بكونه صراطَ الله تعالى مع أنه في نفسه كذلك من حيث سلوكُه صلى الله عليه وسلم فيه داعٍ للخلق إلى الاتّباع إذ بذلك يتضح عندهم كونُه صراطَ الله عز وجل، وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرئ {أنْ} هذا مخففةً من أنّ، على أن اسمَها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ وقرئ {صراطي} وقرئ {هذا صراطي} وقرئ {وهذا صراطُ ربِّكم} {وهذا صراطُ ربِّك} {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} الأديانَ المختلفةَ أو طرقَ البدع والضلالات {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} بحذف إحدى التاءين، والباء للتعدية أي فتفرِّقَكم حسَبَ تفرُّقِها أياديَ سبا فهو كما ترى أبلغُ من تفرقكم كما قيل من أن ذهَبَ به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغُ من أذهبه {عَن سَبِيلِهِ} أي سبيل الله الذي لا عِوَجَ فيه ولا حرج، وهو دين الإسلام الذي ذُكر بعضُ أحكامه وقيل: هو اتباعُ الوحي واقتفاءُ البرهان، وفيه تنبيهٌ على أن صراطَه عليه الصلاة والسلام عينُ سبيل الله تعالى {ذلكم} إشارةٌ إلى ما مر من اتباع سبيلِه تعالى وتركِ اتباعِ سائر السبل {وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} اتباعَ سبُلِ الكفر والضلالة.
{ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب} كلامٌ مسوقٌ من جهته تعالى تقريراً للوصية وتحقيقاً لها وتمهيداً لما يعقُبه من ذكر القرآنِ المجيد كما ينبىء عنه تغييرُ الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ ويستدعيه النظامُ كأنه قيل بعد قوله تعالى: {ذلكم وصاكم بِهِ} بطريق الاستئنافِ تصديقاً له وتقريراً لمضمونه: فعلنا ذلك ثم آتينا الخ، كما أن قوله تعالى: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} معطوف على ما يدل عليه معنى {أَو لَمْ يَهْدِ} الخ، كأنه قيل: يغفُلون عن الهداية ونطبع الخ، وأما عطفُه على ذلكم وصاكم به ونظمُه معه في سلك الكلامِ الملقّن كما أجمع عليه الجمهورُ فمما لا يليق بجزالة النظمِ الكريم فتدبر.
وثم للتراخي في الإخبار كما في قولك: بلغني ما صنعتَ اليوم ثم ما صنعتَ أمسِ أعجبُ، أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل: ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً ثم أعظمُ من ذلك أنا آتينا موسى التوراةَ فإن إيتاءَها مشتملةً على الوصية المذكورةِ وغيرِها أعظمُ من التوصية بها فقط {تَمَامًا} للكرامة والنعمة أي إتماماً لهما على أنه مصدرٌ من أتمّ بحذف الزوائد {عَلَى الذي أَحْسَنَ} أي على مَنْ أحسن القيامَ به كائناً مَنْ كان، ويؤيده أنه قرئ {على الذين أحسنوا} وتماماً على المحسنين أو على الذي أحسن تبليغَه وهو موسى عليه السلام أو تماماً على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائعِ أي زيادةً على علمه على وجه التتميم، وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي على الذي هو أحسنُ دينٍ وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تماماً أي تاماً كاملاً على أحسنَ ما يكون عليه الكتُب {وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء} وبياناً مفصلاً لكل ما يُحتاج إليه في الدين وهو عطفٌ على تماماً ونصبُهما إما على العلية أو على المصدرية كما أشير إليه أو على الحالية وكذا قوله تعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} وضميرُ {لَعَلَّهُمْ} لبني إسرائيلَ المدلولِ عليهم بذكر موسى وإيتاءِ الكتاب والباء في قوله تعالى: {بِلَقَاء رَبّهِمْ} متعلقةٌ بقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ} قدمت عليه محافظةً على الفواصل قال ابن عباس رضي الله عنهما: كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب.

.تفسير الآيات (155- 156):

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)}
{وهذا} أي الذي تُليت عليكم أوامرُه ونواهيه أي القرآن {كِتَابٌ} عظيمُ الشأنِ لا يقادَر قدْرُه وقوله تعالى: {أنزلناه مُبَارَكٌ} أي كثيرُ المنافع ديناً ودنيا، صفتان لكتابٌ، وتقديمُ وصفِ الإنزال مع كونه غيرَ صريحٍ لأن الكلام مع منكريه، أو خبران آخران لاسم الإشارة أي أنزلناه مشتملاً على فنون الفوائدِ الدينية والدنيوية التي فُصِّلت عليكم طائفةٌ منها، والفاء في قوله تعالى: {فاتبعوه} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عِظمَ شأنِ الكتابِ في نفسه وكونَه منزلاً من جنابه عز وجل مستتبعاً للمنافع الدينية والدنيوية موجبٌ لاتباعه أيَّ إيجاب {واتقوا} مخالفتَه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بواسطة اتباعِه والعمل بموجبه {أَن تَقُولُواْ} علةٌ لأنزلناه المدلولِ عليه بالمذكور لا لنفسه، للزوم الفصلِ حينئذ بين العامل والمعمولِ بأجنبيّ هو مباركٌ وصفاً كان أو خبراً أي أنزلناه كذلك كراهةَ أن تقولوا يوم القيامة لو لم تُنْزِله {إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب} الناطقُ بتلك الأحكام العامة لكل الأمم {على طَائِفَتَيْنِ} كائنتين {مِن قَبْلِنَا} وهما اليهودُ والنصارى، وتخصيصُ الإنزال بكتابيهما لأنهما الذي اشتهر حينئذ فيما بين الكتب السماويةِ بالاشتمال على الأحكام لاسيما الأحكامِ المذكورة {وَإِن كُنَّا} إنْ هي المخففةُ من إنَّ واللام فارقةٌ بينها وبين النافية وضميرُ الشأن محذوفٌ ومرادُهم بذلك دفعُ ما يَرِد عليهم من أن نزولَه عليهما لا ينافي عمومَ أحكامِه فلمَ لمْ تعملوا بأحكامه العامة؟ أي وإنه كنا {عَن دِرَاسَتِهِمْ لغافلين} لا ندري ما في كتابهم إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقّى منه تلك الأحكامَ العامة ونحافظَ عليها وإن لم يكن منزلاً علينا، وبهذا تبيّن أن معذرتَهم هذه مع أنهم غيرُ مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورةِ المتناولةِ لكافة الأممِ كما أن قطعَ تلك المعذرةِ بإنزال القرآنِ لاشتماله أيضاً عليها لا على سائر الشرائعِ والأحكام فقط.

.تفسير الآية رقم (157):

{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)}
{أَوْ تَقُولُواْ} عطفٌ على تقولوا وقرئ كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب {فاتبعوه واتقوا} {لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب} كما أنزل عليهم {لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ} إلى الحق الذي هو المقصِدُ الأقصى أو إلى ما في تضاعيفه من جلائل الأحكام والشرائع ودقائقِها لحِدّة أذهانِنا وثَقابةِ أفهامنا ولذلك تلقّفنا من فنون العلم كالقصص والأخبار والخُطب والأشعار ونحوِ ذلك طرفاً صالحاً ونحن أمّيون، وقوله تعالى: {فَقَدْ جَاءكُمُ} متعلقٌ بمحذوف ينبىء عنه الفاءُ الفصيحةُ إما معللٌ به أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم الخ، وإما شرطٌ له أي إن صدقتم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزولِ الكتابِ عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم {بَيّنَةً} أي حجةٌ واضحة لا يُكتَنهُ كنهها وقوله تعالى: {مّن رَّبّكُمْ} متعلق بجاءكم أو بمحذوف هو صفةٌ لبينة أي بينةٌ كائنةٌ منه تعالى وأياً ما كان ففيه دَلالةٌ على فضلها الإضافي كما أن في تنوينها التفخيميِّ دلالةٌ على فضلها الذاتي وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيدُ تأكيدٍ لإيجاب الاتباع {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} عطفٌ على بينةٌ وتنوينُهما أيضاً تفخيميٌّ عبّر عن القرآن بالبينة إيذاناً بكمال تمكنِهم من دراسته، ثم بالهدى والرحمة تنبيهاً على أنه مشتملٌ على ما اشتمل عليه التوراةُ من هداية الناس ورحمتِهم بل هو عينُ الهداية والرحمة.
{فَمَنْ أَظْلَمُ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيءَ القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجبٌ لغاية أظلمية مَنْ يكذّبه، أي وإذا كان الأمرُ كذلك فمن أظلم {مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله} وُضع الموصولُ موضعَ ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصاً على اتصافهم بما في حيز الصلةِ وإشعاراً بعلة الحُكم وإسقاطاً لهم عن رتبة الخطابِ، وعبّر عما جاءهم بآيات الله تهويلاً للأمر وتنبيهاً على أن تكذيبَ أي آيةٍ كانت من آيات الله تعالى كافٍ في الأظلمية فما ظنُّك بتكذيب القرآن المنطوي على الكل، والمعنى إنكارُ أن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواةِ ونفيها، فإذا قيل: مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلُ منه فالمرادُ به حتماً بحكم العرف الفاشي والاستعمال المطرد أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل، وقد مر مراراً {وَصَدَفَ عَنْهَا} أي صرَفَ الناس عنها فجمعَ بين الضلال والإضلالِ {سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ} الناسَ {عَنْ آياتنا} وعيدٌ لهم ببيان جزاء إضلالِهم بحيث يُفهم منه جزاءُ ضلالهم أيضاً، ووضعُ الموصول المُضمر لتحقيق مناطِ الجزاء {سُوء العذاب} أي العذابَ السيءَ الشديدَ النكاية {بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} أي بسبب ما كانوا يفعلون من الصَّدْف والصرْف على التجدد والاستمرارِ، وهذا تصريحٌ بما أَشعرَ به إجراءُ الحُكم على الموصول من عِلّية ما في حيز الصلة له.

.تفسير الآية رقم (158):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)}
{هَلْ يَنظُرُونَ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمانُ بإنزال ما ذكر من البينات والهدى وأنهم لا يرعوون عن التمادي في المكابرة واقتراحِ ما ينافي الحكمةَ التشريعية من الآيات المُلجئة وأن الإيمانَ عند إتيانها مما لا فائدةَ له أصلاً مبالغةً في التبليغ والإنذار وإزاحةِ العلل والأعذار، أي ما ينتظرون {إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} حسبما اقترحوا بقولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة أَوْ نرى رَبَّنَا} وبقولهم: {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلاً} وبقولهم: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} ونحو ذلك أو إلا أن تأتيهم ملائكةُ العذاب أو يأتيَ أمرُ ربك بالعذاب، والانتظارُ محمولٌ على التمثيل كما سيجيء وقرئ {يأتيَهم} بالياء لأن تأنيثَ الملائكة غيرُ حقيقي.
{أو يأتي بعضُ آيات ربِّكَ} أي غيرُ ما ذكر كما اقترحوا بقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} ونحوِ ذلك من عظائمِ الآياتِ التي علّقوا بها إيمانَهم، والتعبيرُ عنها بالبعض للتهويل والتفخيم، كما أن إضافةَ الآياتِ في الموضعين إلى اسم الربِّ المنبىء عن المالكية الكليةِ لذلك. وإضافتَه إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف، وقيل: المرادُ بالملائكة ملائكةُ الموت وبإتيانه سبحانه وتعالى إتيانُ كل آياتِه بمعنى آياتِ القيامةِ والهلاكُ الكليُّ بقرينة ما بعده من إتيان بعضِ آياتِه تعالى على أن المرادَ به أشراطُ الساعةِ التي هي الدخانُ ودابةُ الأرضِ وخسفٌ بالمشرق وخسفٌ بالمغرب وخسفٌ بجزيرة العرب والدجالُ وطلوعُ الشمس من مغربها ويأجوجُ ومأجوجُ ونزولُ عيسى عليه السلام ونارٌ تخرج من عَدَنَ كما نطق به الحديثُ الشريفُ المشهورُ وحيث لم يكن إتيانُ هذه الأمورِ مما ينتظرونه كإتيان ما اقترحوه من الآيات فإن تعليقَ إيمانِهم بإتيانها انتظارٌ منهم له ظاهراً، حُمل الانتظارُ على التمثيل المبني على تشبيه حالِهم في الإصرار على الكفر والتمادي في العناد إلى أن تأتيَهم تلك الأمورُ الهائلةُ التي لابد لهم من الإيمان عند مشاهدتِها البتةَ بحال المنتظرين لها. وأنت خبيرٌ بأن النظمَ الكريمَ بسباقه المُنبىءِ عن تماديهم في تكذيب آياتِ الله تعالى وعدمِ الاعتدادِ بها وسياقِه الناطقِ بعدم نفع الإيمانِ عند إتيان ما ينتظرونه يستدعي أن يُحملَ ذلك على أمور هائلةٍ مخصوصةٍ بهم إما بأن تكونَ عبارةً عما اقترحوه أو عن عقوبات مترتبةٍ على جناياتهم كإتيان ملائكةِ العذاب وإتيانِ أمرِه تعالى بالعذاب وهو الأنسبُ لما سيأتي من قوله تعالى: {قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}.
وإما حملُه على ما ذُكر من إتيان ملائكةِ الموتِ وإتيانِ كل آياتِ القيامةِ وظهورِ أشراطِ الساعة مع شمول إتيانِها لكل برّ وفاجر، واشتمالِ غائلتِها على كل مؤمن وكافرٍ فمما لا يساعده المقامُ على أن بعضَ أشراطِ الساعةِ ليس مما ينسدّ به بابُ الإيمان والطاعة، نعم يجوزُ حملُ بعضِ الآياتِ في قوله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ} على ما يعم مقترحاتِهم وغيرَها من الدواعي العظامِ السالبةِ للاختيار الذي عليه يدور فلكُ التكليفِ فإنه بمنزلة الكبرى من الشكل الأولِ فيتم التقريبُ عند وقوعِها بدخول ما ينتظرونه في ذلك دخولاً أولياً، ويوم منصوب بقوله تعالى: {لاَّ ينفَعُ} فإن امتناعَ عملِ ما بعد {لا} فيما قبلها عند وقوعِها جوابَ القسم، وقرئ {يومُ} بالرفع على الابتداء والخبرُ هو الجملةُ والعائدُ محذوفٌ أي لا تنفع فيه {نَفْساً} من النفوس {إِيمَانُهَا} حينئذ لانكشاف الحالِ وكون الأمرِ عياناً، ومدارُ قَبولِ الإيمان أن يكون بالغيب كقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} وقرئ {لا تنفع} بالتاء الفوقانية لاكتساب الإيمانِ من ملابسة المضاف إليه تأنيثاً وقوله تعالى: {لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ} أي من قبلِ إتيانِ بعضِ الآياتِ، صفةٌ لنفساً فصل بينهما بالفاعل لاشتماله على ضمير الموصوفِ ولا ضيرَ فيه لأنه غيرُ أجنبيَ منه لاشتراكهما في العامل.
{أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْرًا} عطفٌ على آمنت بإيراد الترديدِ على النفي المفيدِ لكفاية أحد النفيين في عدم النفعِ، والمعنى أنه لا ينفع الإيمانُ حينئذ نفساً لم يقدّم إيمانَها أو قدّمتْه ولم تكسِبْ فيه خيراً، ومن ضرورته اشتراطُ النفعِ بتحقق الأمرين، أي الإيمانِ المقدَّمِ والخيرِ المكسوب فيه معاً، بمعنى أن النافعَ هو تحققُهما والإيمانُ المؤخرُ لغوٌ وتحصيلٌ للحاصل لا أنه هو النافعُ وتحققُهما شرطٌ في نفعه كما لو كان المقدَّمُ غيرَ المؤخرِ بالذات، فإن قولَك: لا ينفع الصومُ والصدقةُ مَنْ لم يؤمِنْ قبلَهما معناه أنهما ينفعانه عند وقوعِهما بعد الإيمان وقد استدل به أهلُ الاعتزالِ على عدم اعتبار الإيمانِ المجردِ عن الأعمال وليس بناهض ضرورةَ صحةِ حملِه على نفي الترديدِ المستلزِمِ لعمومه المفيدِ بمنطوقه لاشتراط عدمِ النفع بعدم الأمرين معاً وبمفهومه لاشتراط النفعِ بتحقق أحدِهما بطريق منعِ الخلوِّ دون الانفصالِ الحقيقي، فالمعنى أنه لا ينفع الإيمانُ حينئذ نفساً لم يصدُرْ عنها من قبلُ أحدُ الأمرين، أما الإيمانُ المجردُ أو الخيرُ المكسوبُ فيه فيتحقق النفعُ بأيهما كان حسبما تنطِقُ به النصوصُ الكريمةُ من الآيات والأحاديث وما قيل من أن عدمَ الإيمانِ السابقِ مستلزمٌ لعدم كسب الخيرِ فيه بالضرورة فيكون ذكرُه تكراراً بلا فائدة على أن الموجبَ للخلود في النار هو العدمُ الأولُ من غير أن يكون للثاني دخلٌ ما في ذلك قطعاً فيكون ذكرُه بصدد بيانِ ما يوجب الخلودَ لغواً من الكلام لغو من الكلام مبني على توهم أن المقصودَ بوصف النفسِ بالعدمين المذكورين مجردُ بيانِ إيجابِهما للخلود فيها وعدمِ نفعِ الإيمان الحادثِ في إنجائها عنه وليس كذلك، وإلا لكفى في البيان أن يقال: لا ينفعُ نفساً إيمانُها الحادثُ، بل المقصِدُ الأصليُّ من وصفها بذينك العدمين في أثناء بيانِ عدم نفعِ الإيمان الحادثِ تحقيقُ أن موجبَ النفع إحدى مَلَكتيهما، أعني الإيمانَ السابقَ والخيرَ المكسوبَ فيه بما ذكر من الطريقة والترغيبِ في تحصيلهما في ضمن التحذيرِ من تركهما، ولا سبيلَ إلى أن يقال كما أن عدمَ الأولِ مستقلٌّ في إيجاب الخلودِ في النار فليغلو ذكرُ عدمِ الثاني، كذلك وجوده مستقل في إيجاب الخلاصِ عنها فيكون ذكرُ الثاني لغواً لما أنه قياسٌ مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمرٌ لا يُتصوَّر فيه تعددُ العللِ، وأما الخلاصُ عنها مع دخولِ الجنةِ فله مراتبُ بعضُها مترتبٌ على نفس الإيمان وبعضُها على فروعه المتفاوتةِ كماً وكيفاً، وإنما لم يُقتصر على بيان ما يوجب أصلَ النفعِ وهو المقابلُ لما لا يوجبه أصلاً أعني الإيمانَ الحادثَ، بل قرَنَ به ما يوجب النفعَ الزائدَ أيضاً إرشاداً إلى تحرّي الأعلى وتنبيهاً على كفاية الأدنى وإقناطاً للكفرة عما علّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من أعمال البِرّ التي عمِلوها في الكفر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفك العُناةِ وإغاثةِ الملهوفين وقرى الأضيافِ وغير ذلك مما هو من باب المكارم ببيان أن كل ذلك لغوٌ بحتٌ لابتنائه على غير أساسٍ حسبما نطق به قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح} الآية، ونحوُ ذلك من النصوص الكريمة، وأن الإيمانَ الحادثَ كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالِهم السابقةِ واللاحقة، ولك أن تقول: المقصودُ بوصف النفسِ بما ذُكر من العدمين التعريضُ بحال الكفرة في تمردهم وتفريطِهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوبُ أحدِهما منوطاً بالآخر كما في قوله عز وجل: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ} تسجيلاً بكمال طغيانِهم وإيذاناً بتضاعف عقابِهم لما تقرر من أن الكفارَ مخاطَبون بفروع الشرائعِ في حق المؤاخذة كما ينبىء عنه قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} إذا تحققت هذا وقفتَ على أن الآيةَ الكريمة أحقُّ بأن تكون حجةً على المعتزلة من أن تكون حجةً لهم هذا وقد قيل: إنها من باب اللف التقديريِّ، أي لا ينفع نفساً إيمانُها ولا كسبُها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه، وليس بواضح فإن مبنى اللفِّ التقديريِّ أن يكون المقدرُ من متمّمات الكلامِ ومقتَضَيات المقام قد ترك ذكرَه تعويلاً على دِلالة الملفوظِ عليه واقتضائِه إياه كما مر في تفسير قوله عز وجل: {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} فإنه قد طُوي في المفصل ذكرُ حشرِ المؤمنين ثقةً بإنباء التفصيل عنه أعني قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ} الآية، ولا ريب في أن ما قُدّر هاهنا ليس مما يستدعيه قوله تعالى: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْرًا} ولا هو من مقتضيات المقامِ لأنه ليس مما وُعِدوه وعلّقوه بإتيان ما ذكر من الآيات كالإيمان حتى يرِدَ عليهم ببيان عدمِ نفعِه إذ ذاك، على أن ذلك مشعرٌ بأن لهم بعد ما أصابهم من الدواهي ما أصابهم بقاءً على السلامة وزماناً يتأتى منهم الكسبُ والعملُ فيه، وفيه من الإخلال بمقام تهويلِ الخطبِ وتفظيعِ الحال ما لا يخفي.
وقد أُجيب عن الاستدلال بوجوه أُخَرَ قصارى أمرِها إسقاطُ الآية الكريمةِ عن رتبة المعارضةِ للنصوص القطعيةِ المتونِ القويةِ الدلالةِ على ما ذُكر من كفاية الإيمان المجردِ عن العمل في الإنجاء من العذاب الخالدِ ولو بعد اللتيا والتي لِما تقرر من أن الظنيَّ بمعزل من معارضة القطعي.
{قُلْ} لهم بعد بيانِ حقيقةِ الحالِ على وجه التهديد {انتظروا} ما تنتظرونه من إتيان أحدِ الأمورِ الثلاثةِ لترَوا أيَّ شيء تنتظرون {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} لذلك لنشاهدَ ما يحِلُّ بكم من سوء العاقبة، وفيه تأييدٌ لكون المرادِ بما ينتظرونه إتيانَ ملائكةِ العذابِ أو إتيانَ أمرِه تعالى بالعذاب كما أشير إليه، وعِدَةٌ ضمنيةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمعاينتهم لما يَحيق بالكفرة من العقاب، ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر والله سبحانه أعلم.