فصل: تفسير الآيات (38- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (38- 40):

{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)}
{قَالَ} أي الله عز وجل يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك {ادخلوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم} أي كائنين من جملة أممٍ مصاحبين لهم {مّنَ الجن والإنس} يعني كفارَ الأمم الماضيةِ من النوعين {فِى النار} متعلقٌ بقوله: {أَدْخِلُواْ} {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} من الأمم السابقةِ واللاحقةِ فيها {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} التي ضللت بالاقتداء بها {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا} أي تداركوا وتلاحقوا في النار {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} دخولاً أو منزلةً وهو الأتباعُ {لاولاهم} أي لأجلهم إذِ الخطابُ مع الله تعالى لا معهم {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا} سنّوا لنا الضلالَ فاقتدَيْنا بهم {فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً} أي مضاعفاً {مِنَ النار} لأنهم ضلّوا وأضلوا {قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ} أما القادةُ فلِما ذُكر من الضلال والإضلالِ، وأما الأتباعُ فلكفرهم وتقليدِهم {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} أي مالَكم وما لِكُلّ فريقٍ من العذاب وقرئ بالياء {وَقَالَتْ أولاهم} أي مخاطِبين {لأُخْرَاهُمْ} حين سمعوا جوابَ الله تعالى لهم {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي فقد ثبت أن لا فضلَ لكم علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاقِ العذاب {فَذُوقُواْ العذاب} أي العذابَ المعهودَ المضاعفَ {بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} من قول القادة.
{إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} مع وضوحها {واستكبروا عَنْهَا} أي عن الإيمان بها والعملِ بمقتضاها {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} أي لا تُقبل أدعيتُهم ولا أعمالُهم أو لا تعْرُج إليها أرواحُهم كما هو شأنُ أدعيةِ المؤمنين وأعمالِهم وأرواحِهم والتاء في {تُفتّح} لتأنيث الأبواب على أن الفعلَ للآيات، وبالياء على أنه لله تعالى {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمّ الخياط} أي حتى يدخُلَ ما هو مثلُه في عِظَم الجِرْم فيما هو عَلمٌ في ضيق المسلَك وهو ثُقبةُ الإبرة، وفي كون الجملِ مما ليس من شأنه الولوجُ في سمِّ الإبرة مبالغةٌ في الاستبعاد. وقرئ {الجُمّل} كالقمّل و{الجُمَل} كالنُغَر و{الجُمل} كالقُفل و{الجَمَل} كالنصَب و{الجَمْل} كالحبل وهي الحبلُ الغليظ من القنب وقيل: حبلُ السفينة، وسُمّ بالضم والكسر وقرئ {في سَمّ المَخيط} وهو الخِياط أي ما يُخاط به كالحِزام والمحزم {وكذلك} أي ومثلَ ذلك الجزاءِ الفظيع {نَجْزِى المجرمين} أي جنسَ المجرمين وهم داخلون في زُمرتهم دخولاً أولياً.

.تفسير الآيات (41- 43):

{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
{لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} أي فراشٌ من تحتهم، والتنوينُ للتفخيم ومن تجريدية {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أي أغطيةٌ والتنوينُ للبدل عن الإعلال عند سيبويهِ وللصرْفِ عند غيره، وقرئ {غواشِ} على إلغاء المحذوف كما في قوله تعالى: {وَلَهُ الجوار} {وكذلك} ومثلَ ذلك الجزاءِ الشديد {نَجْزِى الظالمين} عبّر عنهم بالمجرمين تارةً وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآياتِ اتّصفوا بكل واحدٍ من ذيْنِك الوصفين القبيحين، وذكرُ الجُرم مع الحِرمان من دخول الجنةِ والظلم مع التعذيب بالنار للتنبيه على أنه أعظمُ الجرائمِ والجرائرِ. {والذين ءامَنُواْ} أي بآياتنا أو بكل ما يجب أن يُؤمَنَ به فيدخُل فيه الآياتُ دخولاً أولياً وقوله تعالى: {وَعَمِلُواْ الصالحات} أي الأعمالَ الصالحةَ التي شُرعت بالآيات، وهذا بمقابلة الاستكبارِ عنها {لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} اعتراضٌ وُسّط بين المبتدإِ الذي هو الموصولُ والخبرِ الذي هو الجملةُ {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة} للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولةِ منالِه وتيسُّر تحصيلِه، وقرئ {لا تُكَلَّف نفسٌ}، واسمُ الإشارةِ مبتدأٌ، وأصحابُ الجنةِ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدإ الأولِ، أو اسمُ الإشارةِ بدلٌ من المبتدأ الأولِ الذي هو الموصولُ والخبرُ أصحابُ الجنة. وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببعد منزلتِهم في الفضل والشرف {هُمْ فِيهَا خالدون} حالٌ من أصحاب الجنة وقد جوز كونُه حالاً من الجنة لاشتماله على ضميرها والعاملُ معنى الإضافةِ أو اللام المقدرةِ أو خبرٌ ثانٍ لأولئك على رأي من جوّزه وفيها متعلق بخالدون.
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} أي نخرج من قلوبهم أسبابَ الغل أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التوادُّ. وصيغةُ الماضي للإيذان بتحققه وتقررِه، وعن علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ منهم {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار} زيادةٌ في لذتهم وسرورهم، والجملةُ حالٌ من الضمير في صدورهم والعاملُ إما معنى الإضافة وإما العاملُ في المضاف أو حال من فاعل نزعنا والعاملُ نزعنا وقيل: هي مستأنفةٌ للإخبار عن صفة أحوالِهم {وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} أي لِما جزاؤُه هذا {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ} أي لهذا المطلبِ الأعلى أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها {لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} ووفقنا له، واللام لتأكيد النفي وجوابُ لولا محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبله عليه، ومفعولُ نهتدي وهدانا الثاني محذوفٌ لظهور المرادِ أو لإرادة التعميمِ كما أشير إليه، والجملةُ مستأنَفةٌ أو حالية وقرئ {ما كنا لنهتديَ} الخ، بغير واو على أنها مبيِّنة ومفسرةٌ للأولى.
{لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا} جوابُ قسمٍ مقدر قالوه تبجّحاً واغتباطاً بما نالوه وابتهاجاً بإيمانهم بما جاءتهم الرسلُ عليهم السلام والباء في قوله تعالى: {بالحق} إما للتعدية فهي متعلقةٌ بجاءت أو للملابسة فهي متعلقةٌ بمقدرٍ وقع حالاً من الرسل أي والله لقد جاءوا بالحق أو لقد جاءوا ملتبسين بالحق {وَنُودُواْ} أي نادتهم الملائكةُ عليهم السلام {أَن تِلْكُمُ الجنة} أنْ مفسرةٌ لما في النداء من معنى القولِ أو مخففةٌ من أنّ وضمير الشأنِ محذوفٌ، ومعنى البُعدِ في اسم الإشارةِ إما لأنهم نوُدوا عند رؤيتِهم إياها من مكان بعيد، وإما رفع منزلتِها وبُعدِ رتبتِها، وإما للإشعار بأنها تلك الجنةَ التي وُعدوها في الدنيا {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الأعمال الصالحةِ أي أُعطيتموها بسبب أعمالِكم أو بمقابلة أعمالِكم والجملةُ حال من الجنة والعاملُ معنى الإشارةِ على أن {تلكم الجنةُ} مبتدأٌ وخبرٌ، أو الجنةُ صفةٌ والخبرُ أورثتموها.

.تفسير الآيات (44- 46):

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)}
{وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار} تبجحاً بحالهم وشماتةً بأصحاب النار وتحسيراً لهم لا لمجرد الإخبارِ بحالهم والاستخبارِ عن حال مخاطَبيهم {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا} حيث نلنا هذا المنالَ الجليلَ {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا} حُذف المفعولُ من الفعل الثاني إسقاطاً لهم عن رتبة التشريفِ بالخطاب عند الوعدِ، وقيل: لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصاً بهم وعداً كالبعث والحسابِ ونعيمِ الجنة، فإنهم قد وجدوا جميعَ ذلك حقاً وإن لم يكن وعدُه مخصوصاً بهم {قَالُواْ نَعَمْ} أي وجدناه حقاً، وقرئ بكسر العين وهي لغةٌ فيه {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ} قيل: هو صاحبُ الصُّور {بَيْنَهُمْ} أي بين الفريقين {أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} بأنْ المخفَّفةِ أو المفسِّرةِ، وقرئ بأنّ المشددةِ ونصْبِ {لعنةُ} وقرى {إنّ} بكسر الهمزة على إرادة القولِ أو إجراء أذّن مُجرى قال: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} صفةٌ مقرِّرةٌ للظالمين، أو رفعٌ على الذم أو نصْبٌ عليه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي يبغون لها عِوَجاً بأن يصفوها بالزيغ والميلِ عن الحق وهو أبعدُ شيء منهما والعِوَجُ بالكسر في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصباً وبالفتح ما كان في المنتصِب كالرُّمحِ والحائط {وَهُم بالاخرة كافرون} غيرُ معترفين.
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي بين الفريقين كقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} أو بين الجنة والنار ليمنعَ وصولُ أثرِ إحداهما إلى الأخرى {وَعَلَى الاعراف} أي على أعراف الحجابِ وأعاليه وهو السورُ المضروبُ بينهما جمعُ عُرف مستعار من عُرف الفرس وقيل: العرف ما ارتفع من الشيء فإنه بظهوره أعرفُ من غيره {رِجَالٌ} طائفةٌ من الموحدين قصّروا في العمل فيجلسون بين الجنة والنارِ حتى يقضيَ الله تعالى فيهم ما يشاء، وقيل: قومٌ عَلَت درجاتُهم كالأنبياء والشهداء والأخيارِ والعلماءِ من المؤمنين، أو ملائكةٌ يُرَون في صور الرجال {يَعْرِفُونَ كُلاًّ} من أهل الجنة والنار {بسيماهم} بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجهِ وسوادِه، فعلى من سام إبِلَه إذا أرسلها في المرعى مُعْلَمةً، أو مِنْ وَسَم، بالقلب، كالجاه من الوجه، وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو بتعليم الملائكة {وَنَادَوْاْ} أي رجالُ الأعراف {أصحاب الجنة} حين رأوهم {أَن سلام عَلَيْكُمْ} بطريق الدعاءِ والتحية أو بطريق الإخبارِ بنجاتهم من المكارة {لَمْ يَدْخُلُوهَا} حالٌ من فاعل نادَوْا أو من مفعوله وقوله تعالى: {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} حال من فاعل يدخلوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له، أي لم يدخلوها وهم في وقت عدمِ الدخول طامعون.

.تفسير الآيات (47- 49):

{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}
{وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار} أي إلى جهتهم، وفي عدم التعرضِ لتعلق أنظارِهم بأصحاب الجنةِ والتعبيرِ عن تعلق أبصارِهم بأصحاب النارِ بالصرف إشعارٌ بأن التعلقَ الأولَ بطريق الرغبة والميل الثاني بخلافه {قَالُواْ} متعوذين بالله تعالى من سوء حالِهم {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} أي في النار، وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوءِ الحال الذي هو الموجبُ للدعاء إشعارٌ بأن المحذورَ عندهم ليس نفيَ العذابِ فقط بل مع ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم.
{ونادى أصحاب الاعراف} كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير {رِجَالاً} من رؤساء الكفارِ حين رأَوْهم فيما بين أصحابِ النار {يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم} الدالةِ على سوء حالِهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا {قَالُواْ} بدلٌ من نادى {مَا أغنى عَنكُمْ} {ما} استفهامية للتوبيخ والتقريع أو نافية {جَمْعُكُمْ} أي أتباعُكم وأشياعُكم أو جمعُكم للمال {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} ما مصدريةٌ أي ما أغنى عنكم جمعُكم واستكبارُكم المستمرُّ عن قَبول الحقِّ، أو على الخلق وهو الأنسبُ بما بعده، وقرئ {تستكثرون} من الكثرة أي من الأموال والجنود.
{أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} من تتمة قولِهم للرجال، والإشارةُ إلى ضعفاء المؤمنين الذين كانت الكفرةُ يحتقرونهم في الدنيا ويحلِفون صريحاً أنهم لا يدخُلون الجنةَ أو يفعلون ما ينبىء عن ذلك كما في قوله تعالى: {أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ} {ادخلوا الجنة} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى أولئك المذكورين أي ادخُلوا الجنة على رُغم أنوفِهم {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} بعد هذا {وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} أو قيل لأصحاب الأعراف: ادخُلوا الجنةَ بفضل الله تعالى بعد أن حُبسوا وشاهدوا أحوالَ الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا. والأظهرُ أن لا يكون المرادُ بأصحاب الأعرافِ المقصِّرين في العمل لأن هذه المقالاتِ وما تتفرع هي عليه من المعرفة لا يليق بمن لم يتعيّنْ حالُه بعدُ، وقيل: لما عيّروا أصحابَ النار أقسموا أن أصحابَ النار أقسموا أن أصحابَ الأعرافِ لا يدخُلون الجنة فقال الله تعالى أو الملائكةُ رداً عليهم: {أهؤلاء} الخ، وقرئ {ادخَلوا} و{دَخَلوا} على الاستئناف وتقديرُه دخلوا الجنةَ مقولاً في حقهم لا خوفٌ عليكم.

.تفسير الآيات (50- 52):

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
{ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} بعد أن استقر بكل من الفريقين القرارُ واطمأنت به الدار {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء} أي صُبّوه، وفي دَلالةٌ على أن الجنة فوق النار {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} من سائر الأشربةِ ليُلائِمَ الإفاضة، أو من الأطعمة على أن الإفاضةَ عبارةٌ عن الإعطاء بكثرة {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل: قالوا: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} أي منعهما منهم منعاً كلياً فلا سبيل إلى ذلك قطعاً {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} كتحريم البَحيرة والسائبةَ ونحوِهما والتصديةِ حولَ البيت، واللهوُ صرفُ الهمِّ إلى ما لا يحسُن أن يُصْرفَ إليه، واللعبُ طلبُ الفرحِ بما لا يحسن أن يُطلب {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} بزخارفها العاجلةِ {فاليوم ننساهم} نفعل بهم ما يفعل الناسي بالمنسيِّ من عدم الاعتدادِ بهم وتركِهم في النار تركاً كلياً، والفاء في فاليوم فصيحةٌ وقوله تعالى: {كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا} في محل النصبِ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ، أي ننساهم نسياناً مثلَ نسيانِهم لقاءَ يومِهم هذا حيث لم يُخطِروه ببالهم ولم يعتدّوا له، وقولُه تعالى: {وَمَا كَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ} عطفٌ على ما نسوا أي وكما كانوا منكرين بأنها من عند الله تعالى إنكاراً مستمراً.
{وَلَقَدْ جئناهم بكتاب فصلناه} أي بيّنا معانيَه من العقائد والأحكامِ والمواعظ، والضميرُ للكفرة قاطبةً والمرادُ بالكتاب الجنسُ أو للمعاصِرين منهم والكتابُ هو القرآن {على عِلْمٍ} حالٌ من فاعل فصلناه أي عالمين بوجه تفصيلِه حتى جاء حكيماً أو من مفعوله أي مشتملاً على علم كثير، وقرئ {فضلناه} أي على سائر الكتب عالمين بفضله {هُدًى وَرَحْمَةً} حال من المفعول {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأنهم المغتنمون لآثاره المقتبسون من أنواره.

.تفسير الآيات (53- 54):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي ما ينتظر هؤلاءِ الكفرةُ بعدم إيمانِهم به إلا ما يؤول إليه أمرُه من تبيّن صدقِه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد {يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} وهو يومُ القيامة {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أي تركوه ترْكَ المنسيِّ من قبل إتيانِ تأويلِه {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} أي قد تبين أنهم قد جاءوا بالحق {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} اليوم ويدفعوا عنا العذاب {أَوْ نُرَدُّ} أي هل نرد إلى الدنيا وقرئ بالنصب عطفاً على فيشفعوا أو لأن أو بمعنى إلى أن، فعلى الأول المسؤولُ أحدُ الأمرين، إما الشفاعةُ الدفع للعذاب أو الرد إلى الدنيا وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاءُ إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد هو الرد {فَنَعْمَلَ} بالنصب على أنه جواب الاستفهام الثاني وقرئ بالرفع أي فنحن نعمل {غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} أي في الدنيا {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} بصرف أعمارِهم التي هي رأسُ مالِهم إلى الكفر والمعاصي {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ظهر بطلانُ ما كانوا يفترونه من أن الأصنامَ شركاءُ الله تعالى وشفعاؤهم يوم القيامة.
{إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والارض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} شروعٌ في بيان مبدأ الفطرةِ إثرَ بيانِ معادِ الكفَرة أي إن خالقَكم ومالكَكم الذي خلق الأجرامَ العلوية والسفليةَ في ستة أوقات كقوله تعالى: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أو في مقدار ستةِ أيامٍ فإن المتعارفَ أن اليومَ زمانُ طلوعِ الشمسِ إلى غروبها، ولم تكن هي حينئذ وفي خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إبداعها دفعةُ دليلٍ على الاختيار واعتبارٌ للنُظّار وحثٌّ على التأني في الأمور {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي استوى أمرُه واستولى وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفة الله تعالى بلا كيف والمعنى أنه تعالى استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن، والعرشُ الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملِك فإن الأمورَ والتدابير تنزِل منه وقيل: الملك.
{يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي يغطّيه به ولم يُذكر العكسُ للعلم به أو لأن اللفظَ يحتملهما ولذلك قرئ بنصب الليلَ ورفع النهار وقرئ بالتشديد للدلالة على التكرار {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي يعقُبه سريعاً كالطالب له لا يفصل بينهما شيء، والحثيثُ فعيل من الحث وهو صفةُ مصدرٍ محذوفٍ، أو حال من الفاعل أو من المفعول بمعنى حاثاً أو محثوثاً {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ} أي خلقهن حال كونهِن مسخراتٍ بقضائه وتصريفِه، وقرئ {كلُّها} بالرفع على الابتداء والخبر {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} فإنه الموجدَ للكل والمتصرِّفَ فيه على الإطلاق {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} أي تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظّم بالتفرد في الربوبية.
وتحقيقُ الآية الكريمةِ والله تعالى أعلم أن الكفرةَ كانوا كانوا متخذين أرباباً فبيّن لهم أن المستحِقَّ للربوبية واحدٌ هو الله تعالى لأنه الذي له الخلقُ والأمرُ فإنه تعالى خلق العالمَ على ترتيب قويمٍ وتدبيرٍ حكيم فأبدع الأفلاكَ ثم زينها بالشمس والقمر والنجومِ كما أشار إليه بقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِي يَوْمَيْنِ} وعمَد إلى الأجرام السفليةِ فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدّلةِ والهيئاتِ المختلفة ثم قسمها لصور نوعيةٍ متباينةِ الآثار والأفعالِ وأشار إليه بقوله تعالى: {خَلَقَ الارض فِي يَوْمَيْنِ} أي ما في جهة السُّفلِ في يومين ثم أنشأ أنواعَ المواليدِ الثلاثةِ بتركيب موادِّها أولاً وتصويرِها ثانياً كما قال بعد قوله تعالى: {خَلَقَ الارض فِي يَوْمَيْنِ} {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} أي مع اليومين الأولين لِما فُصّل في سورة السجدة ثم لمّا تم له عالمُ المُلك عمَد إلى تدبيره كالملك الجالس على سريره فدبر الأمرَ من السماء إلى الأرض بتحريك الأفلاكِ وتسيير الكواكبِ وتكويرِ الليالي والأيامِ، ثم صرّح بما هو فذلكةُ التقريرِ ونتيجتُه فقال تعالى: {أَلاَ لَهُ الخلق والامر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} ثم أمر بأن يدعوُه مخلِصين متذلِّلين فقال: