فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (31):

{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
{وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا} شروعٌ في تفصيل ما جَرى بعد الجواب الإجماليِّ تحقيقاً لمضمونه وتفسيراً لإبهامه، وهو عطفٌ على {قال}، والابتداءُ بحكاية التعليم يدل بظاهره على أن ما مرَّ من المقاولة المحكيةِ إنما جرت بعد خلقِه عليه السلام بمحضَرٍ منه، وهو الأنسبُ بوقوف الملائكة على أحواله عليه السلام، بأن قيل إثْرَ نفخِ الروحِ فيه: إني جاعلٌ إياه خليفةً فقيل ما قيل كما أشير إليه، وإيرادُه عليه السلام باسمه العِلْميِّ لزيادة تعيين المرادِ بالخليفة، ولأن ذكرَه بعنوان الخلافة لا يلائم مقامَ تمهيدِ مباديها، وهو اسمٌ أعجميٌّ والأقربُ أن وزنه فاعلٌ كشالَخ وعاذَرَ وعابَرَ وفالغَ لا أفعل، والتصدي لاشتقاقه من الأُدْمة أو الأَدَمة بالفتح بمعنى الأسوة، أو من أديم الأرض بناء على ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: من أنه تعالى قبض قبضةً من جميع الأرض سهلِها وحَزْنها فخلق منها آدم، ولذلك اختلفت ألوانُ ذريته أو من الأَدْم والأدمة بمعنى الألفة تعسفٌ كاشتقاق إدريسَ من الدَّرْس، ويعقوبَ من العقِب، وإبليس من الإبلاس، والاسمُ باعتبار الاشتقاقِ ما يكون علامةً للشيء ودليلاً يرفعُه إلى الذهن من الألفاظ والصفات والأفعال، واستعمالُه عرفاً في اللفظ الموضوع لمعنى مفرداً كان أو مركباً مُخبَراً عنه أو خبراً أو رابطةً بينهما، واصطلاحاً في المفرد الدال على معنى في نفسه غيرَ مقترنٍ بالزمان، والمراد هاهنا إما الأولُ أو الثاني، وهو مستلزمٌ للأول، إذ العلمُ بالألفاظ من حيث الدلالةُ على المعاني مسبوقٌ بالعلم بها والتعليمُ حقيقةً عبارةٌ عن فعلٍ يترتب عليه العلمُ بلا تخلف عنه ولا يحصُل ذلك بمجرد إفاضةِ المعلم، بل يتوقف على استعداد المتعلم لقبول الفيضِ وتلقّيه من جهته كما مر في تفسير الهدى، وهو السرُّ في إيثاره على الإعلام والإنباء، فإنهما إنما يتوقفان على سماع الخبر الذي يشترك فيه البشرُ والمَلك، وبه يظهر أحقيتُه بالخلافة منهم عليهم السلام لما أن جِبلّتَهم غيرُ مستعدةٍ للإحاطة بتفاصيلِ أحوالِ الجزئيات الجُسمانية خُبْراً، فمعنى تعليمِه تعالى إياه أن يخلُقَ فيه إذ ذاك بموجب استعداده علماً ضرورياً تفصيلياً بأسماء جميعِ المسميات وأحوالِها وخواصِّها اللائقةِ بكلَ منها، أو يُلقيَ في رُوعه تفصيلاً أن هذا فرس، وشأنُه كيت وكيت، وذاك بعيرٌ وحالُه ذَيْت وذَيْت إلى غير ذلك من أحوال الموجودات، فيتلقاها عليه السلام حسبما يقتضيه استعدادُه ويستدعيه قابليتُه المتفرعةُ على فطرته المنطويةِ على طبائعَ متباينة وقوى متخالفةٍ وعناصرَ متغايرة.
قال ابنُ عباس وعكرمةُ وقتادةُ ومجاهدٌ وابنُ جُبيرٍ رضي الله تعالى عنهم: علّمه أسماءَ جميعِ الأشياءِ حتى القصعةَ والقصيعةَ وحتى الجفنةَ والمِحْلَب وأنحى منفعةَ كلِّ شيءٍ إلى جنسِه. وقيل: أسماءَ ما كان وما سيكونُ إلى يوم القيامة، وقيل: معنى قولَه تعالى وعلم آدمَ الأسماءَ خلقه من أجزاءَ مختلفةٍ وقوىً متباينةٍ مستعداً لإدراكِ أنواع المُدرَكات من المعقولات والمحسوسات والمتخيَّلات والموهومات، وألهمه معرفةَ ذواتِ الأشياءِ وأسمائها وخواصِها ومعارفِها وأصولَ العلم وقوانينَ الصناعاتِ وتفاصيلَ آلاتِها وكيفياتِ استعمالاتها، فيكونُ ما مرَّ من المقاولةِ قبل خلقه عليه السلام.
وقيل: التعليمُ على ظاهره ولكنَّ هناك جملاً مطويةً عطف عليها المذكور أي فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح وعلمه إلخ {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة} الضمير للمسميات المدلول عليها بالأسماء كما في قوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} والتذكيرُ لتغليبِ العقلاءِ على غيرهم وقرئ {عرَضَهن} و{عرضَها} أي عرضَ مسمَّياتِهن أو مسمياتها، في الحديث: أنه تعالى عرضهم أمثالَ الذر، ولعلّه عز وجل عرضَ عليهم من أفراد كلِّ نوعٍ ما يصلحُ أنْ يكونَ أنموذجاً يُتعرفُ منه أحوالَ البقيةِ وأحكامها.
{فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء} تبكيتاً لهم وإظهاراً لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءَهم من أمرِ الخلافةِ، فإن التصرفَ والتدبيرَ وإقامةَ المعدلةِ بغير وقوفِ على مراتبِ الاستعداداتِ ومقاديرِ الحقوق مما لا يكاد يمكنُ والإنباءُ إخبارُ فيه إعلامُ، ولذلك يجري مجرى كل منهما والمرادُ هاهنا ما خلا عنه، وإيثاره على الإخبار للإيذان برفعة شأنِ الأسماء وعظمِ خطرها، فإن النبأَ إنَّما يطلق على الخبرِ الخطيرِ والأمرِ العظيم {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في زعمكم أنكم أحقاءُ بالخلافة ممن استخلفته كما ينبىء عنه مقالُكم، والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه قد يتطرق إليه باعتبارِ ما يلزمُه من الإخبارِ، فإن أدنى مراتبِ الاستحقاق هو الوقوفُ على أسماءِ ما في الأرض، وأما ما قيل من أن المعنى في زعمكم أني أستخلفُ في الأرض مفسدين سفاكين للدماء فليس مما يقتضيه المقامُ، وإن أُوِّلَ بأنْ يقالَ في زعمِكم أنِّي أستخلفُ مَنْ غالبُ أمرِه الإفسادُ وسفكُ الدماءِ منْ غيرِ أنْ يكونَ له مزيةٌ من جهةٍ أخرى، إذ لا تعلق له بأمرهم بالإنباءِ. وجوابُ الشرط محذوفٌ لدلالةِ المذكورِ عليه.

.تفسير الآية رقم (32):

{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
{قَالُواْ} استئنافٌ واقعٌ موقعَ الجواب كأنه قيل: فماذا قالوا حينئذ، هل خرجوا عن عُهدة ما كُلفوه أو لا؟ فقيل: قالوا {سبحانك} قيل: هو علمٌ للتسبيح ولا يكاد يستعملُ إلا مضافاً وقد جاءَ غيرَ مضافٍ على الشذوذِ غيرَ منصرفٍ للتعريف والألفِ والنون المزيدتين كما في قوله:
سُبحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخرِ

وأما في قوله:
سبحانه ثم سُبحاناً نعودُ له

فقيل: صَرَفه للضرورة، وقيل: إنه مصدر منكرٌ كغفران، لا اسمُ مصدر، ومعناه على الأول نسبحك عما لا يليق بشأنك الأقدسِ من الأمور التي من جملتها خلوُّ أفعالِك من الحِكَم والمصالحِ وعنَوا بذلك تسبيحاً ناشئاً عن كمال طُمَأنينة النفسِ والإيمان باشتمال استخلاف آدمَ عليه السلام على الحِكَم البالغة، وعلى الثاني تنزهّتَ عن ذلك ناشئاً عن ذاتِك، وأرادوا به أنهم قالوه عن إذعان لمّا علِموا إجمالاً بأنه عليه السلام يُكلَّف ما كُلِّفوه، وأنه يقدِر على ما قد عجزوا عنه مما يتوقف عليه الخلافة، وقوله عز وعلا: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} اعتراف منهم بالعجز عما كُلِّفوه، إذ معناه لا علم لنا إلا ما علمتناه بحسب قابليتِنا من العلوم المناسبة لعالمنا ولا قُدرة بنا على ما هو خارج عن دائرة استعدادِنا حتى لو كنا مستعدّين لذلك لأفَضْتَه علينا، و{ما} في ما علمتنا موصولةٌ حذف من صلتها عائدُها أو مصدرية، ولقد نفَوْا عنهم العلمَ بالأسماء على وجه المبالغة حتى لم يقتصِروا على بيان عدمِه بأن قالوا مثلاً لا علم لنا بها، بل جعلوه من جُملة ما لا يعلمونه، وأشعروا بأن كونَه من تلك الجملة غنيٌّ عن البيان {إِنَّكَ أَنتَ العليم} الذي لا يخفى عليه خافية، وهذا إشارةٌ إلى تحقيقهم لقوله تعالى: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} {الحكيم} أي المحكِمُ لمصنوعاته الفاعلُ لها حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة وهو خبرٌ بعد خبر، أو صفةٌ للأول، و{أنت} ضميرُ الفصل لا محل له من الإعراب، أو له محل منه مشارِكٌ لما قبله كما قاله الفرّاء، أو لما بعده كما قاله الكسائي، وقيل: تأكيد للكاف كما في قولك: مررتُ بك أنت، وقيل: مبتدأ خبرُه ما بعده، والجملة خبر إن، وتلك الجملةُ تعليلٌ لما سبق من قصر علمِهم بما علّمهم الله تعالى وما يفهم من ذلك من علم آدمَ عليه السلام بما خفيَ عليهم، فكأنهم قالوا أنت العالمُ بكل المعلوماتِ التي من جملتها استعدادُ آدمَ عليه السلام لما نحن بمعزلٍ من الاستعداد له من العلوم الخفيةِ المتعلقةِ بما في الأرضِ من أنواع المخلوقات التي عليها يدور فَلَكُ خلافةِ الحكيمِ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحِكمةُ ومن جملته تعليمُ آدمَ عليه السلام ما هو قابلٌ له من العلوم الكليةِ والمعارفِ الجزئيةِ المتعلقة بالأحكام الواردةِ على ما في الأرض، وبناءُ أمرِ الخلافةِ عليها.

.تفسير الآية رقم (33):

{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
{قَالَ} استئناف كما سلف {قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم} أي أعلِمْهم، أُوثرَ على أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضاً وهو ظهورُ فضلِ آدمَ عليهم، عليهم السلام، إبانةً لما بين الأمرين من التفاوت الجليّ وإيذاناً بأن عِلْمَه عليه السلام بها أمرٌ واضحٌ غيرُ محتاجٍ إلى ما يجري مَجرى الامتحان، وأنه عليه السلام حقيقٌ بأن يعلمَها غيرُه وقرئ بقلب الهمزة ياءً وبحذفِها أيضاً والهاء مكسورةٌ فيهما {بِأَسْمَائِهِمْ} التي عجَزوا عن علمها واعترفوا بتقاصُر هممِهم عن بلوغِ مرتبتها {فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم} الفاء فصيحةٌ عاطفةٌ للجملة الشرطية على محذوف يقتضيهِ المقامُ وينسحِبُ عليه الكلام، للإيذان بتقرُّره وغِناه عن الذكر، وللإشعارِ بتحقُّقه في أسرع ما يكون كما في قوله عز وجل: {فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} بعد قولِه سبحانه: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءاتِيكَ} وإظهارُ الأسماءِ في موقع الإضمارِ لإظهار كمالِ العنايةِ بشأنها، والإيذانِ بأنه عليه السلام أنبأهم بها على وجه التفصيلِ دون الإجمالِ، والمعنى فأنبأهم بأسمائهم مفصّلةً وبيّن لهم أحوالَ كلَ منهم وخواصَّه وأحكامَه المتعلقة بالمعاش والمعاد، فعلِموا ذلك لمّا رأَوْا أنه عليه السلام لم يتلعثم في شيء من التفاصيل التي ذكرها مع مساعدة ما بين الأسماءِ والمسميات من المناسبات والمُشكلات وغيرِ ذلك من القرائن الموجبةِ لصدق مقالاتِه عليه السلام، فلما أنبأهم بذلك {قَالَ} عز وجل تقريراً لما مر من الجواب الإجماليِّ واستحضاراً له {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض} ولكن لا لتقرير نفسِه كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} ونظائرِه بل لتقرير ما يفيده من تحقق دواعي الخلافةِ في آدمَ عليه السلام لظهور مِصْداقه، وإيرادُ ما لا يعلمون بعنوان الغيبِ مضافاً إلى السموات والأرض للمبالغة في بيان كمالِ شمولِ علمِه المحيطِ وغايةِ سَعته، مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم وعلم آدمَ عليه السلام من الأمور المتعلقة بأهل السموات وأهل الأرض، وهذا دليل واضحٌ على أن المراد {بما لا تعلمون} فيما سبق ما أشير إليه هناك كأنه قيل ألم أقل لكم إني أعلم فيه من دواعي الخلافةِ ما لا تعلمونه فيه هو هذا الذي عاينتموه، وقوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} عطفٌ على جملة {ألم أقل لكم} لا على أعلم، إذ هو غيرُ داخلٍ تحت القول، و(ما) في الموضعين موصولةٌ حذف عائدُها أي أعلم ما تبدونه وما تكتمونه، وتغييرُ الأسلوب للإيذان باستمرار كَتْمِهم، قيل: المراد بما يبدون قولُهم أتجعل الخ، وبما يكتمون استبطانُهم أنهم أحِقّاءُ بالخلافة وأنه تعالى لا يخلُق خلقاً أفضل منهم.
رُوي أنه تعالى لما خلق آدمَ عليه السلام رأت الملائكةُ فِطرتَه العجيبةَ وقالوا ليكن ما شاء فلن يخلُقَ ربُنا خلقاً إلا كنا أكرمَ عليه منه وقيل: هو ما أسره إبليسُ في نفسه من الكِبْر وتركِ السجود، فإسنادُ الكِتمان حينئذ إلى الجميع من قبيل قولهم بنو فلان قتلوا فلاناً والقاتل واحدٌ من بينهم، قالوا: في الآية الكريمة د2لالةٌ على شرف الإنسان ومزية العلمِ وفضلِه على العبادة، وأن ذلك هو المناطُ للخلافة، وأن التعليم يصحُّ إطلاقُه على الله تعالى.
وإن لم يصح إطلاقُ المعلِّم عليه لاختصاصه عادة بمن يحترِفُ به، وأن اللغاتِ توقيفيةٌ إذ الأسماءُ تدل على الألفاظ بخصوص أو بعموم، وتعليمُها ظاهرٌ في إلقائها على المتعلم مبيناً له معانيَها، وذلك يستدعي سابقةَ وضعٍ، وما هو إلا من الله تعالى وأن مفهوم الحِكمة زائدٌ على مفهوم العلم وإلا لزم التكرارُ وأن علومَ الملائكة وكمالاتِهم تقبل الزيادة، والحكماءُ منعوا ذلك في الطبقة العليا منهم وحملوا على ذلك قولَه تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} وأن آدمَ أفضلُ من هؤلاء الملائكة لأنه عليه السلام أعلمُ منهم وأنه تعالى يعلمُ الأشياءَ قبل حدوثِها.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}
{وَإِذْ قُلْنَا للملائكة} عطفٌ على الظرف الأول منصوبٌ بما نصبه من المُضمَر، أو بناصب مستقلٍ معطوفٍ على ناصبه عطفَ القصة على القصة، أي واذكر وقت قولنا لهم، وقيل: بفعل دل عليه الكلام، أي أطاعوا وقت قولِنا الخ، وقد عرفت ما في أمثاله، وتخصيصُ هذا القول بالذكر مع كون مقتضى الظاهرِ إيرادَه على منهاج ما قبله من الأقوال المحكيةِ المتصلةِ به للإيذان بأن ما في حيّزه نعمةٌ جليلةٌ مستقلة حقيقةٌ بالذكر والتذكيرِ على حِيالها، والالتفاتُ إلى التكلم لإظهار الجلالةِ وتربيةِ المهابة مع ما فيه من تأكيد الاستقلال، وكذا إظهارُ الملائكة في موضع الإضمار، والكلام في اللام وتقديمِها مع مجرورها على المفعول كما مر، وقرئ بضم تاء الملائكة إتباعاً لضم الجيم في قوله تعالى: {اسجدوا لاِدَمَ} كما قرئ بكسر الدال في قوله تعالى: {الحمد للَّهِ} إتباعاً لكسر اللام وهي لغة ضعيفة، والسجودُ في اللغة الخضوعُ والتطامُن، وفي الشرع وضعُ الجبهة على الأرض على قصد العبادة، فقيل: أُمِروا بالسجود له عليه والسلام على وجه التحية تعظيماً له واعترافاً بفضله وأداءً لحق التعليم واعتذاراً عما وقع منهم في شأنه، وقيل: أمروا بالسجود له تعالى وإنما كان آدمُ قِبلةً لسجودهم تفخيماً لشأنه أو سبباً لوجوبه، فكأنه تعالى لما بَرَأه أُنموذَجاً للمُبدَعات كلِّها ونسخةً منطويةً على تعلق العالم الروحاني بالعالم الجُسماني وامتزاجِهما على نمط بديعٍ أمرهم بالسجود له تعالى لما عاينوا من عظيم قدرتِه، فاللام فيه كما في قول حسانَ رضي الله عنه:
أليس أولَ من صلَّى لقِبلتكم ** وأعرفَ الناسِ بالقرآنِ والسننِ

أو في قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} والأولُ هو الأظهر، وقوله عز وجل: {فَسَجَدُواْ} عطف على قلنا، والفاء لإفادة مسارعتِهم إلى الامتثال وعدمِ تلعثُمِهم في ذلك، رُوي عن وهْب أن أولَ من سجد جبريلُ ثم ميكائيلُ ثم إسرافيلُ ثم عزرائيلُ ثم سائرُ الملائكة عليهم السلام وقوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناءٌ متصل لما أنه كان جنّياً مفرَداً مغموراً بألوف من الملائكة متصفاً بصفاتهم فغَلبوا عليه في فسجدوا، ثم استثني استثناءَ واحدٍ منهم أو لأن من الملائكة جنساً يتوالدون يقال لهم الجنُّ كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو منهم، أو لأن الجن أيضاً كانوا مأمورين بالسجود له لكن استُغني بذكر الملائكة عن ذكرهم. أو منقطعٌ: وهواسمٌ أعجميٌ ولذلك لم ينصرِف ومن جعله مشتقاً من الإبلاس وهو إلباس قال: إنه مُشبَّهٌ بالعجمة حيث لم يُسمَّ به أحدٌ فكان كالاسم الأعجميّ.
واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمةُ والتي في سورة الأعراف من قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ} الآية، والتي في سورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه من قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ فَسَجَدُواْ} الآية، أن سجودَ الملائكة إنما ترتب على الأمر التنجيزيّ الوارد بعد خلقِه وتسويته ونفخِ الروحِ فيه ألبتة كما يلوح به حكايةُ امتثالِهم بعبارة السجود دون الوقوعِ الذي به ورد الأمرُ التعليقي، ولكن ما في سورة الحِجْرِ من قوله عز وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين * فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} وما في سورة ص من قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَراً مّن طِينٍ} إلى آخر الآية يستدعيان بظاهرهما ترتُّبَه على ما فيهما من الأمر التعليقيِّ من غير أن يتوسط بينهما شيءٌ ما تُفصحَ عنه الفاءُ الفصيحة من الخلق والتسوية ونفخِ الروحِ فيه عليه السلام.
وقد رُوي عن وهْبٍ أنه كان السجود كما نفخ فيه الروح بلا تأخير، وتأويلُ الآيات السابقةِ بحمل ما فيها من الأمر على حكاية الأمرِ التعليقيّ بعد تحققِ المعلَّقِ به إجمالاً، فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز يأباه ما في سورة الأعراف من كلمة ثم المناديةِ بتأخر ورودِ الأمرِ عن التصوير المتأخرِ عن الخلق المتأخر عن الأمر التعليقي، والاعتذارُ بحمل التراخي على الرُتبيّ أو التراخي في الإخبار، أو بأن الأمرَ التعليقي قبل تحققِ المعلَّق به لمّا كان في عدم إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جُعل كأنه إنما حدَث بعد تحققه فحُكي على صورة التنجيزِ يؤدي بعد اللتيا والتي إلى أن ما جرى بينه وبينهم عليهم السلام في شأن الخلافة وما قالوا فيه وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوقِ بمعرفة جلالة منزلتِه عليه السلام وخروجِ إبليسَ من البَيْن باللعن المؤبد لعِناده، وبعد مشاهدتهم لذلك كله عياناً وهل هو إلا خرقٌ لقضية العقل والنقل، والالتجاءُ في التقصّي عنه إلى تأويل نفخِ الروحِ بحمله على ما يعُمُّ إفاضةَ ما به حياةُ النفوس التي من جملتها تعليمُ الأسماء تعسّفٌ يُنبىء عن ضيق المجال.
فالذي يقتضيه التحقيقُ ويستدعيه النظمُ الأنيقُ بعد التصفح في مستودعات الكتاب المكنونِ والتفحصِ عما فيه من السر المخزون أن سجودَهم له عليه السلام إنما ترتب على الأمر التنجيزيّ المتفرعِ على ظهور فضلِه عليه السلام المبني على المحاورة المسبوقةِ بالإخبار بخلافته المنتظمِ جميعَ ذلك في سلك ما نيط به الأمرُ التعليقيُّ من التسوية ونفخِ الروحِ، إذ ليس من قضيته وجوبُ السجود عقيبَ نفخِ الروحِ فيه، فإن الفاءَ الجزائيةَ ليست بنصَ في وجوب وقوعِ مضمونِ الجزاء عقيبَ وجودِ الشرط من غير تراخٍ، للقطع بعدم وجوبِ السعي عقيبَ النداء، لقوله تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن} الآية، وبعدم وجوب إقامةِ الصلاة غِبَّ الاطمئنانِ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا}
بل إنما الوجوبُ عند دخول الوقت. كيف لا والحكمة الداعية إلى ورود ما نحن فيه من الأمر التعليقيِّ إثرَ ذي أثيرٍ إنما هي حملُ الملائكةِ عليهم السلام على التأمُّل في شأنه عليه السلام ليتدبروا في أحواله طراً، ويُحيطوا بما لديه خُبراً، ويستفهموا ما عسى يستَبْهم عليهم في أمره عليه السلام لابتنائه على حِكَم أبيّة، وأسرارٍ خفية طُويت عن علومهم، ويقفوا على جلية الحال قبل ورود الأمر التنجيزي وتحتُّمِ الامتثال وقد قالوا بحسب ذلك ما قالوا وعاينوا ما عاينوا وعدمُ نظمِ الأمر التنجيزيّ في سلك الأمور المذكورةِ في السورتين عند الحكاية لا يستلزمُ عدمَ انتظامِه فيه عند وقوعِ المحكيِّ كما أن عدمَ ذكر الأمر التعليقي عند حكايةِ الأمرِ التنجيزيِّ في السورة الكريمة المذكورة لا يوجب عدمَ مسبوقيتِه به، فإن حكاية كلامٍ واحدٍ على أساليبَ مختلفةٍ حسبما يقتضيه المقامُ ويستدعيه حسنُ الانتظامِ ليست بعزيزة في الكتاب العزيز، وناهيك بما نقل في توجيه قولِه تعالى: {بَشَرًا} مع عدم سبقِ معرفةِ الملائكةِ عليهم السلام بذلك وحيث صِيَر إليه مع أنه لم يرِدُ به نقلٌ فما ظنك بما قد وقع التصريحُ به في مواضعَ عديدةٍ فلعله قد أُلقي إليهم ابتداءً جميعُ ما يتوقف عليه الأمرُ التنجيزيُّ إجمالاً بأن قيل مثلاً إني خالقٌ بشراً من كذا وكذا وجاعل إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي وتبين لكم شأنُه فقعوا له ساجدين، فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح، فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقي إليهم خبرُ الخلافة بعد تحقق الشرائطِ المعدودة بأن قيل إثرَ نفخِ الروح فيه إني جاعلٌ هذا خليفة في الأرض فهناك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا، فأيده الله عز وجل بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه ما شاهدوا، فعند ذلك ورد الأمرُ التنجيزيّ اعتناءً بشأن المأمور به وتعييناً لوقته، وقد حُكي بعضُ الأمور في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضِها اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ.
والذي يحسم مادةَ الاشتباهِ أن ما في سورة ص من قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} الخ، بدل من قوله تعالى: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فيما قبله من قوله تعالى: {مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (3) أي بكلامهم عند اختصامِهم والمرادُ بالملأ الأعلى الملائكةُ وآدمُ عليهم السلام وإبليسُ حسبما أطبق عليه جمهورُ الأمة، وباختصامهم ما جرى بينهم في شأن خلافةِ آدمَ عليه السلام من التقاوي الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوعُ الاختصامِ المذكورِ في تضاعيف ما ذكر فيه تفصيلاً من الأمر التعليقيّ، وما عُلِّق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكةِ عليهم السلام وعنادِ إبليسَ وما تبِعه من لعنه وإخراجِه من بَيْن الملائكة، وما جرى بعده من الأفعال والأقوال، وإذ ليس تمامُ الاختصامِ بعد سجودِ الملائكة ومكابرةِ إبليسَ المستتبعةِ لطرده من بينهم لما عرفتَ من أنه أحدُ المختصِمين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورةَ استحالةِ الإنباءِ بالأسماء حينئذ، فهو إذن بعد نفخِ الروحِ وقبل السجود حتماً بأحد الطريقين والله سبحانه أعلمُ بحقيقة الأمر.
{أبى واستكبر} استئنافٌ مبين لكيفية عدمِ السجود المفهوم من الاستثناء وأنه لم يكن للتردد أو للتأمل والإباءُ الامتناعُ بالاختيار، والتكبرُ أن يرى نفسه أكبرَ من غيره، والاستكبارُ طلب ذلك بالتشبّع، أي امتنع عما أُمر به واستكبر من أن يعظِّمه أو يتخذه وصلةً في عبادة ربِّه، وتقديمُ الإباءِ على الاستكبار مع كونه مسبِّباً عنه لظهوره ووضوحِ أثرِه واقتُصر في سورة ص على ذكر الاستكبار اكتفاءً به، وفي سورة الحجر على ذكر الإباءِ حيث قيل أبى أن يكون مع الساجدين {وَكَانَ مِنَ الكافرين} أي في علم الله تعالى، إذ كان أصلُه من كفرة الجنِّ فلذلك ارتكب ما ارتكبه على ما أفصح عنه قولُه تعالى: {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} فالجملةُ اعتراضيةٌ مقرِّرةٌ لما سبق من الإباء والاستكبار، أو صار منهم باستقباح أمرِه تعالى إياه بالسجود لآدمَ عليه السلام زعماً منه أنه أفضلُ منه، والأفضلُ لا يُحسِنُ أن يؤمَرَ بالخضوع للمفضول كما يفصح عنه قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} حين قيل له: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} لا بترك الواجب وحده، فالجملةُ معطوفة على ما قبلها، وإيثارُ الواو على الفاء للد2لالة على أن محضَ الإباءِ والاستكبارِ كفرٌ لا لأنهما سببان له كما تفيده الفاء.