فصل: تفسير الآيات (138- 139):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (138- 139):

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)}
وقوله عز وجل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر} شروعٌ في قصة بني إسرائيلَ وشرحِ ما أحدثوه من الأمور الشنيعةِ بعد أن أنقذهم الله عز وجل من مَلَكة فرعون ومنّ عليهم من النعم العظامِ الموجبةِ للشكر وأراهم من الآيات الكبارِ ما تخِرّ له شمُّ الجبال تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيقاظاً للمؤمنين حتى لا يغفُلوا عن محاسبة أنفسِهم ومراقبةِ أحوالِهم. وجاوز بمعنى جاز، وقرئ {جوّزنا} بالتشديد وهو أيضاً بمعنى جاز فعُدّي بالباء أي قطعنا بهم البحر. روي أنه عبر بهم موسى عليه السلام يوم عاشوراءَ بعد ما أهلك الله تعالى فرعون فصاموه شكراً لله عز وجل {فَاتُواْ} أي مروا {على قَوْمٍ} قيل: كانوا من لَخْمٍ، وقيل: من العمالقة الكنعانيين الذين أُمر موسى عليه السلام بقتالهم {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها، وقرئ بكسر الكاف، قال ابن جريج: كانت أصنامُهم تماثيلَ بقرٍ وهو أولُ شأن العجل {قَالُواْ} عندما شاهدوا أحوالَهم {ياموسى اجعل لَّنَا إلها} مثالاً نعبُده {كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} الكافُ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لإلها وما موصولة ولهم صلتها وآلهة بدل من وما والتقدير اجعل لنا إلها كائناً كالذي استقر هو لهم {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تعجب عليه السلام من قولهم هذا إثرَ ما شاهدوا من الآية الكبرى والمعجزةِ العُظمى فوصفهم بالجهل المطلقِ إذ لا جهل أعظمُ مما ظهر منهم، وأكده بقوله: {إِنَّ هَؤُلآء} يعني القومَ الذين يعبدون تلك التماثيلَ {مُتَبَّرٌ} أي مُدمّرٌ مكسَّرٌ {مَّا هُمْ فِيهِ} أي من الدين الباطلِ أي يُتبرّ الله تعالى ويهدِم دينَهم الذي هم عليه عن قريب ويحطّم أصنامَهم ويتركها رُضاضاً، وإنما جيء بالجملة الاسميةِ للدلالةِ على التحقق {وباطل} أي مضمحلٌّ بالكلية {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من عبادتها وإن كان قصدُهم بذلك التقريبَ إلى الله تعالى فإنه كفرٌ محضٌ، وليس هذا كما في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} كما تُوهم فإن المرادَ به أعمالُ البِرِّ التي عمِلوها في الجاهلية فإنها في أنفسها حسناتٌ لو قارنت الإيمانَ لاستتبعت أجورَها وإنما بطَلت لمقارنتها الكفرَ، وفي إيقاع هؤلاءِ اسماً لإن وتقديمِ الخبر من الجملة الواقعةِ خبراً لها وسْمٌ لعبدة الأصنامِ بأنهم هم المُعرَّضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتةَ وأنه لهم ضربةُ لازبٍ ليحذّرهم عاقبةَ ما طلبوا ويُبغِضَ إليهم ما أحبوا.

.تفسير الآيات (140- 142):

{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)}
{قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها} شروعٌ في بيانِ شؤونِ الله تعالى الموجبةِ لتخصيص العبادةِ به تعالى بعد بيانِ أن ما طلبوا عبادتَه مما لا يمكن طلبُه أصلاً لكونه هالكاً باطلاً، ولذلك وسّط بينهما قال مع كونِ كلَ منهما كلامَ موسى عليه الصلاة والسلام، والاستفهامُ للإنكار والتعجب والتوبيخِ وإدخالُ الهمزةِ على غير للإيذان بأن المنكَرَ هو كونُ المبْغيِّ غيرَه تعالى لما أنه لاختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكارِ الاختصاصِ بغيره تعالى، وانتصابُ غير على أنه مفعولُ أبغي بحذف اللام أي أبغي لكم أي أطلب لكم غيرَ الله تعالى، وإلها تمييزٌ أو حال أو على الحالية من إلها وهو المفعولُ لأبغي على أن الأصلَ أبغي لكم إلها غيرَ الله فغيرَ الله صفةٌ لإلها فلما قُدّمت صفةُ النكرةِ انتصبت حالاً {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} أي والحالُ أنه تعالى خصكم بنعمٍ لم يُعطِها غيرَكم، وفيه تنبيهٌ على ما صنعوا من سوء المعاملةِ حيث قابلوا تخصيصَ الله تعالى إياهم من بين أمثالِهم بما لم يستحقوه تفضلاً بأن عمَدوا إلى أخسّ شيءٍ من مخلوقاته فجعلوه شريكاً له تعالى. تباً لهم ولما يعبدون.
{وَإِذَ أنجيناكم} تذكيرٌ لهم من جهته سبحانه بنعمة الإنجاءِ من ملَكة فرعون وقرئ {نجّينا} كم من التنجية، وقرئ {أنجاكم} فيكون مَسوقاً من جهة موسى عليه الصلاة والسلام أي واذكروا وقت إنجائِنا إياكم {مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} من ملَكتهم لا بمجرد تخليصِكم من أيديهم وهم على حالهم في المَكِنة والقدرة بل بإهلاكهم بالكلية وقوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} من سامه خسفاً أي أولاه إياه أو كلفه إياه، وهو إما استئنافٌ لبيان ما أنجاهم منه أو حالٌ من المخاطَبين أو من آل فرعون أو منهما معاً لاشتماله على ضميريهما وقوله تعالى: {يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} بدلٌ من يسومونكم مُبين أو مفسّرٌ له {وَفِى ذلكم} الإنجاءِ أو سوءِ العذاب {بَلاءٌ} أي نعمةٌ أو محنة {مّن رَّبّكُمْ} من مالك أمرِكم فإن النعمةَ والنقِمةَ كلتاهما منه سبحانه وتعالى {عظِيمٌ} لا يقادَر قدرُه {وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً} روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيلَ وهم بمصرَ إن أهلك الله عدوَّهم أتاهم بكتاب فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعونُ سأل موسى عليه السلام ربه الكتابَ فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهرُ ذي القَعدة فلما أتمّ الثلاثين أنكر خُلوفَ فيه فتسوّك فقالت الملائكةُ: كنا نشم من فيك رائحةَ المسك فأفسدته بالسواك، وقيل: أوحى الله تعالى إليه أما علمتَ أن ريحَ فمِ الصائمِ أطيبُ عندي من ريح المِسْك فأمره الله تعالى بأن يزيد عليها عشرةَ أيامٍ من ذي الحِجّة لذلك، وذلك قوله تعالى: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} والتعبير عنها بالليالي لأنها غُرَرُ الشهور، وقيل: أمره الله تعالى بأن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراةُ في العشر وكلم فيها وقد أُجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفُصِّل هاهنا وواعدنا بمعنى وعدْنا وقد قرئ كذلك وقيل: الصيغةُ على بابها بناءً على تنزيل قَبول موسى عليه السلام منزلةَ الوعدِ، وثلاثين مفعولٌ ثانٍ لواعدنا بحذف المضافِ أي إتمامَ ثلاثين ليلةً {فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي بإلغاء أربعين ليلة {وَقَالَ موسى لاِخِيهِ هارون} حين توجه إلى المناجاة حسبما أُمر به {اخلفنى} أي كن خليفتي {فِى قَوْمِى} وراقِبْهم فيما يأتون وما يذرون {وَأَصْلِحْ} ما يحتاج إلى الإصلاح من أمورهم أو كن مصلحاً {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} أي لا تتبع مَنْ سلك الإفسادَ ولا تُطِعْ من دعاك إليه.

.تفسير الآية رقم (143):

{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)}
{وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا} لوقتنا الذي وقتناه، واللامُ للاختصاص، أي اختَصَّ مجيئُه بميقاتنا {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} من غير واسطةٍ كما يكلم الملائكة عليهم السلام، وفيما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يسمع ذلك من كل جهةٍ تنبيهٌ على أن سماعَ كلامِه عز وجل ليس من جنس سماعِ كلام المحدّثين {قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي أرني ذاتَك بأن تمكِّنَنء من رؤيتك أو تتجلى لي فأنظرَ إليك وأراك. هو دليلٌ على أن رؤيتَه تعالى جائزةٌ في الجملة لما أن طلبَ المستحيلِ مستحيلٌ من الأنبياء لاسيما ما يقتضي الجهلَ بشؤون الله تعالى ولذلك رده بقوله: لن تراني دون لن أرى ولن أُرِيَك ولن تنظُرَ إليّ تنبيهاً على أنه قاصرٌ عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه ذلك بعدُ، وجعلُ السؤالِ لتبكيت قومِه الذين قالوا: أرنا الله جهرةً خطأٌ إذ لو كانت الرؤيةُ ممتنعةً لوجب أن يُجهِّلَهم ويُزيحَ شبهتَهم كما فعل ذلك حين قالوا: {اجعل لَّنَا إلها} وأن لا يتبعَ سبيلَهم كما قال لأخيه: ولا تتبعْ سبيلَ المفسدين، والاستدلالُ بالجواب على استحالتها أشدُّ خطأً إذ لا يدل الإخبارُ بعدم رؤيتِه إياه على أنه لا يراه أبداً وأنه لا يراه غيرُه أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالتها دعوى الضرورةِ مكابرة أو جهل لحقيقة الرؤية.
{قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا قال ربُّ العزة حين قال موسى عليه السلام ما قال؟ فقيل: قال: {لَن تَرَانِى ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} استدراكٌ لبيان أنه لا يُطيق بها، وفي تعليقها باستقرار الجبلِ أيضاً دليلٌ على الجواز ضرورةَ أن المعلَّق بالممكن ممكنٌ والجبلُ قيل: هو جبل أردن {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أي ظهرت له عظمتُه وتصدّى له اقتدارُه وأمرُه وقيل: أُعطي الجبلُ حياةً ورؤيةً حتى رآه {جَعَلَهُ دَكّا} مدكوكاً مُفتّتاً، والدكُّ والدقُّ أخَوَان كالشك والشق وقرئ {دكاً} أي أرضاً مستويةً ومنه ناقةٌ دكاءُ للتي لا سنامَ لها، وقرئ {دُكاً} جمعُ دكّاءَ أي قطعاً {وَخَرَّ موسى صَعِقًا} مغشياً عليه من هول ما رآه {فَلَمَّا أَفَاقَ} الإفاقةُ رجوعُ العقلِ والفهم إلى الإنسان بعد ذهابِهما بسبب من الأسباب {قَالَ} تعظيماً لما شاهده {سبحانك} أي تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنٍ منك {تُبْتُ إِلَيْكَ} أي من الجراءة والإقدامِ على السؤال بغير إذن {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} أي بعظمتك وجلالِك وقيل: أولُ من آمن بأنك لا تُرى في الدنيا وقيل: بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك.

.تفسير الآيات (144- 145):

{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)}
{قَالَ يَا موسى} استئنافٌ مَسوقٌ لتسليته عليه الصلاة والسلام من عدم الإجابةِ إلى سؤال الرؤيةِ كأنه قيل: إن منعتُك الرؤيةَ فقد أعطيتك من النعم العظامِ ما لم أعْطِ أحداً من العالمين فاغتنِمْها وثابرْ على شكرها {إِنْى اصطفيتك} أي اخترتُك واتخذتُك صفوةً وآثرتُك {عَلَى الناس} أي المعاصِرين لك. وهارونُ وإن كان نبياً كان مأموراً باتباعه وما كان كَليماً ولا صاحبَ شرعٍ {برسالاتي} أي بأسفار التوراةِ وقرئ {برسالتي} {وبكلامي} وبتكليمي أياك بغير واسطة {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ} من شرف النبوةِ والحكمة {وَكُنْ مّنَ الشاكرين} على ما أُعطيت من جلائل النعمِ، قيل: كان سؤالُ الرؤيةِ يوم عرفةَ وإعطاءُ التوراةِ يومَ النحر {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الالواح مِن كُلّ شَىْء} أي مما يحتاجون إليه من أمور دينِهم {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء} بدلٌ من الجارّ والمجرور أي كتبنا له كلَّ شيءٍ من المواعظ وتفصيلِ الأحكام، واختُلف في عدد الألواحِ وفي جوهرها ومقدارِها فقيل: إنها كانت عشَرةَ ألواحٍ وقيل: سبعةً وقيل: لوحين وأنها كانت من زُمُرُّذَةٍ جاء بها جبريلُ عليه السلام وقيل: من زَبَرْجَدةٍ خضراءَ أو ياقوتةٍ حمراءَ. وقيل: أمر الله تعالى موسى بقطعها من صخرة صمّاءَ ليَّنها له فقطعها بيده وشققها بأصابعه. وعن الحسن رضي الله عنه كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراةُ وأن طولَها كان عشَرةَ أذرُع. وقيل: أُنزلت التوراةُ وهي سبعون وِقْرَ بعيرٍ يقرأ الجزءُ منه في سنة لم يقرأها إلا أربعةُ نفرٍ: موسى ويوشعُ وعُزيرٌ وعيسى عليهم السلام. وعن مقاتل رضي الله عنه كُتب في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشرِكوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبيلَ ولا تزْنوا ولا تعقُّوا الوالدين {فَخُذْهَا} على إضمار قولٍ معطوف على كتبنا أي فقلنا خذها {بِقُوَّةٍ} بجدَ وعزيمة وقيل: هو بدلٌ من قوله تعالى: {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ} والضميرُ للألواح أو لكل شيءٍ لأنه بمعنى الأشياء أو للرسالة أو للتوراة.
{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي بأحسنِ ما فيها كالعفو والصبر لالإضافة إلى الاقتصاص والانتصارِ على طريقة الندبِ والحثِّ على اختيار الأفضل كما في قوله تعالى: {واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} أو بواجباتها فإنها أحسنُ من المباح، وقيل: المعنى يأخذوا بها، و{أحسن} صلةٌ. قال قُطرُب: أي بحسَنها وكلُّها حسنٌ كقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} وقيل: هو أن تُحمل الكلمةُ المحتملةُ لمعنيين أو لمعان على أشبه محتمَلاتِها بالحق وأقربِها إلى الصواب {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى قومه عليه الصلاة والسلام بطريق الالتفاتِ حملاً لهم على الجد في الامتثال بنا أُمروا به، إما على نهج الوعيدِ والترهيب على أن المرادَ بدار الفاسقين أرضَ مصرَ وديارُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم فإن رؤيتها وهي خاليةٌ عن أهلها خاويةٌ على عروشها موجبةٌ للاعتبار والانزجارِ عن مثل أعمالِ أهلِها كيلا يحِلَّ بهم ما حل بأولئك وإما على نهج الوعدِ والترغيبِ على أن المرادَ بدار الفاسقين إما أرضُ مصرَ خاصةً أو مع أرض الجبابرةِ والعمالقةِ بالشام فإنها أيضاً مما أتيح لبني إسرائيلَ وكُتب لهم حسبما ينطِق به قولُه عز وجل: {العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ التي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ومعنى الإراءةِ الإدخالُ بطريق الإيراثِ، ويؤيده قراءةُ مَنْ قرأ سأوُرثكم بالثاء المثلثة كما في قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها} وقرئ {سأُوريكم} ولعله من أورَيْتُ الزندَ أي سأبيِّنُها بكم.

.تفسير الآية رقم (146):

{سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)}
وقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الارض} استئنافٌ مَسوقٌ لتحذيرهم عن التكبر الموجبِ لعدم التفكرِ في الآيات التي هي ما كتب في ألواح التوراةِ من المواعظ والأحكامِ أو ما يعمُّها وغيرَها من الآيات التكوينيةِ التي من جملتها ما وعد إراءَته من الفاسقين ومعنى صرفِهم عنها الطبعُ على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر مع أن في المؤخَّرِ نوعَ طُولٍ يُخِل تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الجليلِ أي سأطبع على قلوب الذين يعدّون أنفسَهم كُبراءَ ويرَوْن لهم على الخلق مزِيةً وفضلاً فلا ينتفعون بآياتي التنزيليةِ والتكوينيةِ ولا يغتنمون مغانمَ آثارِها، فلا تسلُكوا مسلكَهم فتكونوا أمثالَهم، وقي: المعنى سأصرِفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعونُ في إبطال ما رآه من الآيات فأبى الله تعالى إلا إحقاقَ الحقِّ وإزهاقَ الباطل، وعلى هذا فالأنسبُ أن يُرادَ بدار الفاسقين أرضُ الجبابرةِ والعمالقةِ المشهورين بالفسق والتكبر في الأرض وبإراءتها للمخاطَبين إدخالُهم الشامَ وإسكانُهم في مساكنهم ومنازلِهم حسبما نطَق به قولُه تعالى: {العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ التي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ويكون قولُه تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي} الخ، جواباً عن سؤال مقدر ناشىءٍ من الوعد بإدخال الشامِ على أن المرادَ بالآيات ما تُلي آنفاً ونظائرُه، وبصرفهم عنها إزالتُهم عن مَقام معارضتِها وممانعتِها لوقوع أخبارِها وظهور أحكامِها وآثارِها بإهلاكهم على يد موسى عليه الصلاة والسلام حين سار بعد التّيهِ بمن بقيَ من بني إسرائيلَ أو بذرياتهم على اختلاف الروايتين إلى أريحا ويوشعُ بنُ نونٍ في مقدمته ففتحها واستقر بنو إسرائيلَ بالشام وملكوا مشارقَها ومغاربَها كأنه قيل: كيف يرون دارهم وهم فيها؟ فقيل: سأُهلِكُهم، وإنما عدل إلى الصَرْف ليزدادوا ثقةً بالآيات واطمئناناً بها وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الحق} إما صلةٌ للتكبر أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينُهم الباطلُ وظلمُهم المُفْرِطُ أو متعلق بمحذوف هو حالٌ من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وقوله تعالى: {وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها} عطفٌ على يتكبرون داخلٌ معه في حُكم الصلةِ والمرادُ بالآية إما المنزلةُ فالمرادُ برؤيتها مشاهدتُها بسماعها أو ما يعمُّها من المعجزات فالمرادُ برؤيتها مطلقُ المشاهَدةِ المنتظمةِ للسماع والإبصار، أي وإن يشاهِدوا كلَّ آيةٍ من الآيات لا يؤمنوا بها على عموم النفي لا على نفي العُموم أي كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائِهم إياها كما هي وهذا كما ترى يؤيد كونَ الصرفِ بمعنى الطبع وقوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حكمه أي لا يتوجهون إلى الحق ولا يسلُكون سبيله أصلاً لاستيلاء الشيطنةِ عليهم ومطبوعيّتِهم على الانحراف والزيغ، وقرئ بفتحتين وقرئ {الرشادِ} وثلاثتُها لغات كالسُّقْم والسقام {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي يختارونه لأنفسهم مسلَكاً مستمراً لا يكادون يعدِلون عنه لموافقته لأهوائهم الباطلةِ وإفضائه بهم إلى شهواتهم {ذلك} إشارةٌ إلى ما ذكر من تكبُّرهم وعدمِ إيمانهم بشيء من الآيات وإعراضِهم عن سبيل الرشدِ وإقبالِهم التامّ إلى سبيل الغيِّ، وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ} أي حاصلٌ بسبب أنهم {كَذَّبُواْ بئاياتنا} الدالةِ على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادِها {وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين} لا يتفكرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل، ويجوز أن يكون إشارةً إلى ما ذُكر من الصرف ولا يمنعُه الإشعارُ بعلّية ما في حيز الصلةِ كيف لا وقد مر أن ذلك في قوله تعالى: {ذلك بِمَا عَصَواْ} الآية، يجوزُ أن يكون إشارةً إلى ضرب الذلةِ والمسكنةِ والبَوْءِ بالغضب العظيمِ مع كون ذلك معللاً بالكفر بآيات الله صريحاً، وقيل: محلُّ اسمِ الإشارةِ النصبُ على المصدر، أي سأصرفهم ذلك الصَّرْفَ بسبب تكذيبِهم بآياتنا وغفلتِهم عنها.