فصل: تفسير الآية رقم (35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (35):

{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
{وَقُلْنَا} شروعٌ في حكاية ما جَرى بينه تعالى وبين آدمَ عليه السلام بعد تمام ما جرى بينه تعالى وبين الملائكة وإبليسَ من الأقوال والأفعالِ، وقد تُركت حكايةُ توبيخِ إبليسَ وجوابُه ولعنُه واستنظارُه وإنظارُه اجتزاءً بما فُصّل في سائر السور الكريمة وهو عطفٌ على قلنا للملائكة، ولا يقدح في ذلك اختلافُ وقتيهما، فإن المراد بالزمان المدلولِ عليه بكلمة إذْ زمانٌ ممتدٌ واسعٌ للقولين، وقيل هو عطف على إذ قلنا بإضمار إذ، وهذا تذكيرٌ لنعمة أخرى موجبةٍ للشكر مانعةٍ من الكفرَ وتصديرُ الكلام بالنداء في قوله تعالى: {وَيَئَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} للتنبيه على الاهتمام بتلقي المأمورِ به، وتخصيصُ أصل الخطاب به عليه السلام للإيذان بأصالته في مباشرة المأمور به، واسكن من السكنى وهو اللُّبث والإقامةُ والاستقرارُ دونَ السكونِ الذي هو ضدُّ الحركة، وأنت ضميرٌ أكِّد به المستكنُّ ليصحَّ العطف عليه واختلف في وقت خلقِ زوجِه. فذكر السدي عن ابن مسعود وابن عباس وناسٍ من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: أن الله لما أخرج إبليسَ من الجنة وأسكنها آدمَ بقيَ فيها وحدَه وما كان معه من يستأنسُ به فألقى الله تعالى عليه النومَ ثم أخذ ضِلْعاً من جانبه الأيسرِ ووضع مكانه لحماً وخلق حواءَ منه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدةً، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقتِ؟ قالت: لتسكُنَ إلي، فقالت الملائكةُ تجْربةً لعلمه: من هذه؟ قال: امرأة، قالوا: لم سُمِّيت امرأةً قال: لأنها من المَرءِ أُخِذَت، فقالوا: ما اسمُها؟ قال: حواء، قالوا: لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حيّ. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث الله تعالى جنداً من الملائكة فحملوا آدمَ وحواءَ على سريرٍ من ذهب كما يُحمل الملوك ولباسُهما النور، حتى أدخلوهما الجنة، وهذا كما ترى يدل على خلقها قبل دخول الجنة والمراد بها دارُ الثواب، لأنها المعهودة، وقيل هي جنةٌ بأرض فلسطين، أو بين فارسَ وكَرْمان، خلقها الله تعالى امتحاناً لآدمَ عليه السلام، وحُمل الإهباطُ على النقل منها إلى أرض الهندِ كما في قوله تعالى: {اهبطوا مِصْرًا} لما أن خلقه عليه السلام كان في الأرض بلا خلاف ولم يذكر في هذه القصة رفعُه إلى السماء ولو وقع ذلك لكان أولى بالذكر والتذكير، لما أنه من أعظم النعمِ، ولأنها لو كانت دارَ الخلد لما دخلها إبليسُ. وقيل: إنها كانت في السماء السابعة، بدليل اهبِطوا، ثم إن الإهباطَ الأولَ كان منها إلى السماء الدنيا، والثاني منها إلى الأرض، وقيل: الكلُّ ممكنٌ، والأدلةُ النقلية متعارضةٌ فوجب التوقفُ وتركُ القطع.
{وَكُلاَ مِنْهَا} أي من ثمارها، إنما وجِّه الخطاب إليهما تعميماً للتشريف والترفيه، ومبالغة في إزالة العِلل والأعذار، وإيذاناً بتساويهما في مباشرة المأمور به، فإن حواءَ أُسوةٌ له عليه السلام في الأكل بخلاف السكنى، فإنها تابعةٌ له فيه {رَغَدًا} صفةٌ للمصدر المؤكَّد أي أكلاً واسعاً رافهاً {حَيْثُ شِئْتُمَا} أي أيَّ مكان أردتما منها، وهذا كما ترى إطلاقٌ كليٌّ حيث أبيحَ لهما الأكلُ منها على وجه التوسعةِ البالغةِ المزيحةِ للعلل ولم يُحَظَّر عليهما بعضُ الأكلُ ولا بعضُ المواضع الجامعةِ للمأكولات حتى لا يبقى لهما عذرٌ في تناول ما منعا منه بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا} بفتح الراء من قرِبْتُ الشيء بالكسر أقربَه بالفتح إذا التبسْتُ به وتعرضتُ له، وقال الجوهري: قَرُبَ بالضم يَقْرُبُ قُرْباً إذا دنا، وقَرِبْتُه بالكسر قُرْبَاناً دنوتُ منه {هذه الشجرة} نصبٌ على أنه بدل من اسم الإشارةِ، أو نعتٌ له بتأويلها بمشتقٍ، أي هذه الحاضرة من الشجرة أي لا تأكلا منها وإنما عُلّق النهي بالقُربان منها مبالغةً في تحريم الأكلِ ووجوب الاجتناب عنه والمرادُ بها الحنطةُ أو العِنبَةُ أو التينة وقيل: هي شجرة مَنْ أكلَ منها أحْدَث، والأَوْلى عدمُ تعيينها من غير قاطعٍ، وقرئ {هذي} بالياء وبكسر شين {الشِّجَرة} وتاء {تِقربا}، وقرئ {الشِيَرةَ} بكسر الشين وفتح الياء {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} مجزوم على أنه معطوف على تقرَبا أو منصوبٌ على أنه جواب للنهي وأياً ما كان فالقُرب أي الأكلُ منها سببٌ لكونهما من الظالمين أي الذين ظلموا أنفسَهم بارتكاب المعصية.
أو نقَصوا حظوظَهم بمباشرة ما يُخِلُّ بالكرامة والنعيم، أو تعدَّوا حدود الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (36):

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
{فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} أي أصدر زلَّتَهما أي زلَقَهما وحملهما على الزلة بسببها، ونظيرُه عن هذه ما في قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبَهما وأبعدهما عنها، يقال: زلَّ عني كذا إذا ذهب عنك، ويعضدُه قراءة {أزالهما} وهما متقاربان في المعنى. فإن الإزلالَ أي الإزلاق يقتضي زوالَ الزوالِ عن موضعه ألبتة. وإزلالُه قولَه لهما: {هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} وقوله: {مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} ومقاسَمتُه لهما: {إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} وهذه الآياتُ مشعرةٌ بأنه عليه السلام لم يؤمر بسُكنى الجنةِ على وجه الخلود بل على وجه التكرمةِ والتشريفِ لما قُلِّد من خلافة الأرض إلى حين البعث إليها.
واختُلف في كيفية توصُّله إليهما بعد ما قيل له: {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} فقيل: إنه إنما مُنع من الدخول على وجه التكرمة كما يدخُلها الملائكةُ عليهم السلام ولم يُمنَعْ من الدخول للوسوسة ابتلاءً لآدمَ وحواءَ، وقيل: قام عند الباب فناداهما وقيل: تمثل بصورة دابةٍ فدخل ولم يعرِفْه الخَزَنة، وقيل: دخل في فم الحية فدخَل معها، وقيل: أرسل بعضَ أتباعه فأزلّهما والعلم عند الله سبحانه {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي من الجنة إن كان ضمير عنها للشجرة، والتعبير عنها بذلك للإيذان بفخامتها وجلالتِها وملابستِهما له، أي من المكان العظيم الذي كانا مستقِرَّيْن فيه أو من الكرامة والنعيم إن كان الضميرُ للجنة {وَقُلْنَا اهبطوا} الخطابُ لآدمَ وحواءَ عليهما السلام بدليل قوله تعالى: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً} وجُمعَ الضمير لأنهما أصلُ الجنس، فكأنهما الجنسُ كلُّهم، وقيل: لهما وللحية وإبليسَ على أنه أُخرج منها ثانياً بعدما كان يدخلها للوسوسة أو يدخلها مُسارقة، وأُهبط من السماء وقرئ بضم الباء {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} حال استغني فيها عن الواو بالضمير أي متعادِين يبغي بعضُكم على بعض بتضليله، أو استئنافٌ لا محل له من الإعراب، وإفراد العدوّ إما للنظر إلى لفظ البعض وإما لأن وِزانَه وِزانُ المصدر كالقول: {وَلَكُمْ فِي الارض} التي هي محلُّ الإهباط، والظرفُ متعلق بما تعلق به الخبرُ أعني لكم من الاستقرار {مُّسْتَقِرٌّ} أي استقرارٌ أو موضعُ استقرار {ومتاع} أي تمتّعٌ بالعيش وانتفاعٌ به {إلى حِينٍ} هو حين الموت على أن المُغيَّا تمتُّع كلِّ فردٍ من المخاطبين، أو القيامة، على أنه تمتع الجنس في ضمن بعض الأفراد والجملة كما قبلها في كونها حالاً أي مستحقين للاستقرار والتمتع أو استئنافاً.

.تفسير الآيات (37- 38):

{فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
{فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي استقبلها بالأخذ والقبولِ والعملِ بها حين علِمَها ووُفّق لها وقرئ بنصب آدمَ ورفع كلماتٌ دلالةً على أنها استقبلته بلغته وهي قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية. وقيل: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمُك وتعالى جدُّك ولا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يا رب ألم تخلُقْني بيدك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تنفُخْ فيَّ من روحك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تسبِقْ رحمتُك غضبك؟ قال: بلى. قال: ألم تسكنّي جنتَك؟ قال: بلى. قال: يا رب إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم. والفاء للدلالة على أن التوبة حصلت عَقيب الأمر بالهبوط قبل تحقق المأمور به، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إليه عليه السلام للتشريف والإيذان بعلّيته لإلقاء الكلماتِ المدلولِ عليها بتلقيها {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي رجع عليه بالرحمة وقَبولِ التوبةِ، والفاء للدلالة على ترتبه على تلقي الكلمات المتضمن لمعنى التوبة التي هي عبارة عن الاعتراف بالذنب والندمِ عليه والعزمِ على عدم العود إليه واكتُفي بذكر شأن آدمَ عليه السلام لما أن حواءَ تبَعٌ له في الحُكم ولذلك طُوي ذكرُ النساءِ في أكثرِ مواضعِ الكتاب والسنة {إِنَّهُ هُوَ التواب} أي الرجّاع على عباده بالمغفرة أو الذي يُكثر إعانتَهم على التوبة، وأصلُ التوب الرجوع فإذا وصف به العبد كان رجوعاً عن المعصية، وإذاوُصف به الباري عز وعلا أريد به الرجوعُ عن العقاب إلى المغفرة {الرحيم} المبالِغُ في الرحمة وفي الجمع بين الوصفين وعدٌ بليغٌ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران، والجملة تعليلٌ لقوله تعالى فتاب عليه.
{قُلْنَا} استئناف مبنيٌ على سؤال ينسحِبُ عليه الكلامُ، كأنه قيل: فماذا وقع بعد قَبولِ توبتِه فقيل: قلنا: {اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا} كُرِّر الأمرُ بالهبوط إيذاناً بتحتم مقتضاه وتحقُّقه لا محالة. ودفعاً لما عسى يقعُ في أمنيَّتِه عليه السلام من استتباع قبول التوبةِ للعفو عن ذلك، وإظهاراً لنوع رأفةٍ به عليه السلام لما بين الأمرين من الفرق النيّر، كيف لا والأولُ مشوبٌ بضرب سخطٍ مذيلٍ ببيان أن مهبِطهم دارُ بليةٍ وتعادٍ لا يخلدون فيها. والثاني مقرون بوعد إيتاء الهدى المؤدي إلى النجاة والنجاح، وأما ما فيه من وعيد العقاب فليس بمقصود من التكليف قصداً أولياً، بل إنما هو دائرٌ على سوء اختيارِ المكلفين.
قيل: وفيه تنبيه على أن الحازم يكفيه في الردْع عن مخالفة حكم الله تعالى مخافةُ الإهباط المقترنِ بأحد هذين الأمرين، فكيف بالمقترن بهما فتأمل، وقيل: الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني منها إلى الأرض، ويأباه التعرضُ لاستقرارهم في الأرض في الأول، ورجوعُ الضمير إلى الجنة في الثاني، و{جميعاً} حال في اللفظ وتأكيدٌ في المعنى، كأنه قيل: اهبطوا أنتم أجمعون ولذلك لا يستدعي الاجتماعَ على الهبوط في زمان واحد كما في قولك: جاءوا جميعاً، بخلاف قولك: جاءوا معاً.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى} الفاء لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر به وإما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة المؤكدة لمعناها والفعل في محل الجزم بالشرط، لأنه مبنيٌّ لاتصاله بنون التأكيد، وقيل: معرب مطلقاً، وقيل: مبني مطلقاً، والصحيحُ التفصيل: إن باشرَتْه النونُ بُني وإلا أُعرب، نحو هل يقومانِّ، وتقديمُ الظرفِ على الفاعل لما مر غيرَ مرة، والمعنى إن يأتينكم مني هدى برسول أبعثُه إليكم وكتابٍ أُنزله عليكم، وجواب الشرط قوله تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} كما في قولك: إن جئتني فإن قدِرْت أحسنتُ إليك، وإيراد كلمة الشك مع تحقق الإتيان لا محالة للإيذان بأن الإيمانَ بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثةُ الرسل وإنزالُ الكتب، بل يكفي في وجوبه إفاضةُ العقل ونصبُ الأدلة الآفاقية والأنفسية، والتمكينُ من النظر والاستدلال، أو للجري على سَنن العظماء في إيراد عسى ولعل في مواقعِ القطعِ والجزم، والمعنى أن من تبع هدايَ منكم فلا خوفٌ عليهم في الدارين من لُحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مطلوبٍ أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك، لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم نفسُ الخوف والحُزن أصلاً بل يستمرون على السرور والنشاط، كيف لا واستشعارُ الخوف والخشيةِ استعظاماً لجلال الله سبحانه وهيبتِه واستقصاراً للجدّ والسعي في إقامة حقوق العبوديةِ من خصائص الخواصِّ والمقرّبين، والمرادُ بيانُ دوام انتفائهما لا بيانُ انتفاءِ دوامهِما كما يُتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعاً لما تقرر في موضعه أن النفي وإن دخَلَ على نفس المضارعِ يُفيد الدوامَ والاستمرارَ بحسب المقام، وإظهارُ الهدى مضافاً إلى ضمير الجلالةِ لتعظيمِه وتأكيدِ وجوب اتّباعه أو لأن المراد بالثاني ما هو أعمُّ من الهدايات التشريعية وما ذكر من إفاضة العقلِ ونصبِ الأدلة الآفاقيةِ والأنفسية كما قيل، وقرئ {هُدَيَّ} على لغة هذيل ولا خوفَ بالفتح.

.تفسير الآية رقم (39):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}
{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} عطف على من تِبعَ إلخ قسيمٌ له، كأنه قيل: ومن لم يتْبَعْه، وإنما أوثر عليه ما ذكر تفظيعاً لحال الضلالةِ وإظهاراً لكمالِ قُبحِها، وإيراد الموصولِ بصيغة الجمعِ للإشعار بكثرة الكفرة، والجمعُ بين الكفر والتكذيب للإيذان بتنوّع الهدى إلى ما ذكر من النوعين، وإيراد نونِ العظمةِ لتربية المهابة وإدخالِ الروعةِ، وإضافةُ الآياتِ إليها لإظهار كمالِ قبحِ التكذيبِ بها، أي والذين كفروا برُسُلنا المرسلةِ إليهم وكذبوا بآياتنا المنزلة عليهم، وقيل: المعنى كفروا بالله وكذبوا بآياته التي أنزلها على الأنبياء عليهم السلام، أو أظهَرها بأيديهم من المعجزات، وقيل: كفروا بالآيات جَناناً وكذبوا بها لساناً فيكون كلا الفعلين متوجهاً إلى الجار والمجرور، والآية في الأصل العلامة الظاهرة، قال النابغة:
توهمْتُ آياتٍ لها فعرَفتُها ** لستة أعوامٍ وذا العامُ سابعُ

ويقال للمصنوعات من حيث دلالتُها على الصانع تعالى وعلمِه وقدرتِه ولكل طائفةٍ من كلمات القرآنِ المتميِّزة عن غيرها بفصل لأنها علامةٌ لانفصال ما قبلها مما بعدها، وقيل: لأنها تُجْمَعُ كلماتٌ منه فيكون من قولهم خرج بنو فلان بآيتهم أي بجماعتهم قال:
خرجْنا من البيتينِ لا حيَّ مثلُنا ** بآيتِنا نُزجي النِّعاجَ المَطافِلا

واشتقاقُها من أَيْ لأنها تبين أياً من أيَ، أو من أوى إليه أي رجَع وأصلُها أَوْية أو أيّة، فأبدلت عينها ألفاً على غير قياس أو أوَيَة أو أيَيَة كرَمَكَة، فأُعِلَّت أو آئِيَة كقائلة، فحُذفت الهمزة تخفيفاً {أولئك} إشارة إلى الموصوف باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ من الكفر والتكذيب وفيه إشعارٌ بتميزهم بذلك الوصف تميزاً مصحِّحاً للإشارة الحسية، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ، وقوله عز وجل: {أصحاب النار} أي ملازموها وملابسوها بحيث لا يفارقونها خبره، والجملة خبرٌ للموصول أو اسمُ الإشارةِ بدل من الموصول، أو عطفُ بيان له، وأصحاب النار خبرٌ له وقوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خالدون} في حيز النصب على الحالية لورود التصريح به في قوله تعالى: {أصحاب النار خالدين فِيهَا} وقد جُوِّز كونُه حالاً من النار لاشتماله على ضميرها، والعامل معنى الإضافة أو اللامُ المقدرة أو في محل الرفع على أنه خبر آخرُ لأولئك على رأي من جوز وقوع الجملة خبراً ثانياً، وفيها متعلق بخالدون والخلودُ في الأصل المكثُ الطويلُ وقد انعقد الإجماع على أن المراد به الدوام.

.تفسير الآية رقم (40):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}
{يا بَنِى إسراءيل} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى طائفة خاصةٍ من الكَفَرة المعاصِرين للنبي صلى الله عليه وسلم لتذكيرهم بفنون النعم الفائضة عليهم بعد توجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرِه بتذكير كلهم بالنعمة العامة لبني آدم قاطبة بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} إلخ {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة} إلخ لأن المعنى كما أشير إليه بلّغهم كلامي واذكر لهم إذ جعلنا أباهم خليفةً في الأرض ومسجوداً للملائكة عليهم السلام وشرفناه بتعليم الأسماءِ وقبِلْنا توبتَه، والابنُ من البِناء لأنه مَبْنَى أبيه ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه، فيقال: أبو الحرب وبنتُ فكرٍ، وإسرائيلُ لقبُ يعقوبَ عليه السلام ومعناه بالعبرية صفوةُ الله، وقيل: عبد اللَّه، وقرئ {إسرائِلَ} بحذف الياء وإسرالَ بحذفهما وإسرايل بقلب الهمزة ياء، وإسراءَلَ بهمزة مفتوحة، وإسرئِلَ بهمزة مكسورة بين الراء واللام، وتخصيصُ هذه الطائفة بالذكر والتذكير لما أنهم أوفرُ الناس نعمةً وأكثرهم كفراً بها {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} بالتفكر فيها والقيام بشكرها، وفيه إشعار بأنهم قد نسُوها بالكلية، ولم يُخطروها بالبال لا أنهم أهملوا شكرها فقط، وإضافةُ النعمة إلى ضمير الجلالة لتشريفها وإيجابِ تخصيصِ شكرها به تعالى، وتقييد النعمة بهم لما أن الإنسان مجبولٌ على حب النعمة، فإذا نظرَ إلى ما فاض عليه من النعم حملَه ذلك على الرضى والشُكر، قيل: أريد بها ما أنعم به على آبائهم من النعم التي سيجىء تفصيلُها وعليهم من فنون النعم التي أجلُّها إدراكُ عصر النبي عليه السلام، وقرئ {اذَّكِروا} من الافتعال ونعمتيْ بإسكان الياء وإسقاطها في الدرْج وهو مذهبُ من لا يحرك الياءَ المكسورَ ما قبلها {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى} بالإيمان والطاعة {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بحسن الإثابة، والعهد يضاف إلى كل واحد ممن يتولى طرفيه، ولعل الأولَ مضافٌ إلى الفاعل والثاني إلى المفعول، فإنه تعالى عَهِد إليهم بالإيمان والعملِ الصالحِ بنصب الدلائلِ وإرسال الرسل وإنزال الكتب ووعدهم بالثواب على حسناتهم، وللوفاء بهما عَرْضٌ عريض، فأولُ مراتبه منا هو الإتيانُ بكلمتي الشهادة، ومن الله تعالى حقنُ الدماء والأموال، وآخرُها منا الاستغراقُ في بحر التوحيد بحيث نغفُل عن أنفسنا فضلاً عن غيرنا، ومن الله تعالى الفوزُ باللقاء الدائم، وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أوفِ بعهدكم في رفع الآصارِ والأغلال. وعن غيره: أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوفِ بالمغفرة والثواب، أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوفِ بالكرامة والنعيم المقيم، فبالنظر إلى الوسائط، وقيل: كلاهما مضافٌ إلى المفعول، والمعنى أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعةِ أوفِ بما عاهدتُكم من حُسن الإثابةِ، وتفصيلُ العهدين قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل} إلى قوله: {وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات} إلخ وقرئ {أوَفِّ} بالتشديد للمبالغة والتأكيد.
{وإياى فارهبون} فيما تأتون وما تذرون خصوصاً في نقض العهد، وهو آكد في إفادة التخصيصِ من إياك نعبد، لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول والفاء الجزائية الدالةِ على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل: إن كنتم راهبين شيئاً فارهَبوني، والرهبة خوف معه تحرز، والآية متضمنة للوعد والوعيد ودالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد، وأن المؤمن ينبغي ألا يخاف إلا الله تعالى.