فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (2):

{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)}
{فَسِيحُواْ} السياحةُ والسَّيْحُ الذهابُ في الأرض والسيرُ فيها بسهولة على مقتضى المشيئةِ كسيح الماءِ على موجب الطبيعة ففيه من الدِلالة على كمال التوسعةِ والتوفية ما ليس في سيروا ونظائِره، وزيادةُ قوله عز وجل: {فِى الارض} لقصد التعميمِ لأقطارها من دار الإسلامِ وغيرِها والمرادُ إباحةُ ذلك لهم وتخليتُهم وشأنَهم من الاستعداد للحرب أو تحصينِ الأهلِ والمالِ وتحصيلِ المهرَبِ أو غيرِ ذلك لا تكليفُهم بالسياحة فيها، وتلوينُ الخطاب بصرفه عن المسلمين وتوجيهِه إليهم مع حصول المقصودِ بصيغة أمرِ الغائبِ أيضاً للمبالغة في الإعلام بالإمهال حسماً لمادة تعلّلِهم بالغفلة وقطعاً لشأفة اعتذارِهم بعدم الاستعداد، وإيثارُ صيغةِ الأمرِ مع تسنّي إفادةِ ذلك المعنى بطريق الإخبارِ أيضاً كأن يقالَ مثلاً: فلكم أن تسيحوا أو نحوُ ذلك لإظهار كمالِ القوةِ والغلبةِ وعدمِ الاكتراث لهم ولاستعدادهم فكأن ذلك أمرٌ مطلوبٌ منهم والفاءُ لترتيب الأمرِ بالسياحة وما يعقُبه على ما تؤذن به البراءةُ المذكورةُ من الحِراب، على أن الأولَ مترتبٌ على نفسه والثاني بكلا متعلِّقَيْه على عنوان كونِه من الله العزيز لا لترتيب الأولِ عليه والثاني على الأول كما في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الارض فَاْنظُرُواْ} إلخ كأنه قيل: هذه براءةٌ موجبةٌ لقتالكم فاسعَوْا في تحصيل العددِ والأسباب وبالغوا في إعتاد العَتادِ من كل باب {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ} بسياحتكم في أقطار الأرضِ في العَرْض والطول وإن ركبتم متنَ كل صعبٍ وذلول {غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي لا تفوّتونه بالهرب والتحصُّن.
{وَأَنَّ الله} وُضع الاسمُ الجليلُ موضِعَ المضمر لتربية المهابةِ وتهويلِ أمر الإخزاءِ وهو الإذلالُ بما فيه فضيحةٌ وعار {مُخْزِى الكافرين} أي مخزيكم ومُذِلُّكم في الدنيا بالقتل والأسرِ وفي الآخرة بالعذاب، وإيثارُ الإظهارِ على الإضمارِ لذمهم بالكفر بعد وصفِهم بالإشراك وللإشعار بأن علةَ الإخزاءِ هي كفرُهم ويجوز أن يكون المرادُ جنسَ الكافرين فيدخلُ فيه المخاطَبون دخولاً أولياً والمرادُ بالأشهر الأربعةُ هي الأشهرُ الحرمُ التي عُلِّق القتالُ بانسلاخها فقيل: هي شوالٌ وذو القَعدةِ وذو الحِجة والمُحرَّم، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة والمحرَّمُ وصفرُ وشهرُ ربيعٍ الأول وعشرٌ من ربيعٍ الآخَر، وجُعلت حُرَماً لحرمة قتالِهم فيها أو لتغليب ذي الحجة والمحرَّم على البقية، وقيل: من عشر ذي القعدة إلى عشرٍ من شهر ربيعٍ الأول لأن الحجَّ في تلك السنةِ كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ثم صار في العام القابل في ذي الحجة، وذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السمواتِ والأرض» روي أنه عليه الصلاة والسلام «أمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه على موسم سنةِ تسعٍ ثم أتبعه علياً رضي الله تعالى عنه على العضباء ليقرأَها على أهل الموسم فقيل له عليه الصلاة والسلام: لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال صلى الله عليه وسلم:
لا يؤدّي عني إلا رجلٌ مني»
وذلك لأن عادة العرب أن لا يتولى أمرَ العهد والنقض على القبيلة إلا رجلٌ منها «فلما دنا على سمع أبو بكر الرُّغاءُ فوقف فقال: هذا رُغاءُ ناقةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فلما لحِقه قال: أميرٌ أو مأمورٌ قال: مأمورٌ فمضياً فلما كان قبل يوم الترويةِ خطَب أبو بكر رضي الله عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يومَ النحِر عند جَمرةِ العقبة فقال: يا أيها الناسُ إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال: أُمرت بأربعٍ أن لا يقرَبَ البيتَ بعد العام مشركٌ ولا يطوفَ بالبيت عُريانٌ ولا يدخلَ الجنةَ إلا كلُّ نفسٍ مؤمنة وأن يُتمَّ إلى كل ذي عهد عهدُه».

.تفسير الآية رقم (3):

{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)}
{وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} أي إعلامٌ منهما فعَال بمعنى الإفعال كالعطاء بمعنى الإعطاء ورفعُه كرفع براءةٌ والجملةُ معطوفةٌ على مثلها وإنما قيل: {إِلَى الناس} أي كافةً لأن الأذانَ غيرُ مختصٍ بقوم دون آخَرين كالبراءة الخاصة بالناكثين بل هو شاملٌ لعامة الكفرةِ وللمؤمنين أيضاً {يَوْمَ الحج الاكبر} هو يومُ العيدِ لأن فيه تمامَ الحجِّ ومعظَم أفعالِه ولأن الإعلامَ كان فيه ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام وقف يوم النحِر عند الجَمَرات في حَجة الوداع فقال: «هذا يومُ الحجِّ الأكبر» وقيل: يومُ عرفةَ لقوله عليه الصلاة والسلام: «الحج عرفة» ووصفُ الحجِّ بالأكبر لأن العُمرة تسمى الحجَّ الأصغرَ أو لأن المرادَ بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبرُ من باقي الأعمال، أو لأن الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون أو لأنه ظهر فيه عزُّ المسلمين وذلُّ المشركين {أَنَّ الله} أي بأن الله وقرئ بالكسر لِما أن الأذانَ فيه معنى القول {بَرِىء مّنَ المشركين} أي المعاهِدين الناكثين {وَرَسُولُهُ} عطف على المستكنِّ في بريء أو على محل أنّ واسمِها على قراءة الكسر وقرئ بالنصب عطفاً على اسم أنّ أو لأن الواوَ بمعنى مع أي بريءٌ معه منهم، وبالجر على الجوار وقيل: على القسم {فَإِن تُبْتُمْ} من الشرك والغدر التفاتٌ من الغَيبة إلى الخطاب لزيادة التهديدِ والتشديد، والفاءُ لترتيب مقدّمِ الشرطيةِ على الأذان بالبراءة المذيّلةِ بالوعيد الشديد المُؤذِنِ بلِين عَريكتِهم وانكسارِ شدة شكيمتِهم {فَهُوَ} أي فالتوب {خَيْرٌ لَّكُمْ} في الدارين {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن التوبة أو ثبَتُّم على التولي عن الإسلام والوفاء {فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله} غيرُ سابقين ولا فائتين {وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ} تلوينٌ للخطاب وصرفٌ له عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن البشارة {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وإن كانت بطريق التهكمِ إنما تليق بمن يقفُ على الأسرار الإلهية.

.تفسير الآية رقم (4):

{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}
{إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين} استدراكٌ من النبذ السابقِ الذي أُخّر فيه القتالُ أربعةَ أشهرٍ كأنه قيل: لا تُمهلوا الناكثين فوق أربعةِ أشهرٍ لكن الذين عاهدتموهم ثم لم ينكُثوا عهدَهم فلا تُجْروهم مُجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتِمّوا إليه عهدَهم، ولا يضُرّ في ذلك تخللُ الفاصلِ بقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} إلخ لأنه ليس بأجنبي بالكلية بل هو أمر بإعلام تلك البراءةِ كأنه قيل: وأَعلِموها، وقيل: هو استثناءٌ متصلٌ من المشركين الأوّل، ويرده بقاءُ الثاني على العموم مع كونهما عبارةً عن فريق واحد وجعلُه استثناءً من الثاني يأباه بقاء الأولُ كذلك وقيل: هو استداركٌ من المقدر في {فسيحوا} أي قولوا لهم: سيحوا أربعةَ أشهر لكن الذين عاهدتم منهم {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} من شروط الميثاقِ ولم يقتُلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط وقرئ بالمعجمة أي لم ينقضوا عهدَكم شيئاً من النقض، وكلمة ثم للدِلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة {وَلَمْ يظاهروا} أي لم يعاونوا {عَلَيْكُمْ أَحَداً} من أعدائكم كما عدَتْ بنو بكر على خُزاعةَ في غَيْبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهَرَتْهم قريشٌ بالسلاح {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} أي أدوه إليهم كاملاً {إلى مُدَّتِهِمْ} ولا تفاجئوهم بالقتال عند مضيِّ الأجل المضروبِ للناكثين ولا تعاملوهم معاملتهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: بقي لِحيَ من بني كنانةَ من عهدهم تسعةُ أشهر فأتم إليهم عهدَهم {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} تعليلٌ لوجوب الامتثال وتنبيهٌ على أن مراعاةَ حقوقِ العهدِ من باب التقوى وأن التسويةَ بين الوفيِّ والغادر منافيةٌ لذلك وإن كان المعاهَدُ مشركاً.

.تفسير الآية رقم (5):

{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
{فَإِذَا انسلخ} أي انقضى، استُعير له من الانسلاخ الواقعِ بين الحيوان وجلدِه والأغلبُ إسناده إلى الجلد، والمعنى إذا انقضى {الاشهر الحرم} وانفصلت عما كانت مشتملةً عليه ساترةً له انفصالَ الجلدِ عن الشاة وانكشف عنه انكشافَ الحجاب عما وراءَه كما ذكره أبو الهيثم من أنه يقال: أهلَلْنا شهرَ كذا أي دخلنا فيه ولبِسناه فنحن نزداد كلَّ ليلة لباساً منه إلى مُضيِّ نصفِه ثم نسلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً حتى نسلَخَه عن أنفسنا كلَّه فينسلِخ وأنشد:
إذا ما سلختُ الشهرَ أهلَلْتُ مثلَه ** كفى قاتلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي

وتحقيقُه أن الزمانَ محيطٌ بما فيه من الزمانيات مشتملٌ عليه اشتمالَ الجلد للحيوان وكذا كلُّ جزءٍ من أجزائه الممتدة من الأيام والشهورِ والسنين فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه، وفيه مزيدُ لطفٍ لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهرَ كانت حِرْزاً لأولئك المعاهَدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالُهم بزوالها والمرادُ بها إما ما مر من الأشهر الأربعةِ فقط، ووضعُ المظهر موضعَ المضمرِ ليكون ذريعةً إلى وصفها بالحُرمة تأكيداً لما يُنبىء عنه إباحةُ السياحةِ من حرمة التعرضِ لهم مع ما فيه من مزيد الاعتناءِ بشأنها، أو هي مع ما فُهم من قوله تعالى: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} من تتمة مدةٍ بقِيَتْ لغير الناكثين فعلى الأول يكون المرادُ بالمشركين في قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} الناكثين خاصةً فلا يكون قتالُ البالغين مفهوماً من عبارة النصِّ من دِلالته، وعلى الثاني مفهوماً من العبارة إلا أنه يكون الانسلاخُ وما نيط به من القتال حينئذ شيئاً فشيئاً لا دفعةً واحدةً كأنه قيل: فإذا تم ميقاتُ كلِّ طائفةٍ فاقتُلوهم، وحملُها على الأشهر المعهودةِ الدائرةِ في كل سنة لا يساعده النظمُ الكريمُ، وأما أنه يستدعي بقاءَ حُرمةِ القتالِ فيها إذ ليس فيما نزل بعدُ ما ينسخها فلا اعتدادَ به لا لأنها نُسخت بقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} كما تُوهم فإنه رجمٌ بالغيب لأنه إن أريد به ما في سورة الأنفال فإنه نزل عَقيبَ غزوةِ بدرٍ وقد صح أن المرادَ بالذين كفروا في قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أبو سفيانَ وأصحابُه وقد أسلم في أواسط رمضانَ عام الفتحِ سنة ثمانٍ وسورةُ التوبةِ إنما نزلت في شوالٍ سنةَ تِسعٍ وإن أريد ما في سورة البقرة فإنه أيضاً نزل قبل الفتح كما يعرب عنه ما قبله من قوله تعالى: {وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي من مكة وقد فعل ذلك يوم الفتح فكيف يُنسخ به ما ينزِل بعده؟ بل لأن انعقادَ الإجماعِ على انتساخها كافٍ في الباب من غير حاجةٍ إلى كون سندِه منقولاً إلينا. وقد صح أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حاصرَ الطائفَ لعشرٍ بقِين من المحرم {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} من حِلّ وحِرْم {وَخُذُوهُمْ} أي أْسِروهم والأَخيذُ: الأسير {واحصروهم} أي قيّدوهم أو امنعوهم من التقلب في البلاد.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: حِيلوا بينهم وبين المسجدِ الحرام {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي كلَّ ممرٍ ومُجتازٍ يجتازون منه في أسفارهم، وانتصابُه على الظرفية أي ارصُدوهم وارقبُوهم حتى لا يُمرّوا به، وفائدتُه على التفسير الثاني دفعُ احتمالِ أن يُراد بالحصر المحاصرةُ المعهودة.
{فَإِن تَابُواْ} عن الشرك بالإيمان بعد ما اضطُرّوا بما ذكر من القتل والأسر والحصر {وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ} تصديقاً لتوبتهم وإيمانِهم، واكُتفى بذكرهما عن ذكر بقيةِ العبادات لكونهما رأسَي العباداتِ البدنية والمالية {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} فدعوهم وشأنَهم ولا تتعرَّضوا لهم بشيء مما ذكر {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر ويثبتهم بإيمانهم وطاعاتِهم وهو تعليل للأمر بتخلية السبيل.

.تفسير الآيات (6- 7):

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}
{وَإِنْ أَحَدٌ} شروعٌ في بيان حكم المتصدِّين لمبادي التوبة من سماع كلامِ الله تعالى والوقوفِ على شعائر الدين إثرَ بيانِ حُكمِ التائبين عن الكفر والمُصِرِّين عليه وهو مرتفعٌ بشرط مضمرٍ يفسِّره الظاهرُ لا بالابتداء لأن إنْ لا تدخل إلا على الفعل {مّنَ المشركين استجارك} بعد انقضاءِ الأجل المضروبِ أي سألك أن تُؤَمِّنه وتكونَ له جاراً {فَأَجِرْهُ} أي أمِّنه {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} ويتدبرَه ويطّلع على حقيقة ما يدعو إليه. والاقتصارُ على ذكر السماعِ لعدم الحاجةِ إلى شيء آخرَ في الفهم لكونهم من أهل اللسَنِ والفصاحةِ، و{حتى} سواءٌ كانت للغاية أو للتعليل متعلقةٌ بما بعدها لا بقوله تعالى: {استجارك} لأنه يؤدّي إلى إعمال حتى في المضمر وذلك مما لا يكاد يرتكب في غير ضرورةِ الشعر كما في قوله:
فلا والله لا يلفى أناس ** فتىً حتاك يا ابنَ أبي يزيدِ

كذا قيل إلا أن تعلّق الإجارةِ بسماع كلامِ الله تعالى بأحد الوجهين يستلزمُ تعلقَ الاستجارةِ أيضاً بذلك أو بما في معناه من أمور الدينِ، وما رُوي عن عليَ رضي الله عنه أنه أتاه رجلٌ من المشركين فقال: إن أراد الرجلُ منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجلِ لسماع كلامِ الله تعالى أو لحاجة قتل؟ قال: لا لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} إلخ فالمرادُ بما فيه من الحاجة هي الحاجةُ المتعلقةُ بالدين لا ما يعمها وغيرَها من الحاجات الدنيوية كما ينبىء عنه قوله: أن يأتي محمداً، فإن من يأتيه عليه السلام إنما يأتيه للأمور المتعلقةِ بالدين {ثُمَّ أَبْلِغْهُ} بعد استماعِه له إن لم يؤمِنْ {مَأْمَنَهُ} أي مسكنَه الذي يأمَن فيه وهو دارُ قومِه {ذلك} يعنى الأمرَ بالإجارة وإبلاغِ المأمن {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} ما الإسلامُ وما حقيقتُه، أو قومٌ جَهَلةٌ فلابد من إعطاء الأمانِ حتى يفهموا الحقَّ ولا يبقى لهم معذرة أصلاً. {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} شروعٌ في تحقيق حقيقةِ ما سبق من البراءة وأحكامِها المتفرِّعة عليها وتبيينِ الحكمة الداعيةِ إلى ذلك، والمرادُ بالمشركين الناكثون لأن البراءةَ إنما هي في شأنهم، والاستفهامُ إنكاريٌّ لا بمعنى إنكار الواقعِ كما في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} الخ، بل بمعنى إنكار الوقوعِ ويكون من الكون التامِّ وكيف في محل النصب على التشبيه بالحال أو الظرف وقيل: من الكون الناقصِ وكيف خبرُ يكون قُدّم على اسمه وهو عهدٌ لاقتضائه الصدارة، وللمشركين متعلق بمحذوف وقع حالاً من عهد ولو كان مؤخراً لكان صفةً له أو بيكون عند من يجوز عملَ الأفعالِ الناقصة في الظروف، وعند متعلقٌ بمحذوف وقعَ صفةً لعهدٌ أو بنفسه لأنه مصدرٌ أو بيكون كما مر، ويجوزُ أن يكون الخبرُ للمشركين وعند كما ذكر أو متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلق به للمشركين ويجوز أن يكون الخبرُ عند الله، وللمشركين إما تبيينٌ وإما حالٌ من عهدٌ وإما متعلقٌ بيكون أو بالاستقرار الذي تعلق به الخبرُ ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبرِ على الاسم لكونه حرفَ جرّ، وكيف على الوجهين الآخيرين نُصب على التشبيه بالظرف أو الحال كما في صورة الكون التام وهو الأولى لأن في إنكار ثبوتِ العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوتِه للمشركين، لأن ثبوتَه الرابطي فرعُ ثبوتِه العيني فانتفاءُ الأصلِ يوجب انتفاءَ الفرعِ رأساً، وفي توجيه الإنكارِ إلى كيفية ثبوتِ العهدِ من المبالغة ما ليس في توجهه إلى ثبوته لأن كلَّ موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعاً، فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني أي أو في أي حالٍ يوجد لهم عهدٌ معتدٌ به؟ {عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} يستحِقُّ أن يراعى حقوقُه ويُحافَظَ عليه إلى إتمام المدة ولا يُتعرَّضَ لهم بحسَبه قتلاً ولا أخذاً، وأما أن يأمنوا به من عذاب الآخرة كما قيل فلا سبيلَ إلى اعتباره أصلاً إذ لا دخلَ لعهدهم في ذلك الأمنِ قطعاً وإن كان مرعياً عند الله تعالى وعند رسولِه كعهد غيرِ الناكثين، وتكريرُ كلمة عند للإيذان بعدم الاعتدادِ به عند كلَ منهما على حدة {إِلاَّ الذين} استدراكٌ من النفي المفهومِ من الاستفهام المتبادرِ شمولُه لجميع المعاهَدين أي لكون الذين {عاهدتم عِندَ المسجد الحرام} وهم المستثنَوْن فيما سلف، والتعرُّضُ لكون المعاهَدةِ عند المسجدِ الحرامِ لزيادة بيانِ أصحابِها والإشعارِ بسبب وكادتِها، ومحلُّه الرفعُ على الابتداء خبره قوله تعالى: {فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ} والفاءُ لتضمنه معنى الشرط وما إما منصوبةُ المحلِّ على الظرفية فتقديرُ المضافِ أي فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم وإما شرطيةٌ منصوبةُ المحلِّ على الظرفية الزمانية أي أيّ زمانَ استقاموا لكم فاستقيموا لهم، أو مرفوعةٌ على الابتداء والعائدُ محذوفٌ أي أيُّ زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم فيه وقيل: الاستثناءُ متصلٌ محلُّه النصبُ على الأصل أو الجرُّ على البدل من المشركين والمرادُ بهم الجنسُ لا المعهودُ وأياً ما كان فحكمُ الأمر بالاستقامة ينتهي بانتهاء مدةِ العهدِ لأن استقامتَهم التي وُقّت بوقتها الاستقامةُ المأمورُ بها عبارةٌ عن مراعاة حقوقِ العهدِ، وبعد انقضاءِ مدتِه لا عهدٌ ولا استقامةٌ فصار عينَ الأمرِ الواردِ فيما سلف حيث قيل: فأتِمُّوا إليهم عهدَهم إلى مدتهم خلا أنه فد صرّح به هناك مع كونه معتبراً قطعاً وهو تقييدُ الإتمامِ المأمور به ببقائهم على ما كانوا عليه من من الوفاء {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} تعليلٌ للأمر بالاستقامة وإشعارٌ بأن القيامَ بموجب العهدِ من أحكام التقوى كما مر.